الذئاب الحسنيون ...قصة ثلاثة شعراء..اقتنصوا شوارد البديع والأعراض

 

 

يحتل الشاعر ابن المحمود الرتبة الثانية بين الذئاب الحسنيين الذين حملوا هذا الاسم، وملأوا دنيا الأدب وشغلوا الناس في بلاد الشعر والشعراء

الذئاب الحسنيون...قصة التسمية 

ينتمي الشعراء الذئاب إلى قبيلة بني حسن الموريتانية المعروفة بوفرة شعرائها، وجودة إنتاج مبدعيها، وتعلق أبنائها باللغة العربية. 

وأول هؤلاء الذئاب كما يرى  الدكتور محمدو ولد لحظانه، هو الشاعر العالم محمذن بن الأمين بن أبي المختار الحسني، وقد سمي الذئب بسبب قوله:
أصبحت في شغف ادى لتعذيبي
لانوم عندي إلا نومة الذيب
أراقب الناس من خلفي ومن قبلي
ومن إزائي كالموقوف في 'هيب'.

ويقدر أن هذا الشاعر قد توفي حدود 1229 هجرية عن عمر زاد على القرن، مما يجعله من الرعيل الأول من الشعراء الموريتانيين، ومن عيون قصائده الشهيرة قصيدة في مدح إمارة أولاد امبارك الموريتانية التي حكمت أنحاء واسعة من موريتانيا ومن مالي خلال القرنين السابع والثامن عشر الميلادي.

ومن قصائده الذائعة قوله:

أبـانـت أم أبينت مـن جـمـال

وحاد بها الحداة إلى الضلال

جــمـال غـادرت هـضـب الحـبـارى

قـبـيـل الصـبـح مـسلوب الجمال

عــلتــهــا كــل نــاعــمـة عـروب

مــفــصّــمَـةِ الدمـالج والحـجـال

ومــحــصـنَـةٍ تُـرى ضـوء وجـيـداً

وعــيــنـا كـالغـزالة والغـزال

تــريــك إذا تــثَـنّـت خـوطَ بـان

يـجـاذب عـانـكـا مـن رمـل عـال

بـــأنـــمــاط عــتــاق فــاخــرات

أنـــالتـــهُـــنّ أثـــمــانٌ غــوال

فـراقـبـتُ الجـمـال ومـن عليها

لدن زالت بـــهـــن إلى الزوال

يـخـضـن بـهـا بـحور الآل خوضا

فــهــن سـفـيـنـهـا وهـي اللآلي

ســلكــن السـيـل لا مـتـريـثـات

حــذارا مــن مـعـالجـة الرمـال

وقـد جـعـلت تـدير السيل عنها

يـمـيـنـا والنفود إلى الشمال

فــدافَــعَهـا مـن الجـوزاءِ جـون

تــصــوم تــلاعــه سـدف الليـال

طــوت ن نـشـره لقَـحـا عـراضـاً

كـسـرّ الغـمـر أو سَـرَرِ الهـلال

وقد ضاع أغلب شعر هذا الرجل، كما نسب بعضه إلى الذئبين الأخيرين من بعده، وهما من نفس أسرته أيضا.

الذئب الثاني ..شاعر الأنبياء وفاتك الشعراء

حمل الشاعر المختار بن المحمود أيضا لقب الذئب الثاني، ويبدو أن هذا اللقب جاءه عرضا من خلال تشبيهه بالشاعر السابق، حيث ينتميان إلى نفس الأسرة والقبيلة، ويعتبران أيضا من الرعيل الأول من شعرائها، ويقدر مؤرخون أن يكون هذا الشاعر قد توفي في حدود 1198 هجرية.
وقد خاض تجارب هجائية وترك نصوصا شعرية كثيرة ضاع أكثرها أيضا ومن قصائده المشهورة قوله:
شأنُ المحبين ان يبكوا وان يقفوا

بين المنازل فابكوا بينها وقفوا

ما في البكاء بها عار ولا سرفٌ

بل البكاء على غير الهوى سرف

فاستجهلوني ولاموني وعذلُهُم

ما كان يلوى عليه مغرم دنفٌ

فقلت خلوا سبيلي لا أبا لكم

انى وإن لامني من لام معتكف

إن لم تكن عبراتُ العين واكفةً

فيها ففي أي دار بعدها تكف

فظلت في عرصاتِ الدور اندبُها

والركب منها معي باق ومنصرف

والعين ما برحت من فيض عبرتها

إنسانها يختفى طورا وينكشف

في رسم دار عفتها كلّ سارية

يعتادُ مؤتلف منها ومختلف

تبدى بقايا رسوم في العراص كما

تبدى علامة وحى الكاتب الصحف

والنؤى لم يبد من مطموسهِ أثرٌ

للعينِ إلّا هلالٌ منه ينقلف

عهدي بها تتهادى في جوانبها

بيضٌ نواعمُ في أشفارِها وطَف

تمشى أسيماء فيها مشى خاذلة

كدرة بان عن مكنونها الصدف

هيفاءُ ملء البرى للدرع مالئَةٌ

يا نعم من فوقهُ من درعها طرفُ

تصمى القلوب بسهمى لحظها عرَضاً

إنّ القلوبَ لسهمي لحظها هدف

لا الدمع يهمي بذكرى غيرها كلفاً

ولا الفؤاد بذكرى غيرها كلف

فأصبحت بعد عين الانس آهلة

بكلّ وحشيّةٍ في إطلِها هيف

الذئب الصغير... عبقري المديح والهجاء

يعرف الشاعر أحمد بن عبد الله بالذئب الصغير، وهو الأشهر من بين الذئاب والأكثر شراسة في هجائياته، وقد كان متقشفا ينتقل بين الأحياء البدوية في أرضه دون أن يثير الاهتمام، ومع ذلك كانت قوارصه الهجائية مثار خوف شديد، خصوصا أنه كان يكثر من هجاء من يرى أنهم قصروا في إكرام الضيف.
وقد خط لنفسه منهجا لهذا الهجاء، معتبرا أن على الناس أن يصونوا أعراضهم، وللذئاب أن يأكلوا الأعراض القاصية وغير المحمية، كما يأكل الذئب قاصية الغنم

ياقوم لا تتركوا اعراضكم هملا
فالذيب يعرض للأعراض إن جاعا
نحن الذئاب حبانا المصطفى رخصا
انا لنا ما اختلسنا، والذي ضاعا.

وقد جمع ديوان الشاعر الذئب الحسني في رسالة جامعية لأحد الطلاب الموريتانيين دون أن ينشر لحد الآن بشكل كامل، ربما بسبب ما تضمنه من هجائيات لبعض الأفراد والمجموعات القبلية.
ويمتاز أسلوب الذئب الصغير بالرقة في نسيبه وغزله، وبالعدوانية، ومن نصوصه الذائعة التي يصف فيها منازل قومه ويتغزل بمحبوبته "مرَيَّم" التي يكنيها ضباع في مطلق قصيدته
تضيف من ضُباع بذي الضباع
خيالٌ ما يريد سوى ارتياعي
بمنصدع الصباح فصد عنا
وصبح الوجد آذن بانصداع
بت قيد الذراع فقلدتنا
هوى بين المقلد والذراع
جويرية الغرام الا تراني
أراعيها ولست لها براع
كلفت بها على كبرى قديما
ولم تبلغ إذا سنتي رضاع
وقد حلت مقنعةً بقلب
تقاصر عنه ربات القناع
مرَيّمُ هل لوصلك من مرام
وهل للقطع منك من انقطاع
سقت مغنى مرَيّم حنتمات
هيادب لا تغب من الذراع
وروى ذا السيالة حيث كنتم
على وهد ونحن على يفاع
وإذ نلقاك واردة فتبدي
نفار الظبي آنس صوت داع
ليالي لا أنوّلُ منك وصلا
ولا اللاحي بحبك غير واع
ليالي ادّريك ويدريني
خيال منك يؤنسه التياعي

ومن غزلياته الشهيرة 
بيني و بينك قاض الحب ما عدلا 
 شرع الهوى لم تزل في جهله العقلا 
فميته هدر في كل شرعته 
 إن القضاة التي تقضي بذا جهلا
شهودهم عبرات تنهمي و أسى 
 ملء الحشى و جوى لم يعد أن نزلا 
تلك الشهود التي لم يرضها حكم 
 بين الأنام و لم يقطع بها جدلا 
في ذمة الله قلب قد تقنصه –
أصيبح اللون يأوى ربربا هملا 
يحكي السلافة ريقا من عذوبته 
 يحكي العذوبة لينا أينما انفتلا
يا أملح الناس دلا في تدلله 
 يا أعذب الناس وصلا حيثما وصلا

وغالبا ما يبدأ الذئب الصغير قصائده بمقدمات طللية وغزلية رائعة قبل أن يخلص إلى هجائيات أو مدائح أو فخر، وقد اشتهرت قصيدته الواوية التي هاجى بها أحد كبار الشعراء والعلماء في عصره، ومثلت مقدمتها نصا حواريا غزليا من أروع النصوص الأدبية في ديوان الذئب الصغير

أهاجكَ بالألوَى معاهدُ من أروى        بذي الرَّمْلِ أو ذي العبدِ ألوتْ بها الأنوا

وليلةِ برقٍ بات يَشري وملعبٍ
لقيتُ به - والليلُ منسدلٌ - أروى

تقول: ترى هذا البريقَ الذي شرى
أأروى بذي النَّفعين؟ قلتُ لها: أروى

فقالت: أتدري كيف حالُ ربوعنا؟
أألوى بها الدلويُّ؟ قلتُ: لها: ألوى

فقالت: ويومُ البينِ بالوصل بيننا
أأشْواكَ وَشكُ البينِ؟ قلتُ لها: أَشْوى

فقلتُ: وأهواكم على طول بُخلكم
فقالت: أتهوانا؟ فقلت لها: أهوَى

فقالت: ومغنانا بمنعرَج اللوى
أأقوى خلافَ العهدِ؟ قلتُ لها: أقوى

فقالت: وما ألوى بصبركَ يومَنا
غداةَ بذي الألواءِ؟ قلتُ لها: الألوا

فقالت: ويومَ البينِ حنيةَ ذي النقى
أأشواكَ بيني عنكَ؟ قلتُ لها: أشوى

أذاكرةٌ أيامَ نحن وأنتمُ
بعدوته الدّنيا وعدوته القصوى؟

فقلتُ لها: قد قلتُ فيكِ قصائدًا
فقالت: أيُروى ذاك؟ قلت لها: يُروى

فقلتُ: أيُرجى منكِ موقفُ ساعةٍ؟
فقالت: أنجوى ذاك؟ قلتُ لها: نجوى

فقالت: فلا تعجلْ، فتنشرَ سِرَّنا
إلى الليل إذ سرُّ الصُّباةِ به يُطوى

فما راعها إلا تَوجُّسُ زفرةٍ
كزفرة ثكلى آخرَ الليلِ أو أقوى

فقالت: مُجِدٌّ؟ أنتَ تعلم أننا
معاشرُ حوّاتِ اللَّمى عهدُنا يُلوى

فقلتُ: صِليني: قالت: اَعرفُ، وانبرتْ
كما ماس خُوطُ البانِ: مُسْتَنِمًا رَبْوَا

وقد ظل الذئب الصغير لسانا شعريا ذربا لا يخرج من هجائية إلا ليدخل في أخرى مفتخرا بثقافته وقدرته، وتميزه الأدبي ومن ذلك قوله عن قبيلته:
ونحن العرب من بين الزوايا
ونحن أشمها في المجد باعا
لنا العربية الفصحى وإنا
أعم العالمين بها انتفاعا

فمُرْضَعنا الصغير بها يناغي
ومُرضِعه تكوره قناعا
فنأخذها من الكتب اعتمادا
بما فيها ونأخذها ارتضاعا

ومن طرائف الذئب الصغير أنه نزل ضيفا على أسرة في البادية، فلم تكرمه والدته، فترك عندها رسالة موجهة إلى زوجها يقترح عليه طلاق زوجته
إن امرؤا في ذرى العلياء منزله
وخاطف المجد بين الناس يخطفه
ما إن تليق به إلا مخدرة 
في صونه العرض مهما غاب تخلفه
فالرأي عندي أن يهدي لزوجته
هدية من طلاق فهي مصرفه
وقد سلمت المرأة الرسالة إلى زوجها ونفذ مضمونها بسرعة.
ومرة أخرى نزل هذا الشاعر المتقشف على رجل آخر، فلم يكرمه بل أهانه، فكتب له على لوح هذه الأبيات:
أدام نعمتك المولى وخلدها "" غاظتك ولجة ضيف ما تعمدها
وافاك من بعد ما قد بات معتسفا"" يرمي به فدفد الموماة فدفدها 
وافى وسلم لم تعبأ بزورته """ وقال لفظة تسليم ورددها 
فضقت ذرعا به حتى هممت به "" إن المقادير لا يلوي يدٌ يدَها 
وبات فى ليلة ليلاء منكشفا "" لله ما كان أنداها وأبردها 
إن البشاشة للأضياف مذ زمن "" ماتت برحمته المولى تغمدها.

وقد شاعت هذه الأبيات والقصص المتداولة حولها، وزادت من رهبة الناس للذيب وخوفه من لسانه المقذع، وذات مرة نزل ضيفا على أمير ذي جاه ومكانة، فقدم له جملا ذلولا مملوكا لزوجته ثم أهدت زوجة الأمير للشاعر أيضا راحلة مزركشة كان يحتفظ بها الأمير  لنفسه، وعندما عاتبها الأمير قائلا: لماذا أعطيت هذا الشاعر راحلتي أجابته: لقد خشيت أن يقول لي "مصرفها" ولكن لماذا أعطيته أنت جملي فأجابها الأمير: لقد خشيت أيضا يقول لي "فدفدها"