القرامطة الجدد.. والثأر الروحي/ أحمد فال الدين

فلا عَبَرتْ بِي ساعةٌ لا تُعِزُّني * ولا صحِبتْني مُهجةٌ تقبلُ الظلما!

قبل مائة عام، أَسر أميرٌ أوزبكيٌ ضابطًا بريطانيًا يدعى آرثر كونولي. كان الضابط الشاب يعمل لمنع التمدد الروسي بمنطقة آسيا الصغرى لصالح بريطانيا. كان طموحًا مؤمنًا بأنه يستطيع اللعب بمصائر الأمم دون وصول النيران إلى أصابعه.

اعتقله الأمير الأفغاني – أثناء مغامراته تلك- ورماه في بئر مليءٍ بالقوارض شهريْن، ثم أخرج ما تبقى من جثته وضرب عنقَه. فُتّشت مذكرات المغامر الأوروبي فوجدوه سكَّ مصطلحَ “اللعبة الكبرى” (The Great Game) إشارةً إلى الصراع على بلاد المسلمين بين القوى الكبرى مطلعَ القرن العشرين. وكان من ملامح تلك اللعبة الكبرى أمران: الاستهتار الأخلاقي للاعبين بتحويل الحروب والإبادات إلى ألعاب مسلية، وتوظيفُ الدين للسيطرة على تلك الشعوب. وهذان الملمحان بارزان الآن في سلوك أصحاب اللعبة الكبرى ووكلائهم الجدد.

المندوب الإنجليزي إلى الهند جورج كورزون

كتب المندوب الإنكليزي إلى الهند يومها جورج كورزون في كتابه “فارس والمسألة الفارسية”، قائلًا: “إن تركمنستان، وأفغانستان، وما وراء بحر قزوين وبلاد فارس -وهذه أسماء لا توحي لكثيرين إلا بالبعد المطلق والرومانسيات المحتضرة- أعترف أنها بالنسبة لي بيادق على رقعة شطرنج، واللعبةُ التي تدور على هذه الرقعة هي لعبة السيطرة على العالم”.1

يعترف المغامر البريطاني الآخر في هذا النص أن ملايين الشعوب في هذه المنطقة لا تعني له غير ما تعنيه الدمى الخشبية؛ فموتُها موت افتراضي وحياتها حياة افتراضية، وما هي إلا ساحة للإمتاع والمؤانسة وإثارة مشاعر الأوروبي الطامح لتحقيق ذاته في ريعان شبابه.

يروي الثقاةُ -أيامَ الناس هذه- أن بعض الأمراء والملوك الخليجيين المهووسين بوأْد ثورات الحرية والشورى، يفتخرون في مجالسهم الخاصة باللعب بمصائر العرب. بل يصرحون بالاستمتاع بما قاموا به من مذابح وما أشعلوا من حرائق في دول ربيع العرب. وهم بهذا خلفٌ لذلك السلف؛ سعداء بتكدّس عشرات آلاف الأحرار في سجون السيسي، وانفراط عقد اليمن، وفشل الثورة الليبية وتحويلها إلى مجال نفوذ لهم بواسطة أمير الحرب خليفة حفتر.

لقد استدار الزمان كهيئته قبل مائة عام، وها هي “اللعبة الكبرى” تُستأنف من لاعبين تختلف ملامحهم هذه المرة، وإنْ اتفقوا في محاولة السيطرة على هذه البلاد باعتبارها منطقة مركزية في المسيرة المادية والروحية للبشرية، حتى في لحظات تعاستها.

لقد كانت المنطقة يومئذٍ مكشوفة استيراتيجيًا بسبب تضعضع الدولة العثمانية، وكان لُعاب الدول الكبرى يسيل للسيطرة على منابع النفط ومراقدِ الإشعاع الروحي. وكان الشبان الأوروبيون العطشى للنفوذ يلعبون مستمتعين أشد استمتاع، ولا يكادون يفكرون في أن عبثهم ينعكس على أرواح بريئة، وبشر من لحم ودم. والجديد بمنطقتنا اليوم هو بروز ساسة محليين يحاولون تولي تلك الأوهام الإمبراطورية نيابة عن اللاعبين الكبار، بعد عصر اندحار الاستعمار المباشر.

 

إخضاع الدين بترويض النخبة

تنطلق الفكرة التي يتبنى الأغنياء الأغبياء وظهيرهم الغربي من كون الإسلام أهمّ عنصر من عناصر القوة والممانعة داخل أحشاء المجتمع المسلم، وأنَّ من يتحكم في “رجال الدين” يتحكم في البلاد الإسلامية بشرًا وحجرًا.

كتاب سلام ما بعده سلام، لـ دافيد فرومكين

ولذا لا جَرَمَ أنْ جزمَ المؤرخ الأميركي دافيد فرومكين أن مناديب الاستعمار “اعتقدوا اعتقادًا خاطئًا أنّ من يسيطر على النخبة أو القادة يسيطر على روح الإسلام، وقاسوا قصة استطاعة “كورتز السيطرة على المكسيك عن طريق القبض على إمبراطور الآزتك (….) واستمالتهم الفكرة القائلة إن من يسيطر على رأس الخليفة يسيطر على الإسلام.”2

وهكذا تتأسس “اللعبة الكبرى” الجديدة على إخضاع النخبة الدينية في العالم العربي لكون ذلك كفيل بإخضاع بقية الناس. وهي نفس الفكرة التي تبناها اللورد كيتشنر قبل مائة عام. لقد كان كيتشنر –المندوب البريطاني بالمنطقة- يؤمن بأن الإسلام نسخة من الكاثوليكية، وتمكن السيطرة عليه من خلال إخضاع البابا –أي الخليفة. فإذا ما تسنى لبريطانيا أن تصنع خليفة تابعًا لها – الشريف حسين- ستسيطر آليًا على عقول المسلمين في أرجاء الأرض. غير أن وقائع الأيام وشهادات المؤرخين جاءت لتسخر من الفكرة لاحقًا. فالإسلام فكرةٌ صلبة لها وجود ذاتي، وإيمان بين جوانح المؤمنين، لا رجل معمم يَخضعُ فيخضعَ المسلمون.

اللورد كيتشنر

ينطلق أعداء التحرر المحليين والدوليين إذن من فكرة صائبة ليصلوا بها إلى هدف خاطئ. وهي أن الإسلام محوري في المنطقة ولا يمكن حصول أي تحول مرجو إلا به. فهو الحمض النووي للشخصية العربية والحافظ لطاقاتها، والمحرك لوثباتها التاريخية الكبرى.

ولذا “كان كيتشنر -شأنه شأن معظم البريطانيين الذين عاشوا في الشرق- يعتقد أن الدين في العالم الإسلامي مسؤول عن كل شيء” كما يقول فرومكين 3 مصداقًا لفكرة ابن خلدون في “أن العرب لا يحصل لهم الملك إلا بصبغة دينية من نبوة أو ولاية أو أثر عظيم من الدين على الجملة.” 4 .

لقد كانت سياسة بريطانيا –مطلع القرن العشرين- راكزةً على مساندة الأنظمة المحلية بمنطقة الخليج وآسيا حتى لا تقع في قبضة الروس، أما اليوم فيساند الغربُ المشيخات الخليجية حتى لا تقع في قبضة شعوبها. فالهاجس الذي تعلمته هذه القوى الكبرى هو الحذر من تملك الشعوب أمر نفسها ليقينها بأنها ستصبح منافسًا حضاريًا واقتصاديًا يحسب له حساب.

يسعى أولئك الأمراء، إذن، لقلب قيم الإسلام وتحويلها من قيم ثورية دافعة للاستخلاف والاستعمار، إلى مجرد إديولوجيًا لعبادة القوة والمستبدين. وقد سخروا لهذا المسعى مظلات كثيرة تتسع من “مؤمنون بلا حدود”، إلى شيوخ التدين الضريحي، إلى دواعش اللبرالية المسكونين بالحرية الجسدية المفصولة عن أختها السياسية. 

إن المسعى الذي يسعى إليه هؤلاء من قلب لقيم الإسلام من داخلها يشبه ما قام به اليهود في تاريخ المسيحية حسب الفيلسوف الألماني نيتشه. يقول: “اليهود: هذا الشعب الكهنوتي الذي لم يظفر في آخر المطاف بشيء يرضيه ضد أعدائه إلا من خلال قلب جذري لقيمهم، وذلك من خلال عملية ثأرٍ هي الأكثر روحانية”. 5

غير أن الفارق هو أن جهود هؤلاء ستبور، فليست هذه المحاولة الأولى في التاريخ لقلب قيم الإسلام. فقد حاولت عشرات الفرق الباطنية من قبل وفشلوا. وسيفشل القرامطة الجدد في محاولاتهم الجديدة للثأر روحيًا هذه المرة. 

 

____________

 

 

جوروج كورزون، المسألة الفارسية، ص 3-4، باللغة الإنكليزية

دافيد فرومكين، سلام ما بعده سلام ، ص 107-108

دافيد فرومكين، سلام ما بعده سلام ، ص 107

مقدمة ابن خلدون، ص 189

فريدريك نيتشه، جينالوجيا الأخلاق، ص 55