الشيخ سيدي المختار الكنتي ...إمام القادرية وشيخ الإصلاح في منطقة الساحل/ إعداد موقع الفكر

لا يعرف في بلاد الغرب الإسلامي ولا في منطقة الساحل بشكل عام، علم وإمام أكثر شهرة وتأثيرا من الشيخ سيدي المختار الكنتي الذي طبقت شهرته الآفاق وحمل ذريته وأحفاده وتلاميذه من بعده لواء العلم والتربية والجهاد والأنفة السامية، فكانوا أينما حلوا أقمار دعوة وشهب إيمان، ومعالم فتوة وتربية وقيم سامية.
ويرتقي نسب الشيخ سيدي المختار الكنتي إلى الصحابي الجليل عقبة بن نافع الفهري، وهو سليل الشيخ سيدي أحمد البكاي رائد الإصلاح وإمام التربية الذي فتح الله به قلوب الناس في أقصى الشرق الموريتاني وكان وصوله إلى الفضاء الساحلي بداية تغير كبير في العادات والقيم والتقاليد وإطلاقا لمسار واسع من طلب العلم والعمل به ونشره.
وقد كان والده أحمد بن أبي بكر بن محمد بن حبيب الله بن الوافي بن الشيخ سيدي أعمر بن الشيخ سيدي أحمد البكاي عالما جليلا ومربيا، أما والدته فهي سيدة فضل وصلاح تدعى مباركة بنت سيدي عبد القادر.
وقد تنسم الشيخ سيدي المختار عبق الحياة الأول في مدينة أكتيب أغال بأزواد سنة 1727، وتوفي في 29 مايو 1811 م عن عمر يناهز 84 عاما، وقد دفن بالأنوار.
وقد تربي في بيت صوفي ينشر إشعاعه العلمي والتربوي في عموم أزواد والشرق الموريتاني وضفاف نهر النيجر.

وقد بدأ الشيخ سيدي المختار طلب العلم والرحلة له في الثالثة عشر من عمره، وانطلق في رحلة استمرت عدة سنين عرف فيها بتوقد الذكاء وعلو الهمة، وذلك بعد إشارات وتحفيزات متعددة من جده الشيخ عبد القادر الذي كان يقول عن حفيده “ماذا من العجب في هذا الرأس … السعيد كل السعيد من أدرك أيام هذا، ولا أظنني مدركها، فمن أدركها منكم فليمسك بغرزه"
وقد بدأ الشيخ سيدي المختار رحلته العلمية على يد العالم سيدي أحمد بن سيدي عبد الله بن المختار المجذوب، ثم انتقل إلى عمام الكلحمري وأخذ عليه معارف واسعة، وكان يكتب سبعة ألواح في سبعة فنون كل يوم وعن تلك الفترة كان يحدث فيقول" “فإذا رجعت أرباب الدروس الموافقة لدرسي أمليت عليهم جميع ما أملى علي المقرئ في الدرس حتى يأخذ الجميع عني جميع ذلك، ثم أشارك أهل الدروس الخارجة بقدر ما حضرت من دروسهم”
ويظهر الأمر ذكاء الرجل وعلو همته، كما يظهر أنه كان يعمل وفق خطة تحصيل علمي تستغل الوقت وتستفيد غاية الإفادة
ومن بعد الشيخ عمام الكلحمري انتقل إلى تمبكتو التي وجدها في حالة جفاف وتصحر معرفي،  فنزل في بيت تاجر يدعى “ناصية الكويهني” الذي أسكنه بيته ومكنه ما بين يديه من الكتب وأقام على مطالعتها فترة قبل أن يتيسر له السفر إلى الشيخ سيدي علي بن النجيب البربوشي الذي أخذ عليه السند القادري وأدرجه في سلك القوم، وصدره في التربية التصوفية، وبذلك عاد السند القادري الكنتي مجددا إلى الأسرة البكائية 
وقد عرف الشيخ سيدي المختار الكنتي للتصوف قدره، فرآه السقف العالي للإسلام والرتبة السامية لأهل الخير فكان يكتب عن السيد الصوفي أنه “أ هو العروة الوثقى للعلماء، والصلة المتصلة الموصلة بمددها الأولياء، اتخذه العلماء مغنما، والأولياء سُلّما حتى قالوا، من انقطع به السبب لم يتصل به النسب. وقال صلى الله عليه وسلم: كل سبب ونسب ينقطع إلا سببي ونسبي”
وتتضمن سلسلة سند الشيخ سيدي المختار الكنتي أعلاما أجلاء من كبار علماء المسلمين، فقد أخذ السند عن شيخه علي بن النجيب التكروري عن شيخه محمد الأمين بن عمر ذي النقاب عن شيخه أحمد الخليفة بن عمر الرقاد عن علي بن أحمد بن الرقاد عن شيخه أحمد بن محمد الرقاد عن شيخه أحمد الفيرم عن شيخه سيدي اعمر الشيخ عن شيخه محمد بن عبد الكريم المغيلي عن عبد الرحمن السيوطي عن شيخه عبد الرحمن الثعالبي عن شيخه أبي بكر بن العربي عن شيخه محمد بن أبي بكر التجيبي عن شيخه أبي موسى ناصر الدين المشدالي عن شيخه أبي حامد الغزالي عن شيخه أبي الحسن الشاذلي عن شيخه عبد السلام بن مشيش عن شيخه محيي الدين بن عربي الحاتمي عن شيخه صفاء الدين ين نجيب السهروردي عن شيخه علي بن هيثا عن شيخه عبد القادر.

العالم القدوة.. سطوة العلم وسلطان الإمامة
كان للشيخ سيدي المختار هيبة ومكانة في منطقة أزواد بشكل عام، فكان يحمي وتأوي إليه أفواج القبائل والفئات، بل كان يقيل الحكام والأمراء والقادة في منطقة أزواد، ويقيم الشأن العام ويدير العلاقات، وكان مهيبا إلى أقصى درجة، وقد انتقلت إليه وفود الطلاب والمريدين من كل حدب وصوب، وأقام أكثر 27 سنة في التربية والتعليم، وأخذ من بعده أبناؤه وأحفاده تراثه الثري ومنهجه القوي
وقد كثرت هذه الميزات في تراجم الشيخ سيدي المختار ومن ذلك قول صاحب فتح الشكور" “الولي الصالح، ذو البركات الشهيرات، وشيخ الأشياخ السادات، من ظهرت بركاته شرقا وغربا، ومناقبه في الناس عجما وعربا، ساقي المريد، وعمدة أهل التوحيد، شيخ المحققين، ومربي السالكين، أبو المواهب السنية، صاحب الأخلاق المرضية، ذو الكرامات الظاهرة، السيد الأسنى والذخيرة الحسنى، الشيخ سيدي المختار بن أحمد بن أبي بكر الكنتي ثم الوافي رحمهم الله تعالى. كان رحمه الله تعالى وليا عابدا زاهدا، يأتيه المريدون من كل فج ومكان"
ويصف العالم محمدو بن حنبل الشيخ سيدي المختار بأنه الخضم الخضرم، وذلك في سياق مدحه للشيخ سيديا
ما زال يقحمها المفاوز ماضيا :: كالعضب يوم تصاول الأقران
حتى أناخ إلى خضم خضرم :: رحب الشرائع واسع الأعطان
طاهي القوارب قاذف أرجاؤه :: بالدر والياقوت والمرجان
فسقاه كأس المالكية مزجت :: بالقادرية سره المصطان
فأتيتَ إذ جاريتَ في ميدانها :: حلباتها مستولي الميدان
متوددا في مثل هيبة ضيغم :: متواضعا في زي ذي سلطان
وقد أثمرت جهود الشيخ سيدي المختار الكنتي وأبناؤه وأحفاده من بعده نشاطا عمرانيا وفكرا سياسيا عميقا، حيث نجد أن تلاميذه أقاموا مدنا عامرة مثل تيندوف في الجزائر، وبوتلميت وبير أم اكرين والنعمة في موريتانيا، وأقام تلاميذه مملكة سيكوتو في نيجريا وقادوا الجهاد السياسي العلمي في مقاومة الوثنية والاستعمار، وما ذلك إلا أن الجهاد والشأن العام كان دائما مرتكزا أساسيا من مرتكزات الطريقة القادرية

وقد أخذ عن الشيخ سيدي المختار الكنتي عدد كبير من أعيان العلماء الأجلاء منهم على سبيل المثال

ابنه الشيخ سيدي محمد بن الشيخ سيدي المختار 

ـ الشيخ سيديا بن المختار بن الهيبة الايبيري 
ـ الشيخ القاضي بن الحاج الفغ الايجيجبي 
ـ الشيخ أحمدو بن اعويس 
- الشيخ الحاج عثمان دان فويدو
ـ الشيخ بن آمني المجلسي الزينبي 
ـ الشيخ باب يحي بن محمود بن الشيخ عمر لبدوكلي 
ـ الشيخ المختار السباعي اليدموسي 
ـ الشيخ المصطف بن العربي الإيبيري 
ـ الشيخ محمد الامين بن عبد الوهاب القلقمي
وغيرهم كثير

وقد ترك الشيخ سيدي المختار الكنتي مؤلفات ناهزت الثلاثمئة وربما يكون قد ضاع منها كثير في رحلات أهل البوادي ومن أشهر مؤلفاته
هداية الطلاب وشرحه فتح الواهاب 
ـ فقه الأعيان 
ـ الرشاد على الفقه 
ـ المنة في اعتقاد آهل السنة 
ـ الممزوج بين الشريعة والحقيقة 
ـ الأجوبة الإبانية 
ـ الأجوبة المهمة 
ـ كشف النقاب عن فاتحة الكتاب 
ـ بلوغ الوسع في شرح الآيات التسع 
ـ الشموس الأحمدية في العقائد الأحدية 
ـ تفسير البسملة 
ـ يتيمة اللآلي في الرد على علماء تمبيالي 
ـ البرد الموشي في قطع المطامع والرشى (جزءان) 
ـ الجرأة الصافية والنصيحة الكافية 
ـ زوال الإلباس في طرد الشيطان الخناس 
ـ نزهة الراوي وبغية الحاوي في التوحيد (جزءان) 
ـ إمطار الذهب في كل فن منتخب (التصوف والتاريخ والأدب 3 اجزاء) 
ـ كشف اللبس فيما بين الروح والنفس في التوحيد والتصوف 
ـ نصيحة المنصف المبصر المنعطف 
ـ نفح الطيب في الصلاة على النبي الحبيب 
ـ الروض الخصيب في شرح نفح الطيب 
ـ جذوة نورانية تبين للسالك ما يعرض له مما هو رباني وشيطاني
ـ الرسالة في التصوف 
ـ جنة المريد 
ـ جذوة الأنوار في الذب عن مناقب أولياء الأخيار 
ـ الكوكب الوقاد في فضل المشايخ والأوراد 
ـ ألفية في اللغة العربية 
ـ فاتح إفريقيا قبائلها وملوكها 
ـ فتح الودود في شرح تحفة المودود على المقصور والممدود 
ـ العلم النافع 
ـ التذييل الجليل للصارم للمثيل 
ـ الذهب الإبريز على القرآن الكريم 
ـ كتاب التعارف في أخبار أهل الزمان 
ـ كشف الغمة 
ـ الأجوبة اللدنية 
ـ لطائف القدسي في فضائل آية الكرسي 
ـ الألباب في الأنساب 
ـ القصيدة الفيضية في التصوف 
ـ فوائد نورانية وفرائد رحمانية (شرح الاسم الأعظم)
وقد كان الشيخ سيدي المختار إلى علمه الموسوعي شاعرا كبيرا، ومن عيون قصائده قوله في وصف الجنة وتحفيز المريدين إليها:
أيقظ جفونك إن القلب وسنان == وصمم الغزم إن العزم كسلان
وحن شوقا إلى أخراك مبتدرا == إن اللبيب إلى أخراه حنان
واعمل لدار بها اللذات قاطبة == راح وروح وراحات وريحان
ظل وماء وأزهار مفتقة == عن الكمائم أشكال وألوان
قيعان مسك بها الأنهار جارية == خمر وماء وماذيٌّ وألبان
في جنة من نضار راق منظرها == ترابها المسك والجدران عقيان
بها المقاصير والخيمات عالية == من اللئالي وفيها الحور سكان
بيض نواعم أبكار منعمة == تحار فيهن ألباب وأذهان
يرفلن في سندس الفردوس في حلل == من فوقها حلل من تحتها بان
سورن من حلي دار الخلد أسورة == فيهن در وياقوت ومرجان
في مثل ذاك فنافس كل ذي ورع == وجاهد النفس إن النفس شيطان
مهورهن صلاح دائم وتقى == زهد وصبر وإخلاص وإيمان
لا تحسب النظم أقوالا ملفقة == كل يصدقه نص وقرآن
واختر لنفسك ما تبغيه من بدل == وزن بعقلك إن العقل ميزان

ومن عيون الشعر الخالدة قول الشيخ سيديا يرثي الشيخ سيدي المختار وزوجته:
جادت سحائب رأفة الرحمن = بهوامل التكريم والرضوان
وبوصف محض الود والزلفى على = جدثين حل حشاهما الشيخان
جدثين غُيّب فيهما إذ غيّبا = من غيب القمران والملوان
ملوية تمييز نسبة ظرفها = قمرية مجلاتها بشران
لهما عنا وجه العلوم وحكّما = بسواهما من سار الأكوان
جعلا ليسكن في ذمامهما الورى = بظلال عافية وحرز أمان
وليبتغوا بهما على ما أبصرا = وتبلجا من فضل ذي الاحسان
وليهتدوا بهما لنهج حقيقة = عفيت معالمهُ من البطلان
وليجتنوا رطب المعارف والتقى = من عذق حالهما الجنى الدّاني
لاحا وأحلاكُ الجهالة فحمة = وملابس البدع الجداد مثان
والجورُ يسطو بالعدالة سطوة = متجلجلا منها صفا ثهلاني
والدين منهدم القواعد مركسٌ = بأخامص الطغيان والعصيان
فمحا شروقهما دياجر جهل من = جنحوا إلى التسليم والإذعان
وبدت بصبح هداهما ونداهما = شمس الهدى ببصائر العميان
فتحققوا بعد العمى بحقائق الإيمان والإسلام والإحسان
وتحكمت بهما على الجور العدالة في البلاد تحكم السلطان
وتتابعت منن الكريم ومزّقت = حللَ الحوادث راحةُ البرهان
وغدا منار الدين بعد تهدم = ثبت الأساس مشيد الأركان
وتطاولت سنن الرسول تطاولا = وتضاءلت بدع اللعين العاني
وتساجلت أطيار خير طريقة = بترَنّم طربا على الأفنان
وتطارد البحران بحر حقيقة = وشريعة في مجمع البحران
وتلاطم الأمواج فيه تلاطما = وتقاذفت بالدر والمرجان
فنفائس العلم النفيس تقلدت = منها الرواة قلائد العقيان
وتمتعت منها القلوب تمتعا = وبها تشنف عاطل الأركان
وتضمنت منها الصحائف زبدةً = أخاذة بمجامع الأذهان
فهما وإن منحا من السلطان ما = لم يؤت سلطان من السلطان
قدما على الرب الكريم ولم يكن = لهما إلى الفاني التفات ثان
بل سلما للمشتري نفسيهما = وتفانيا في الحب أي تفان
وتكفلا بحقوقه مما به = وبغيره من سائر العبدان
لم يبرحا آناء ليلهما وأطرا ف النهار كذاك يبتدران
حتى إذا ما الحق ردّهما إلى = ما تشتهي العينان والأذنان
ألقى بأعباء الخلافة كلها = وعتادها ولوائها المزدان
لوحيد قطر ما يقدّرُ قدره = وفريد عصر ما له من ثان
فأحال عيبة سره في سره = وألاح فيه شوارق العنوان..