ما الذي وقع اليوم في قصر العدل؟ / د.محمد عبد الله بن احبيب

ما الذي وقع اليوم في قصر العدل؟

1. أحالت شرطة الجرائم الاقتصادية ملفات قرابة 30 شخصا من المشمولين في ملف التحقيق البرلماني.
2. بعد مثولهم أمام النيابة العامة أحالت ملفات بعضهم إلى قاضي التحقيق، مطالبة بالرقابة القضائية في حق مجموعة منهم.
3. حفظت الدعوى في حق البقية، معللة ذلك بأمور منها:
- عدم كفاية الأدلة.
- غياب العنصر الجزائي في بعض الوقائع.
- عدم ملاءمة المتابعة بعد ضمان مصالح الدولة الاقتصادية، والمالية. 

هذه الأخيرة تعني من بين أمور كثيرة بحسب أهل القانون أن المعني دفع المبالغ التي يطالب بها في إطار التحقيق، أو أنه صالح على أمور أخرى من حق النيابة المصالحة عليها.

4. تعتبر إحالة الملف لقاضي التحقيق بداية مسار التقاضي الحقيقي، فبإمكانه قانونيا أن يضرب عرض الحائط بعمل النيابة مرة واحدة، وبإمكانه أن يستجيب لكل طلباتها. وبإمكانه أن يوسع التحقيق إلى أي كان.

5. إذا اتخذ قاضي التحقيق قرارات فمن حق النيابة الاستئناف عليها، لأنها صاحبة الدعوى، وبعد بت محكمة الاستئناف في القضية، يبدأ مسار المحاكمة الفعلية.

هذه إفادة من أحد المحامين وآخر عارف بالقانون، حطت على كلامهما القليل من بهارات الصياغة الصحفية.

سيقولون لكم إن "اللعبة انتهت" وإن كل شيء انكشف، ولكن تريثوا فلما ينكشف شيء بعد، النيابة جهة قضائية تابعة للسلطة التنفيذية، وكلما كان نأي السلطة التنفيذية عن الملف أكثر كلما كانت طلبات النيابة أكثر فنية، وأقل تشعبا. ونحن الآن أمام مشهد يبدو من خلال وقائعه أن السلطة التنفيذية وبإرادة عليا ترفض أن تشوبه أي شائبة تدخل. 

هذا الملف سائر إلى نهايته التي يقررها القضاء وحده، بناء على الأدلة الموجودة لديه، والتي سيحصل عليها أثناء التحقيق. سيكتشف من كانوا يشككون في كل محطة أن تشكيكهم في غير محله، وسيجدون دائما قشة للتمسك بها للهروب إلى الأمام في تحليلاتهم، وسيقول من بقي مع الرئيس السابق محمد ولد عبد العزيز إن الملف استهداف سياسي وتصفية نظام، وهذا من حقهم بالمعنى السياسي وإن كانت مغالطة الضمائر ليست حقا لأحد بأي وجه.

لا يتوقع أن يقول الواقفون في جنب متهم إنه نال كل حقوقه، ولا يمكن لدفاع ولد عبد العزيز أن يلعب دور الاتهام، بل من حقهم قانونا وشرعا أن يدرؤوا الحدود بالشبهات، وأن يقولوا كل شيء عمن يدافعون عنه. ولهم على الدولة أن تكفل لهم حق التعبير ما لم يتطاولوا على هيبة القضاء، أو يهددوا الأمن.

سيقولون كل هذا دون أن يأتوا بدليل واحد على تسييس الملف أو تدخل جهة فيه. سيلقون هذه الدعوى العريضة وجلودهم باردة من سياط الإعلام العمومي لم ينبس ببنت شفة تجاه المتهمين، ولم يجعل من الملف مادة للدعاية السياسية للنظام القائم، مع أن أكبر دعاية سياسية يمكن أن تقدم لنظام هي أنه فضل الانحياز لمصالح الشعب ولرسم مسار مهني لمحاربة الفساد ضد بعض مناصريه وداعميه السياسيين. 

سيلقون هذه الدعوى العريضة والوزراء والمديرون وقادة الحزب الحاكم وأحزاب الأغلبية يعضون ألسنتهم عن أن يدلوا بكلمة واحدة في ملف شغل الرأي العام، وسلط الضوء على البلد من كل أركان الدنيا.

قبل أيام انطلقت بعثات حزب الاتحاد من أجل الجمهورية في جولة للدعاية السياسية، وللتحسيس، ولم ينبس أي من المبعوثين ببنت شفة عن الملف، ولا عن الرئيس السابق، ولا عن النظام السابق، ولا عن العشرية! هل تعتقدون أنهم لا يفهمون أن هذا الملف مادة للدعاية السياسية؟ هل يمكن أن يصدق عاقل أن يغيب مثل هذا الملف عن حديث سياسي جزء من نظام يقوم بعمل كهذا؟ إن كان يخاف من تأليب الراي العام ضده فالأولى أن يقدم روايته، وإن كان يعتقد أنه يقدم إنجازا فالأولى أن يسوقه للرأي العام، وإن كان يريد إثارة انتباه من حوله فالأولى أن يفتح ملفا مثيرا كهذا.

إنما تشاهدونه اليوم هو تاريخ يكتب لأول مرة في هذا البلد، وهو حرب حقيقية على الفساد الكبير، وهو رسالة إلى كل من يجلسون اليوم في مواقع المسؤولية أن لا موقع، ولا شعبية، ولا مكانة تحمي من الحساب؛ فمن اختلس مالا للدولة أو أعان على اختلاسه، أو تغاضى عن اختلاسه سيجلس على ذات الكرسي يوما وسيقول له المحققون إنه متهم باستغلال النفوذ واختلاس المال العام، والإخلال بالأمانة.. يقول بعض المتهمين الآن إنهم كانوا مع رئيس أمرهم، وأن أوامر صريحة وصلت إليهم.. ولكن الذين يجلسون اليوم في كراسي المسؤولية لن يمكنهم أن يقولوا مثل هذا الكلام.. لن يجدوا من يدعون عليه.. فهذا الذي يجلس اليوم في كرسي الرئاسة حملهم الأمانة، وترك لهم صلاحياتهم القانونية غير منقوصة، ولا يمكنهم أن يستعينوا به في ظلم أحد أو اختلاس مال، أو استغلال نفوذ.
طيب، ماذا يستفيد هذا النظام؟ 

سيستفيد هذا النظام أنه أول نظام موريتاني يقيل وزراء ومديرين لا يشك في إخلاصهم له، وبعضهم حقق إنجازات معتبرة في ملفاته، احتراما لمؤسسات الدولة، لقضائها، ولبرلمانها. سيستفيد هذا النظام أنه في ظله تحقق أكبر حملة على الفساد بطريقة مهنية غير مشوبة بتدخل سلطة تنفيذية، ولا بضغط إعلامي من وسائل إعلام الدولة، ولا بحملة دعائية من جهازها السياسي. 

سيستفيد هذا النظام أنه أعاد إلى موريتانيا جزءا من ثروتها المنهوبة دون أوامر رئاسية، ودون ملء الفضاء بالتجريح والسب والشتم، ودون إدلاء أي مسؤول في الجهاز التنفيذي بأي كلمة تجاه هؤلاء الذين يريد بعض الناس أن يجعلهم "خصوما سياسيين" للنظام. 

سيبقى من لم يدرك الفرق يقول إن شيئا لم يتحقق، وإن المسرحية مستمرة.. لاحظوا أنهم قالوا إنها أكثر من مرة؛ واستمرارها دليل على أنهم لا يرون ما على الخشبة، أو لا يدركون مغازيه، أو لا يقولون ما لا يعتقدون.