من الكادحين إلى قوى التقدم.. خمسون سنة من النضال والخلافات ماذا بقي من حزب اليسار الموريتاني- موقع الفكر

بخطى متثاقلة وضعف بدني، مع قوة في الذاكرة والحماس ما زال أربعة لا أكثر من الجيل التأسيسي للحركة الوطنية الديمقراطية في موريتانيا يعيشون في عالم فقد كثيرا من المثل التي آمن بها الرفاق وتداعوا من أجلها إلى الخروج من ربقة الفكر القومي ذات يوم في منزل صغير بقرية توكامادي في ولاية كورغل.

في منزل المعلم محمد عينيا ولد أحمد الهادي كان منطلق ذلك التغيير وكان من أهم رموزه المؤسسين كل من

  • بدن ولد عابدين رحمه الله
  • محمد المصطفى ولد بدر الدين رحمه الله
  • سيدي محمد ولد سيمدع رحمه الله
  • عينينا ولد أحمد الهادي
  • محمدن ولد الشدو
  •  أحمدو ولد عبد القادر

ومع هذا المؤتمر التأسيسي بدأ مسار جديد بالغ التأثير في الحياة السياسية لموريتانيا، كانت قيادة الحركة سرية، وستكشف الأيام لاحقا أن قيادتها كانت بيد أصغرها سنا وهو المرحوم بدن ولد عابدين الذي كان أكثر تفرغا من غيره، وأقلهم شهرة على ما أخبرنا في منزله العامر قبل وفاته بشهر.

أما صوتها الفكري الأقوى فقد كان يمثله: محمدو الناجي بن محمد أحمد والمرحوم بدر الدين، و والتجاني ولد كريم، والمصطفى ولد اعبيد الرحمن، ومحمدن إشدو، وكان شاعرها الأعلى صوتا الأديب أحمدو ولد عبد القادر.

أخذت الحركة الجديدة اسم الحركة الوطنية الديمقراطية، وسرعان ما تعز حضورها ودورها في المجتمع الموريتاني واستقطبت قوى وهيئات وطنية شبابية متعددة،  مثل عشرات الطلاب القادمين من الخارج، إضافة إلى ما يعرف  بمجموعة تولوز" بقيادة الشاب اليساري يومها المصطفى ولد عبيد الرحمن، وكذا حركة حزب العمال الموريتاني بقيادة دافا بكاري ولادجي تراوري، وكان هذا الحزب المشروع السياسي الأهم للزنوج في موريتانيا.

من التأسيس إلى الانتشار

كثف تيار اليسار الموريتاني حضوره بقوة في مؤسسات التعليم والنقابات العمالية في مختلف أنحاء البلاد، وخلال السنوات الخمس التي أعقبت تأسيسه كان هذا التيار صوت المعارضة الأقوى والأكثر قدرة على إزعاج النظام، وتعرض قادته وأنصاره لكثير من السجون والإيذاء والإقامات الجبرية، فيما كانت "صيحة المظلوم " التي أطلقها تهز كثيرا من أسوار النظام السياسي والاجتماعي القائم.

يقول بدن ولد عابدين: "وبعد توسع حركة الكادحين وانتشارها، انتشار النار فى الهشيم ورواج افكارها التقدمية بين صفوف الأرقاء والشباب والعمال والنساء. اصبح حينها لزاماً علينا ان نُؤسس جريدة جامعة تُؤطرُ الناس ويتبادلون خلال صفحاتها الآراء، تنشر بطولات الثوار وتُروج لشجاعتهم في مواجهة القمع ".

حزب الكادحين ...من الثورة إلى الاندماج في حزب الشعب

مع منتصف سنة 1973 بدأ اليسار الموريتاني تجديد هياكله والانطلاق في بنية مؤسسية جديدة، مثلها حزب الكادحين الموريتاني (حكم) وقد كان هذا الحزب تيارا فكريا عميق اليسارية، وكانت الترقية إليه تتم عبر الاختيار وإخضاع المرشحين لبرنامج فكري مكثف يعمق الاختيارات اليسارية التي يدافع عنها الكادحون.

وقد تحدث- لاحقا- بعض قادة الكادحين عن مضمون إلحادي في أدبيات الحزب المذكور، وسرعان ما أثار تأسيس الحزب نقاشا واسعا.

يقول الدكتور محمدو الناجي بن محمد أحمد لموقع الفكر: في سنة 1974 بعد ما حقق الرئيس المختار بعض مطالب حركة الكادحين من تأميم ميفرما ومراجعة الاتفاقيات مع فرنسا وإنشاء عملة وطنية إلى آخره انقسمت الحركة انقساما شديدا فبعضها اعتبر أنه ينبغي الاندماج في حزب الشعب الذي حقق تلك المطالب والبعض الآخر اعتبر أن تحقيق بعض المطالب أمر جيد ولكن يجب أن نبقى كيانا متميزا للحفاظ على هذه الإنجازات وللحصول على إنجازات أخرى، والأغلبية من الحركة اندمجت في الحزب وبقيت أقلية قررت إعادة تأسيس الحركة من جديد لتستمر حتى 1989م حيث قررت أن تحل نفسها وأن تؤسس حزب اتحاد قوى التقدم وما زال عدد كبيرمنهم على قيد الحياة، إذا، هي لم تمت وإنما حلت نفسها بنفسها وجعلت مكانها حزب اتحاد قوى التقدم."

 لم يطل الزمن حتى وقع الانقلاب العسكري في 10 يوليو 1978، وبدأ مسار جديد أيضا من مسيرة الكادحين.

فرضت الظروف الجديدة على الكادحين إعادة مستوى من التنسيق بين أجنحتهم المختلفة داخل النظام وفي معارضته واستطاعوا أيضا الانحناء لأكثر من عاصفة مرت بالمشهد السياسي، قبل أن يظهروا بقوة خلال إرهاصات التعددية السياسية.

ماذا تبقى من حركة الكادحين؟

يقول الرئيس محمدفال بلال: "بقيت منها أخلاق و مناهج و سلوكيات و روابط عاطفية بين روادها، فهناك أمور كثيرة يتقاسمها أعضاء الحركة منها النجابة، و الشطارة والتفوق في المدارس و في العمل، بمعنى أنك عندما تنظر إلى كوادر البلد ستجد من بينهم الكادحين، وستجدهم متفوقين ومتميزين فيما يقومون به؛ لأنهم أخذوا من تلك المدرسة أساسا صلبا ومنهجا قويا للتحليل ومقاربة القضايا والأحداث. والثانية أنهم لم يكونوا من أكثر الناس حبا للدنيا ولا حبا للمال ولا جمعه ولا الانغماس في الفساد. قل عنهم ما شئت من زلات و هفوات إلا الفساد و حب المال".

قوى التقدم .. من المساومة إلى الصراع الداخلي

بدأ حزب اتحاد قوى التقدم انشقاقا داخل حزب اتحاد القوى الديمقراطية، وتولى أمينه العام محمد المصطفى ولد بدر الدين قيادة الحزب الذي كان يحمل اسم اتحاد القوى الديمقراطية ب، قبل أن يتولى رئاسة الحزب رئيسه الحالي الدكتور محمد ولد مولود القادم الذي يعتبر من قيادات الجيل الثاني للحركة ومن أبرز رموزها النخبوية وقيادتها الميدانية.

مضت لحد الآن قرابة 25 سنة من رئاسة ولد مولود لحزب قوى التقدم، ويحظى أستاذ التاريخ ولد مولود بتقدير كبير في الساحة السياسية، إلا أنه واجه خلال العشرية المنصرمة كثيرا من الخلافات داخل حزبه الذي يعتبر الحزب الأكثر تعبيرا عن اليسار في موريتانيا.

تولى ولد مولود التفاوض المباشر مع الرئيس السابق معاوية ولد الطايع، ضمن ما كان يعرف بسياسة المساومة التي رفضتها أحزاب المعارضة، قبل أن تستفيد من نتائجها في انتخابات العام 2001، وما سبقها من تحسينات نسبية مثل إصدار بطاقة تعريف غير قابلة للتزوير وإدخال النسبية إلى نظام الانتخابات.

ولاحقا سيعيد الحزب سياسة المساومة أيضا مع نظام الرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني بعد أن حمشت المعارضة عشرية الصراع المرير مع نظام ولد عبد العزيز، ودون أن يجد قوى التقدم موقعا في الأغلبية، أو ينحاز إلى المعارضة الراديكالية، ما زال الحزب في مكان وسط بين الطرفين، فبينهما بروخ لا يبغيان،  رغم أن لهجته السياسية باتت أقرب إلى التصعيد.

خلافات الرفاق.. تهدم أسوار قوى التقدم

عاش قوى التقدم خلال السنوات المنصرمة خلافات قوية لم تكن الأولى في تاريخ اليسار الموريتاني وقد لا تكون الأخيرة ومن أبرز أسبابها:

-     الموقف من القادمين من الحزب الجمهوري: والذين تدفق عدد منهم لأسباب سياسية واجتماعية إلى حزب اتحاد قوى التقدم، وتسنموا مناصب قيادية في هيئاته، ومن أبرز هؤلاء الوزير السابق والقيادي الناصري محمد  ولد اخليل الذي ينظر إليه رفاق بدر الدين على انه اختطف كثيرا من قرارات ومواقف الحزب وأوراق قوته، فيما ترى قيادة الحزب أن القادمين إليه يمثلون تعبيرا عن و طنيته وتمدده، وأن الانغلاق السياسي وفرض رأي موحد لا ينتمي إلى الديمقراطية، وأن المطالبين به أقلية داخل الهيئات الحزبية.

-     مقاطعة انتخابات 2013: يرى خصوم ولد مولود أنه اتخذ قرارا بمقاطعة الحزب استجابة لرأي منسقية أحزاب المعارضة، دون تفويض أو قرار نهائي من اللجنة الدائمة للحزب.

تقول السيدة كادياتا مالك جالو لموقع الفكر: الخلافات داخل حزب اتحاد قوى التقدم خلافات سياسية، وفي المبادئ بعض الشيء فمنذ تم حل الحركة الوطنية الديمقراطية قلنا إننا سنصل إلى السلطة عبر صناديق الاقتراع وانتهينا من التوجه الثوري للحركة الوطنية الديمقراطية، فكانت مقاطعتنا للانتخابات 2013. غير منسجمة مع توجهاتنا، وكان لدينا في الحزب ما يسمى بتراكم القوة، وكانت لدينا فيه حصيلة جيدة، ففي انتخابات 1999. شاركنا وحدنا في الانتخابات ولم نحصل إلا على مستشار بلدي واحد هو محمد المصطفى بن بدر الدين رحمه الله وفي انتخابات العام 2001م. حصلنا على خمس بلديات في الداخل وثلاثة نواب فأصبحنا على مستوى الأحزاب التي لها وزن في الساحة السياسية، وفي العام 2006م. حصلنا على تسعة نواب وإحدى عشر بلدية، إضافة إلى مقعد بمجلس الشيوخ، ثم بعد ذلك يقولون لنا قاطعوا الانتخابات دون بديل؟.

قاطعنا وفقدنا كل شيء، ولا يمكن للإنسان أن يترشح دون حزب سياسي ولذلك ذهبت قواعدنا وأطرنا وترشحوا في أحزاب سياسية أخرى، وفقدنا جميع البلديات في نواكشوط والداخل وفقدنا بلديات مثل بلدية "بوكي". وبلدية "باركيول" وبلدية "ميت" التي كانت عندنا من أيام الحركة، فقدنا كل هذا.

  الديمقراطية تعني الأكثرية داخل القيادة لكن لا بد من مراعاة جماهير الحزب والقواعد، ثم بعد اتخاذ القرار تأتي المراجعة لنرى نتائجه هل كانت سلبية أم إيجابية، فلماذا يصر محمد ولد مولود على خطئه رغم اعتراف جميع الزعماء الذين قاطعوا الانتخابات، وهو قد فقد كل شيء وينبغي أن يقدم مبررا لما حصل..

ولا يمكن التحجج بضعف الوسائل فالوسائل لم تكن يوما عندنا وكنا نناضل ونكافح رغم ذلك، ومنذ بدايات الانتخابات في البلاد لم تسلم من التزوير،  وانحياز الإدارة وحتى انتخابات 2006 ــ 2007 التي دائما نصفها بأنها أحسن انتخابات كانت فيها بعض التزوير ومع ذلك كنا نشارك ونناضل ونكافح التزوير حتى ننتزع ما يمكن أن ينتزع، لنستخدمه في تطوير عملنا السياسي".

في إحدى المؤتمرات الصحفية قال رئيس حزب اتحاد قوى التقدم الدكتور محمد ولد مولود إن حزبه ضد المطالبة بعلمانية الدولة، مؤكدا أن البرنامج السياسي  للحزب ينص على التشبث بالقيم والمبادئ الإسلامية، وعليه فإن أي منتسب حقيقي له لا يمكن أن يطالب بعلمانية الدولة

وأكد ولد مولود خلال ذات المؤتمر الصحفي إن المطالبة بالعلمانية في موريتانيا، غير نابعة من الشعب، لأنها مخالفة لقيمه ومشاغله في الوقت الراهن، حسب تعبيره..

وأشار ولد مولود أن المطالبة بعلمانية موريتانيا قد ترضي أطرافا داخلية، وأوساطا في الخارج، لكنها لا تلبي حاجات الشعب الموريتاني،  ولا علاقة لها بمصالحه، مضيفا أن العلمانية تثير العواطف الدينية للشعب، ما يسبب القلاقل، وينتج التطرف، و أن الشعب الموريتاني بحاجة إلى  الديمقراطية، والوحدة الوطنية، والمساواة، ومكافحة الرق والظلم، وهي الشعارات التي يجب على النشطاء حملها والنضال من أجلها.

وقد أصدرت مجموعة من شباب الحزب  بياناً انتقدوا فيه تصريحات الرئيس محمد ولد مولود حول العلمانية.

واعتبر هؤلاء الشباب الناشطون في صفوف الحزب أن تصريحات ولد مولود لا تمثلهم، بل إنها تمثل انتكاسة ودليلاً على التردي الفكري والسياسي الذي تشهده موريتانيا.

بعد ذلك طالب ولد مولود بمعاقبة هؤلاء الشباب وفق نصوص الحزب، نظراً لما ألحقوا بوحدة الحزب وتماسكه من ضرر ، وهو ما عارضه جناح ولد بدر الدين، حيث اعتبر أنه لا يمكن معاقبة الشباب على إبداء وجهة نظرهم.

ولكن قيادة الحزب نجحت في تمرير العقوبات، وأصدرت اللجنة الدائمة بياناً أعلنت فيه أنها تلزم الشباب بإصدار بيان صحفي يتضمن ثلاثة نقاط هي:

  1. الاعتذار عما ألحقوه من ضرر بوحدة الحزب وسمعة رئيسه.
  2. إعلان سحب بيانهم الذي كان سبباً في الأزمة في وسائل الإعلام ومطالبتها بذلك.
  3.  تجديد التزامهم بنصوص الحزب، خطاً وبرنامجاً وانضباطاً.

:

إلا أن هذه العقوبات أثارت حفيظة جناح ولد بدر الدين واعتبر أنها تسرع وقرار اتخذ في وقت تسعى فيه الأطراف للخروج بحل توافقي.

ودعا هذا الجناح إلى سحب هذه العقوبات والتراجع عنها، قبل الاستمرار في أي تفاوض أو وساطة.

-     ترشيحات 2018: للنيابيات، ويرى خصوم ولد مولود أن مقربيه لم يحترموا قرارات القواعد الحزبية التي رشحت المرحوم بدر الدين لقيادة اللائحة الوطنية للحزب، ليبعده أنصار ولد مولود مرشحين مكانه النائب الحالي خليلو ولد الدده.

-     ترشح رئيس الحزب سنة 2019: حيث عارض هذا الترشح عدد من المناوئين له، كما استغلوا بعد ذلك النتيجة التي حصل عليها (2.44%) معتبرين أن ضآلتها تؤكد الأزمة السياسية والشعبية التي يعيشها الحزب، حيث اعتبر القيادي المرحوم بدر الدين في تقييمه للنتيجة المذكورة أنها "ثمرة أخطاء متراكمة ارتكبتها قيادة اتحاد قوى التقدم في السنوات الأخيرة، بعض تلك الأخطاء يتعلق بالانحراف عن  الخط السياسي، والمبادئ، وبعضها يتعلق بالسياسات المتبعة كمقاطعة الانتخابات، خصوصا انتخابات 2013، التي كانت مقاطعة قاتلة، وهناك ما يتعلق بتسيير الحزب نفسه، فلم تكن قيادته ديمقراطية تشاركية، بل طبعها قدر من الفردية"

وإلى جانب هذه الإشكالات دفعت مسارات متعددة من الخلافات الشخصية بين القيادات التاريخية للحزب إلى الوصول إلى لحظة الانفجار التي أدت إلى طرد وتعليق عضوية عدد من قيادات الحزب، وانتقال الصراع إلى سوح القضاء.

قوى التقدم وانتخابات 2023.. حظوظ  ضئيلة لترشيحات متواضعة

لم يبالغ حزب اتحاد قوى التقدم في الترشيحات، إذ لم تتجاوز 43 لائحة بلدية، فيما قرر رئيسه محمد ولد مولود عدم الترشح للبرلمان مجددا مفسحا المجال لشخصيات أخرى مثل القانوني لوغرمو عبدول، ولا يتوقع قياديون في  الحزب أن يحقق نتائج خارقة، وقصارى الجهد أن يستفيد من النسبية في إيصال نائب أو اثنين عبر اللوائح الوطنية، أما كسب البلديات فهو مستبعد جدا لضعف وسائل الحزب وتقاعد أغلب مناضليه القدامى، وغياب قوة شبابية فاعلة تتبع له، وفيما يشيخ الحزب ويتراجع أداؤه، فإن تاريخه السياسي ينضح  بكثير من النضال وآثار السياط والمساومة والصراع، وكثير مما لم يتحدث عنه الكادحون بعد.