موقع الفكر في لقاء شامل مع الدكتور محفوظ بن عمي/شركات الاتصال كانت تخطط لاستعادة استثماراتها خلال 7 سنوات فاستعادتها في ثلاث سنوات ونصف

في إطار مواكبة موقع الفكر لمجريات الساحة الوطنية، وسعيا منا إلى إطلاع متابعينا الكرام على تفاصيل الأحداث، بتحليل متوازن، ونقاش متبصر، نلتقي اليوم مع أحد القامات الاقتصادية، ممن خبروا دروب الاقتصاد الوطني- أمينا عاما لوزارة التجهيز والنقل- نستجلي من خلاله ما وراء الخبر... في لقاء شامل يتناول بعض |إشكاليات جدلية الفقر والتنمية، وسبل النهوض بالاقتصاد الوطني، وعوائق التطوير والإنتاج، إضافة إلى الحديث عن الثروات الوطنية من سمك وحديد؛ لنصل من خلال ذلك إلى أبرز المعوقات والمشاكل التي تعيق تطور الاقتصاد الموريتاني، فأهلا وسهلا بضيفنا الكريم الدكتور محفوظ بن عمي.

 

موقع الفكر: حدثنا عن الجدلية القائمة بين التنمية والفقر؟

الدكتور محفوظ ولد عمي: بسم الله والصلاة والسلام على رسول الله، قبل أن أدخل في هذا الموضوع أود أن أشكركم ليس على مجرد الاستضافة وإتاحة الفرصة وإنما لأنكم اخترتم لاسمكم هذا العنوان الكبير الذي هو "الفكر" لأنه عنوان كبير ومهم جدا وأهنئكم عليه خصوصا في هذا العصر الذي ينغمس فيه الجميع في عالم الأشياء، وأنتم تنغمسون في عالم الأفكار، وقبل أن أصل للموضوع أود أن أبدي ملاحظة هنا وهي أن المفكر الجزائري مالك بن نبي كان ممن يتصدون للغزو الفكري والمادي في الفترة التي كانت تكثر فيها هجرة شباب المسلمين إلى فرنسا وكان لديه عناية خاصة بالفكر، ويسعى لتحصين الشباب المسلم من الناحية الفكرية، وكتب في هذا المجال الكثير من الكتب ومن أروع ما كتب فيه كتاب يسمى  " الأفكار الميتة أو المميتة "؛ لأن الفكر أساسي في حياة الأمم، وكان يقول في كتاباته إنه في يوم من الأيام سيتحكم "عالم الأشياء" في واقع المسلمين وكان يقول إن المسلمين في الماضي كانوا ينظرون في عالم الأفكار بينما الكافرون ينظرون في عالم الأشياء.

 

أما فيما يتعلق بالسؤال الذي طرحتم فهو موضوع شائك؛ لأن الدولة الوطنية أصبح لديها عمر طويل وأجيال مختلفة، وبالتالي كان ينبغي أن نكون وصلنا إلى مرحلة متقدمة مثل الكثير، ولكن للأسف هناك مسائل تقف عائقا أمام ذلك.

المسألة الأولى - وهي الأهم - أنه ليس لدينا تفكير جاد لمعرفة الأسباب التي أدت بنا إلى الواقع الذي نحن فيه، لو كان هناك منتدى فكري لمعالجة الأسباب التي أدت إلى الظاهرة لكانت معالجتها أمر سهل، تلك العملية دائما أشبهها بالشخص الذي يعود إلى بيته ويجده مغمورا بالمياه وبدلا من أن يبحث عن السبب يبدأ بإخراج المياه مع أن المياه قد تكون تتجدد؛ مما يفرض البحث عن السبب أولا، وهذا يعني أنه قبل البحث عن علاج لظاهرة الفقر والتخلف ينبغي أن نبحث عن أسباب ذلك.

 في هذا السياق وقعت استراتيجية ضد الفقر سنة 2001م. تقريبا تسمى "الإطار الاستراتيجي لمحاربة الفقر" وتم تحيينه كل ثلاث سنوات حتى سنة 2015م. وبعد ذلك أنشئت استراتيجية جديدة تسمى " استراتيجية النمو المتسارع والرفاه المشترك " من 2016 حتى 2030م.

وهذا كله نتج عنه تصورات وإنشاء هياكل مثل المفوضية السامية المكلفة بحقوق الإنسان ومحاربة الفقر، ووكالة النفاذ الشامل للخدمات الأساسية، والوكالة الوطنية للتضامن، وكذلك بعض المشاريع العرضية مثل مشروع محاربة الفقر في آفطوط الجنوبي، ومشروع التهذيب، ولكن للأسف توقفت كل هذه المؤسسات والمشاريع دون دراسة أو مشورة واسعة بين المواطنين، ولم نعرف الأسباب الحقيقية الكامنة وراء توقفها، وإذا استمر الوضع على ما هو عليه ستتوقف وكالة تآزر أيضا كغيرها من المؤسسات، على كل من نظر إلى موريتانيا سيرى أنها تقدمت في مجال النمو وأصبح مؤشره في ازدياد لكن يحق للمواطن العادي أن يتساءل عن ما قيمة النمو الذي نتحدث عنه إذا لم ينعكس على واقع الصحة والتعليم والفقراء، ولذلك هذا النمو يسميه الاقتصاديون "النمو غير المشترك" ويعتبرون أنه لا قيمة له لأن عائداته لا يستفيد منها سوى الدولة ولا يشعر بها المواطن العادي، أعود وأقول إن أسباب النمو والهشاشة والفقر في بلدنا ما زالت قائمة ولا غنى عن تفكير جاد لمعرفة تلك الأسباب، وأنا شخصيا أرجع تلك الأسباب إلى بعض الأمور منها الحكامة الراشدة، حين تكثر المشاكل يطرح سؤال هل الأهم هو الصحة أم التعليم أم الاقتصاد.. الخ. وبالتالي تصبح الدول لا تعرف من أين تبدأ، في هذه الحالة إذا كانت الدولة لديها مؤهلات وآليات لمعالجة جميع تلك المشاكل فبها ونعمة، أما إذا لم تكن كذلك وليست الإمكانيات لمعالجة كل هذا في وقت واحد فينبغي أن يكون لدينا سلم أولويات وننتقي الأهم ثم الأهم..

 والحديث عن الحكامة الراشدة قد يقول قائل إنه مجرد كلام أهل السياسة لكنني سأثبت لكم عكس ذلك، مسألة الحكامة الراشدة مهمة جدا ففي جميع الاستراتيجيات العالمية التي تتم ضد الفقر تعتبر الحكامة الراشدة محورا أساسيا من محاورها، فالدول لا تتقدم في أي مجال دون وجود حكامة راشدة، وتعتبر المشورة والديمقراطية من أهم عناصر تلك الحكامة بل هي بمثابة حجر الزاوية بالنسبة لها، الحكامة الراشدة على مر التاريخ تقوم على عدة مبادئ ومن أساسها المشورة والعدل، ولذلك لابد أن تكون هناك آلية لانتقاء الحاكم؛ لأن معركة التنمية لابد لها من " قائد المعركة "؛ لأن الفقر والانتصار على العدو يحتاج إلى قائد مؤهل لذلك، وعندما نقول قائد المعركة ليس بالضرورة أننا نقصد رئيس الجمهورية بالضبط، وإنما تشمل كل موظف يتولى شأنا من شؤون الدولة، والديمقراطية في هذا البلد حان لها أن تصل إلى سن الرشد؛ لأن المسلسل الديمقراطي بدأ منذ سنة 1991م. تقريبا لأسباب بعضها داخلي وبعضها خارجي ولذلك كان ولد بدر الدين يقول: "انتوم ألا حزمون على اكلوبتهم نحن جايبتن المحسوبة " وهذا يعني أن هناك أسبابا خارجية تدخلت في الاعتبار حتى نقيم هذا المسلسل الديمقراطي الذي هو أساسي في اختيار الحاكم الذي هو قائد معركة البناء والتنمية، يمكن القول إننا تقدمنا على بعض الأصعدة لكن بقي صعيد أساسي للأسف وهو "العامل البشري" الذي يعتبر أكبر عائق ونقصد بالعامل البشري الأشخاص الذين يتولون تسيير المؤسسات وعدم شفافيتهم، يمكن القول ان مسلسل العامل البشري في غاية الضعف لأن اختيارهم يتقاسمه العمد والأسلاك، ينبغي أن نصل إلى مرحلة يطمئن فيها الجميع على أن العمدة الذي انتخبوه هو الشخص المناسب في المكان المناسب وكذلك الحال مع النائب والرئيس، أظن أن أهم ورشة يمكن أن يقوم بها التوافق السياسي الجديد هو ضبط القائمين على الاقتراع، وأرى أنه ينبغي أن نرجع في مثل هذه الأمور إلى هيئة محلفة خصوصا في اختيار رؤساء المكاتب، ما دام العامل البشري ليس على المستوى وغير مؤهل للتعامل مع ما يواجهه.

 سنظل في  دوامة اختيار غير الأكفاء لتولي المناصب، ونحن كمسلمين لا يمكن أن نتوافق - بطريقة شفافة - على شخص إلا وكان مؤهلا لخدمتنا من باب "إن أمتي لا تجتمع على الضلال" ويمكنني القول إن موريتانيا لست بدعا من الدول الأخرى ولاسيما منطقة دول الساحل والمغرب العربي، ولعل المسلمين اليوم للأسف - خصوصا العالم السني - هم أقل الأمم تقدما فيما يتعلق بالمشورة الموسعة مع المواطنين؛ ولذلك أسباب كثيرة لا يمكن الحديث عنها جميعا منها أولا: التأثير العميق الذي يخلفه السلاطين في الأحكام الفقهية المتعلقة بالحكم، فقهنا للأسف ضامر في هذا المجال خصوصا في كيفية الحكم وإرشاداته ومشورته وهيئاته وهل الديمقراطية يمكن أن تؤصل أم لا وهل المشورة معلمة أم واجبة، هذه إشكاليات لا يترك السلاطين الفقهاء ليشبعوها بحثا وخاصة في العالم السني للأسف لأن جيراننا في الشيعة مثلا تقدموا في هذا المجال ولديهم كما تعلم نظرية " ولاية الفقيه " التي تخول لهم التداول على السلطة، كذلك إخواننا في تركيا لديهم ديمقراطية نموذجية وتصدوا بأجسامهم لمن يحاول العبث بديمقراطيتهم، نحن العرب - وخاصة العرب السنيين - للأسف الآن في ذيل الأمم لأننا نخضع لمستعمرات يحلو لها أن تتحكم في سياساتنا الداخلية والخارجية، وبدلا من أن نحذو حذو هؤلاء أصبحنا للأسف نناصبهم العداء وهذا يخدم الأمة الغربية التي لا تريد أن تكون لدينا آلية لممارسة مشورة حقيقية وموسعة بيننا، لا يتركنا نتقدم خطوة واحدة في هذا المجال وحين ننتفض أيضا ضد هذا الواقع يستخدمون كل الوسائل لإيقاف ذلك، هذا على الرغم من أن المجتمعات الإفريقية الأخرى يفضلون لها الديمقراطية وكذلك المجتمعات الآسيوية بينما يتعاملون مع العرب بنقيض ذلك.

فيما يخص الحكامة الرشيدة لابد أن تتطور الأمور نحو الأحسن خصوصا في المغرب العربي.

 

موقع الفكر: ما تقويمكم لأداء سلطة التنظيم وهل نجحت في إجبار شركات الاتصالات على الوفاء بالتزاماتها  وتحسين خدماتها؟

الدكتور محفوظ ولد عمي: شركات الاتصال كان لديها طموحات على أن تستعيد الاستثمارات التي قامت بها خلال 7 سنوات لكن نتيجة لطبيعتنا نحن وولوعنا في التعلق بالثرثرة و "شد الاخبار" استطاعت الشركات أن تعيد استثمارها في نصف المدة المحددة، هذا الشعب الذي كنا نريده أن يكون صاحب قوة شرائية تم استغلاله استغلالا حقيقيا من طرف هذه الشركات، وبدلا من أن تكون الحكومة صارمة معهم في دفتر التزامات واضحة ودقيقة لم يقع ذلك، بل العكس تشاهد وسائل الاعلام اليوم تقوم بدعاية لهذه الشركات بدلا من أن تكون لديها إشعارات ترشد المواطن  للحد من الاتصالات الغير ضرورية والمضرة بتكاليفه، أرى أن شركات الاتصال عندنا زادت الطين بلة لأن خدماتها مجحفة، شركات الاتصالات لديها فوائد ولكنها أتت بمساوئ لم تعالجها الدولة، وسلطة التنظيم التي يفترض أن تكون قائمة على دفتر الالتزامات لا تقوم بدورها كما ينبغي حسب المعطيات الموجودة، ينبغي على الدولة أيضا أن تسعى لتوعية المواطن وترشيده حول خطورة كثرة استهلاك الاتصالات لأنه يشبه استهلاك الماء والكهرباء وغير ذلك، حين تنظر إلى جميع الأرباح التي تحصل عليها شركات الاتصال لا يمكنك أن تصدقها ومع ذلك مصدرها الأساسي  جيوب المواطنين، يمكن أن تقول إن الاتصالات عادت على المواطن بفوائد أخرى هذا صحيح، ولكن حين تقارن بين المساوئ والإيجابيات تجد أن كفة المساوئ تتغلب على كفة الإيجابيات، وهذه كارثة حقيقية أن تكون هناك جهات تستغني على حساب الفقراء.

 

موقع الفكر: ما سبب ارتفاع أسعار المحروقات محليا رغم تراجعها في السوق الدولية؟

الدكتور محفوظ ولد عمي: مسألة المحروقات من المسائل المهمة التي كنت أود الحديث عنها، المحروقات إبان المأمورية الأولى للرئيس السابق ولد عبد العزيز قال إنها وقعت فيها تطورات هائلة وأصبح سعرها تارة ينخفض وتارة يرتفع، وقال إنهم سينتهجون سياسة لرفع سعرها في حال ارتفاعه وخفضه في حال انخفاضه حتى يكونوا أكثر شفافية مع المواطن وأنا أرى أن هذا أمر منصف، وحين قال الرئيس إنهم سيعتمدون هذه الاستراتيجية استقبلها الناس بصدر رحب لكن ماذا وقع في المأمورية الثانية؟ بدأ سعر المحروقات عالميا ينخفض حتى وصل إلى أدنى مرحلة يمكن أن يصل إليها ومع ذلك لم ينخفض عندنا وبدأ الناس يقولون إن هذا ليس هو ما تعهد به الرئيس، ورد الرئيس ببعض الحجج لكنها محجوجة، قال إن انخفاض سعر المحروقات لا يستفيد منه إلا التجار الذين ينقلون البضائع وأن المواطنين الضعاف لا علاقة لهم به وهذا في الحقيقة أمر غير منطقي؛ لأنه ستكون أرباح التجار على حساب المواطنين الضعاف وكذلك أرباح أصحاب النقل وغير ذلك، هناك مسألة أساسية في كل تنمية وهي " استراتيجية الطاقة "؛ لأنه لا يوجد أي شيء من الصناعات أو النقل أو الخدمات إلا ويؤثر فيه سعر الطاقة بشكل مباشر أو غير مباشر، ومن يريد التنمية ينبغي أن يعرف السعر الذي سيحدد للطاقة، والضرائب التي تأخذها الدولة في هذا المجال هي ضرائب خيالية جدا فهي تأخذ على " طون المازوت " نسبة 87% من كل ليتر، إذن لا يمكن أن تقع تنمية ولا إقلاع اقتصادي بدون وضع سعر مناسب للمحروقات

 

موقع الفكر: ما تأثير سوء الحكامة في القطاع العدلي على الاستثمار؟

الدكتور محفوظ ولد عمي: القضاء والعدل أمور محورية في كل تنمية، ولا توجد أي تنمية بدون دولة قانون وعدالة وقضاء، ومعنى دولة القانون أن يتساوى جميع المتقاضين أمام القانون بغض النظر عن تراتبيتهم الاجتماعية، وهذا عنده علاقة مهمة بموضوع التنمية؛ لأن العدل حين يكون موجودا يصبح أي مستثمر مطمئن على استثماراته ويشعر أنه إذا ظلم سينتصر له القضاء، ولذلك أي مستثمر قادم إلى دولة أول ما يسأل عنه هو أداء القضاء فيها وإذا كان ضعيفا لا يستثمر في تلك الدولة، القضاء هو حجر الزاوية في التنمية وهذا أمر مسلم به، سأعطيك أمثلة بسيطة، في فترة اكتشاف البترول في موريتانيا جاءت هنا بعض البنوك الفرنسية مثل "بنك سوسيته جنرال" و"البنك الوطني الباريسي"، وبنك سوسيته جنرال هو بنك تجميع بينما الآخر بنك تنمية، وذات يوم رفع بنك التنمية قضية لدى القضاء تتعلق بمبلغ 40 مليون أوقية قديمة ضد أحد النافذين الموريتانيين فحكم القضاء لصالح هذا النافذ وقرر القائمون على هذا البنك المغادرة وفعلوا ذلك وقاموا ببيع ممثليتهم هنا لبنك "التجاري بنك" بعد أن علموا أن الاستثمار في بلد لا يوجد به قضاء عادل ومستقل أمر مستحيل.

 المثال الثاني: في فترة حكم ولد الطايع كان هناك رجل أعمال سعودي يحب موريتانيا يسمى صالح كامل ولديه سلسلة من البنوك تسمى بنوك البركة وفتح ممثلية هنا بالمشاركة مع بعض الموريتانيين واستولى الموريتانيون على استثماراته وحين رفع القضية إلى القضاء حكم ضده، وغادر الرجل البلاد ليعود بعد ذلك في فترة الرئيس سيدي محمد ولد الشيخ عبدالله رفقة مجموعة من رجال الأعمال السعوديين وسأله أحدهم هل سيعود للاستثمار في موريتانيا فقال له " إن الموريتانيين أمة طيبة يمكن أن تصلي وتصوم معهم لكن احذر من معاملتهم " وإذا كان الاستثمار الأجنبي ينفر من بلادنا لن يكون هناك إقلاع اقتصادي؛ لأن أي تنمية لا تقوم على الاستثمار الداخلي والأجنبي لا يمكن أن تنجح، وإذا لم يكن القضاء مستقلا لا يمكن أن نتطور وقد كتبت مقالا له علاقة بهذا الموضوع وفيه أربع نقاط إذا تم تطبيقها يمكن أن نتقدم ومن أول تلك النقاط أهمية استقلالية القضاء وعدم تسييسه لأن ذلك يعتبر آفة في الديمقراطية.

 

موقع الفكر: يتخوف البعض من نضوب الثروة السمكية نتيجة الهدر وانعدام حكامة رشيدة ما رأيكم؟

الدكتور محفوظ ولد عمي: ليس لدي اطلاع حول ما يقال عن الثروة السمكية، والكثير من الناس الآن يطالب بما يسمى "حالة الوضع الراهن" ولكن للأسف لا يمكن معرفة ذلك وما نسمعه من جهات شبه رسمية حول نضوب كميات ونوعيات معتبرة من سمك الأعماق هو أمر مؤسف لأن سمك الأعماق أكثر قيمة تجارية من غيره ومع ذلك هو أشدها نهبا، لدي قناعة شخصية أن هناك نهبا منظما للثروة السمكية ولا شك في ذلك، وهناك الكثير من المعطيات التي تدل على ذلك ولا تحتاج دراسة معمقة، وبما أنها ثروة متجددة يعتبر هذا ضرر كبير على المجتمع، ومن القرائن التي تدل على ما قلته لك ما يسمى "رخص الصيد" التي تعتبر منذ البداية خصوصية لرئيس الجمهورية ولا يمكن أن يسأل عنها وهذا الأمر بدأ منذ فترة الرئيس السابق ولد الطائع وهذا نتيجة لضعف البرلمان في تلك الفترة.

 

موقع الفكر: اتفاقية الاتحاد الأوروبي مع موريتانيا في مجال الصيد كان من بنودها بالنسبة للاتحاد الأوروبي أن يوقع عليها برلمانهم في حين أن البرلمان في موريتانيا لا يوقع عليها؟

الدكتور محفوظ ولد عمي: هذا مشكل كبير وهو ما جعل ولد عبدالعزيز يتبنى أن ما تدفعه الصين مقابل للطن أكثر بكثير مما يدفعه الاتحاد الأوروبي.

المشكلة، حين يكون دفتر الالتزامات الذي تم الاتفاق عليه لا يتم تطبيقه حرفيا فستكون هذه هي النتيجة، ما يقع في الثروة السمكية من نهب هو أمر لا يتصور؛ لأنه حين تتدخل السفن العملاقة سيكون الوضع كارثي، ولذلك طالعنا في مواقع التواصل الاجتماعي رسالة رسمية بعث بها الوالي الذي يمثل رئيس الجمهوية إلى وزارة الصيد يطالبهم فيها باتخاذ إجراءات جديدة تتعلق بالصيد؛ لأن الأمر أصبح فيه خطر، كذلك معهد المحيطات يبين شيئا من ذلك لكن في الواقع ليس لهم من الأمر شيء لأن الرقابة ليست تابعة لهم، ولا الوالي وإنما هي تابعة للعسكر وغير ذلك، وما يقال من أن المعايير غير متبعة في شيء هو أمر مؤسف فبعض رجال الأعمال يأتي بالبواخر التركية والصينية لنهب هذه الثروة، ويعتبر عدم التصنيع من أهم الأسباب أيضا فكان ينبغي على الدولة أن تضع شروط منها أن من لم يقم بتصنيع السمك في أرضنا تجعل عليه ضرائب أكثر حتى تكون صناعاتنا هي مصر عيشنا وبعد ذلك نصدرها إلى الخارج، وكذلك من مظاهر الفساد والنهب التي نسمعها أن هناك بعض سفن الصيد تستخدم الرشوة حتى يتم تفريغ حمولتها إلى بواخر أخرى داخل الأعماق، والكثير من الأشياء التي تؤكد أن هناك نهبا منظما، وهذا النهب المنظم له تداعيات خيالية حول ما يتعلق بمشكلة الفقر لأن الكثير من المواطنين تركوا الزراعة والتنمية وذهبوا إلى الصيد، وهذا يعني أننا بحاجة إلى خطة استعجالية لإنقاذ الثروة السمكية وينبغي أن تكون ضمن الحوار الوطني، دائما أقول لبعض الإخوة والأصدقاء في حديثنا عن مثل هذه الأمور وأنا أمازحهم أن الرئيس ولد الغزواني لديه نية حسنة لإصلاح الكثير من الأمور لكن عليه أن يدرك أنه إذا أراد إصلاح التعليم لابد له من مأمورية ثالثة؛ لأن نتائجه لا يمكن أن تظهر قبل ذلك، بينما إصلاح الصيد يحتاج خطة استعجالية؛ لأنه ثروة متجددة وحين تعطله لمدة 6 أو7 أشهر تجد نتيجة هائلة، أما إغلاقه شهرا أو شهرين فلا قيمة له؛ لأن ما يستنزف منه لا يتصور، والصين لا يوجد من هو أكثر منهم خبرة في ما يسمى الغش.

 

موقع الفكر: تعاني شركة "سنيم" من اختلالات جوهرية فلم تتجاوز في تاريخها إنتاج بعض الغبار المعد  للتصدير دون إن تخلق صناعة للصلب.

فكيف لهذه الشركة أن تنهض ؟

الدكتور محفوظ ولد عمي: فيما يتعلق بشركة "سنيم" نحن نقول أصلا إننا بلد منجمي ومؤخرا أصبح يقال إننا من البلدان المصدرة للبترول لكن في الحقيقة نحن بلد منجمي أساسا، مع أنني أرجو أن تتوفر فينا جميع تلك الأمور، وبدأنا بالمناجم في الستينات ولدينا تجربة حقيقية في مجال الحديد، ولعل الاستثمار في مجال الحديد من أهم الأمور التي تركها لنا الفرنسيون بعد الاستقلال، ولكن كما ذكرت ما زلنا في دوامة أننا لا نصنع منه إلا الخام، وليس لدينا قيمة مضافة كبيرة أن نصنعه بالحديد؛ ولذلك أسباب يقول خبراء "سنيم" إن سعر الطاقة يمنعهم من تحقيق الكثير، مرت "سنيم" بعدة مراحل وتتعلق حالتها أساسا بسعر الحديد وكما تعلم نحن ليس لدينا تأثير قوي في السوق العالمية التي تحتلها تقريبا الصين والبرازيل واستراليا، نحن نحتل مرتبة جيدة في هذا المجال على المستوى الإفريقي لكن العائدات عندنا في الغالب تهز ميزانية الدولة، كذلك هناك انعكاس اجتماعي على النشاط المنجمي فهناك مناطق مثل ازويرات تقوم عليه وحين تنزعه منها لن يكون لها ذكر، مرت "سنيم" بعدة مراحل وهناك خبراء يرون أنه ينبغي أن يكون فيها شركاء أكثر بحيث تتنازل موريتانيا عن جزء منها  لتتوفر سيولة ورأس مال أكبر حتى يمكن الانجاز أكثر، ولكن من أهم المشاكل التي واجهتها في الآونة الأخيرة هو التدخل السياسي في التسيير، وصلنا فترة ولد الطائع و"سنيم" حالتها مقبولة وقبل ذلك كانت بعيدة عن السياسيين لكن منذ أن دخلها السياسيون أصبحت تعيش فوضى عارمة، وبدأت تتدهور؛ لأنها تدخلت في مشاريع لا علاقة لها بها وكان ينبغي للقائمين عليها أن يدخروا مواردها في أوقات الرخاء حتى يواجهوا بها أوقات الشدة، يمكن القول للأسف إن "سنيم" أضعفت من خلال التسيير المباشر من رئاسة الجمهورية، وأصبح التعيين فيها يخضع للرشوة والمحسوبية وغير ذلك.. ينبغي أن نضع في الاعتبار أن جميع ساكنة ولاية تيرس الزمور وحتى بعض ولاية داخلة نواذيبو يعيشون على الانعكاس الاقتصادي للأعمال المنجمية ويتأثرون بتأثره، وبالتالي نرجو أن تركز الدولة على المجال وتطوره، ويمكنني القول إن التعيين الأخير استهدف شخصا من داخل المؤسسة ويعرفها حق المعرفة، وأرجو أن يكون على قدر المسؤولية ويوصل "سنيم" إلى أبعد الحدود.

 

موقع الفكر: عانت مؤسسات الدولة من سياسة عرجاء تمثلت في إفشالها 

وتدميرها فهل هذا ناتج عن سوء الحكامة أم نتيجة لعدم وضوح الرؤية؟

الدكتور محفوظ ولد عمي: هناك فترة من المأمورية الثانية للرئيس السابق ولد عبد العزيز يمكن القول إن الدولة الموريتانية أوشكت فيها على الإفلاس الحقيقي لأغلب شركاتها الوطنية مثل " SNAT" و"ENIR" و"سونمكس" ومفوضية الدمج وغيرهم كثير "..

 في بعض الأحيان تحس وكأنه ليس هناك شعور بالمسؤولية اتجاه أمور أساسية كهذه، كيف تفسر - حتى نأخذ مثالا ملموسا - قول الرئيس السابق ولد عبدالعزيز أنهم قاموا بإنشاء الكثير من الطرق ومع ذلك لم يستطيعوا حفظ الشركة المسؤولة عن صيانتها؟ من لم يستطع الصيانة ليس مؤهلا لأن يقوم بشيء جديد ولذلك المثل الحساني يقول "أخير كوام من جياب" مع أننا في بعض الأحيان قد نحتاجهم جميعا لكن حاجتنا أمس للأول. أفلست شركة صيانة الطرق وأفلست كذلك "سونمكس" التي كان لها دور غير مباشر في تحديد الأسعار، لماذا الدولة اليوم لا يمكنها أن تقوم بشيء في مجال الأسعار؟ الإجابة أنها فقدت الآلة التي كانت تحكم بها الأسعار وهي "سونمكس"، قل لي أيضا لماذا جميع الطرق الرئيسية يشتكي أهلها من رداءتها ومع ذلك نحن ننشئ الطرق الكثيرة داخل المدن؟ كيفت تستطيع بناء دولة وأنت لم تستطع إنشاء طرق رئيسية فيها حتى تتجنب كثرة ضحايا حوادث هذه الطرق الذين يتجاوزون عدد ضحايا كورونا، ولماذا جميع الشركات التي ذكرت لك تعرضت لإفلاس حقيقي، كل هذه اختلالات حقيقية وفوضى عارمة ينبغي أن يوضع لها حد، أضف إلى ذلك أن المستفيد الأكبر من عقارات هذه الشركات التي أفلست هم الخصوصيون وهذا فساد كبير وإذا لم يتم توقيفه والحد منه فسيظل الحديث عن التنمية ومعركة النماء مجرد حديث نظري

 

موقع الفكر: ما تقويمكم للقانون العقاري؟

الدكتور محفوظ ولد عمي: تلك مشكلة تحتاج محاضرة مستقلة، وسأقول فيها شيئا مختصرا، في فترة الرئيس ولد هيدالة وضعت فيه مسائل جريئة بما يخص تصور العقار وتصور إحياء الأرض والاستثمار فيها،  وكان أغلب تلك المسائل مأخوذ من الفقه المالكي، لكن يمكنني أن أقول لك إن التجربة الإفريقية أثبتت أن دعم المزارعين الأصليين والاستثمار فيهم أفضل من التعامل الصناعيين الجدد الذين يدعون أنهم يجلبون الاستثمار، لو فكر المستثمرين وأصحاب رؤوس الأموال الذين لديهم إمكانيات ضخمة لأقاموا شراكة مع المزارعين التقليديين يكون كلا الطرفين هو الرابح فيها، في تلك الحالة لن يشعر المزارعون التقليديون أن أرضهم أخذت دون مقابل، كما سيشعر المستثمرون أنه أصبحت لديهم عناصر من عوامل الخبرة وهم المزارعون التقليديون وهذا هو الذي سينهض بالتنمية الريفية.

 

موقع الفكر: هل تعاني الثروة المائية من هدر وتبذير في ضوء حالة العطش المتمددة في الوطن؟

الدكتور محفوظ ولد عمي: تلك المشكلة سببها سوء التخطيط فبعض المشاريع إذا أردت لها النجاح ينبغي أن تضع لها أفقا زمنيا فالمشروع ليس بالضرورة بإمكانه أن يسد الحاجة بمجرد انتهائه..

المدن الداخلية أصبح لديها طابع موسمي وهو أن أغلب سكانها الأصليين لا يأتونها في مواسم معينة، يمكنني أن أذهب بك إلى ولاية لبراكنة التي أعرفها وأدلك على مدن وقرى كاملة تؤكد ذلك، وهذا دليل على أن أغلب الناس هاجر إلى المدن الأساسية الكبرى وحين تقوم بحل مشاكل تلك المدن مثل نواكشوط ونواذيبو وكيفة فاعلم أنك قمت بحل مشاكل 80% من المجتمع، ومن الغريب أنك تجد من يذهب إلى الداخل للبحث عن الفقراء وهم كثر في المدن الكبيرة، وما تشاهده من أزمات العطش ومشاكل الكهرباء هو ناتج عن عجز في التخطيط.

 المشاريع ينبغي أن تتم دراستها ولو على المدى البعيد وأن تراعي النمو الديمغرافي، ولذلك هناك مرحلة ثانية من "آفطوط" ينبغي أن تبدأ، وفي نواذيبو أيضا يوجد نقص شديد في المياه وكان ينبغي أن تتم زيادة الآبار عن طريق بحيرة "بولنوار" لأن مدينة نواذيبو أصبحت من المدن الكبيرة لما فيها من نشاط اقتصادي ولذلك أصبح الإقبال عليها كثير من طرف من يريد العمل في مجال الصيد أو الحديد.

 الكثير من الناس غادروا القرى وأعرف بعض المدارس تم بناؤها في الداخل ولم تجد من يدرس فيها، غالبية أهل القرى دخلوا المدن وأصبحت علاقتهم بالقرى علاقة موسمية وهذا يفرض أن تكون استراتيجية واسعة النطاق لتلبية حاجة المواطنين في هذه المدن، وهناك أمور كثيرة جعلت الإقبال على المدن يزداد يوما بعد يوم ومن أهمها أن الرئيس السابق ولد عبدالعزيز في مأموريته الثانية قام بتوزيع الكثير من الأراضي في العاصمة وهذا من إيجابياته التي تذكر له، لكنه يجعل الحاجة هائلة في الطلب على الماء والخدمات الأساسية  مما يفرض تخطيطا واسعا لتلبية تلك الحاجات، فيما يخص الداخل هناك استراتيجية لتوفير الماء في بعض المناطق الشرقية التي تعاني من عدم توفره وهي استراتيجية "مشروع اظهر" ولكن للأسف تلك الاستراتيجية كان فيها نقص؛ لأنها منذ البداية لم يوفر لها من الوسائل ما تصل به مدينة كيفة، كما أن هناك غياب لسياسة الدولة في الاستفادة من السدود في موسم الأمطار، في بعض المناطق الشرقية تكون الأمطار قوية لدرجة أنه أحيانا تحدث فيضانات، فلو كانت هناك خطة للاستفادة من تلك المياه لكان ذلك أحسن وهذا أمر لابد له من استراتيجية واسعة، معناها أننا لابد لنا من خطط استراتيجية للتغلب على مشكل المياه خصوصا في المدن الكبيرة كالعاصمة، هناك استراتيجية أصبحت الكثير من الدول توفر بها الماء الشروب وهي "تحلية المياه" فلماذا لا نقوم بها نحن الذين لدينا محيط كبير، كما ينبغي لنا أن نعتني بالماء المعدني مثل المياه التي كانت عندنا في "اديني" ونقوم بزيادة الكمية القادمة من السينغال وهذا كله يحتاج طاقم لديه همة عالية ورؤية واضحة يمكنه من خلالها تحقيق المصاعب

 

موقع الفكر: هل من كلمة أخيرة

 

الدكتور محفوظ ولد عمي: أشكركم على إتاحة الفرصة ويمكنني القول إننا تناولنا بعض الأمور بعجالة وربما تجاوزنا الكثير من الأشياء المهمة التي لم أقلها لأنني لم أحضر لهذا اللقاء، سعدت بمقابلتكم وأرجوا أن تظلوا من حملة مشعل الفكر.