مقترحات على هامش تشاور وزارة الداخلية- محمد الأمين الفاضل

حضرتُ البارحة ( مساء الاثنين 11 مارس 2024) للقاء التشاوري الخاص بالنقابات والمنظمات غير الحكومية، والذي نظمته وزارة الداخلية واللامركزية في إطار الأيام التشاورية الوطنية المتعلقة بالتحضير التشاركي للانتخابات الرئاسية وتطوير الحكامة السياسية، حضرتُ لهذا اللقاء، وأعددت مداخلة، ولكني لم أتمكن من تقديمها، وذلك لاضطراري للانسحاب في وقت متأخر من الليل من قبل أن ينادى باسمي.
هناك مشكلة تتكرر دائما في مثل هذه اللقاءات، وهي أن الكثير من المتدخلين يطيلون الكلام ودون أن يقدموا مقترحات محددة، وهو ما يكون دائما على حساب الوقت وعلى حساب مخرجات هذه اللقاءات، وكان الله في عون من يكلف بإعداد التقارير في مثل هذه اللقاءات.
لم أتمكن من تقديم المداخلة خلال اللقاء، ولكن ذلك لن يمنعني من الحديث في هذا المقال عن بعض النقاط والمقترحات التي كنتُ أود الحديث عنها بشكل مختصر في مداخلتي.
(1)
كَثُر الحديث في تدخلات المشاركين عن اللجنة المستقلة للانتخابات، وعن الحكماء الذين هم في الغالب شخصيات سياسية اقترحتها أحزاب سياسية، ومع ذلك يُطلب منهم الحياد في إشرافهم على العملية الانتخابية التي تتنافس فيها الأحزاب السياسية التي اقترحتهم ليكونوا حكماء اللجنة!!
اللافت في الأمر أنه قد جرت العادة مع إعلان نتائج أي انتخابات تنظم في بلادنا، أن تصدر أحزاب المعارضة وبعض الأحزاب الموالية التي لم تفز بالمقاعد التي كانت تتوقع، بيانات تتحدث فيها عن التزوير الواسع الذي شاب العملية الانتخابية، وكثيرا ما ترفض أحزاب المعارضة نتائج انتخابات أشرفت عليها لجنة حكماء هي من اختارت نصف أعضائها، وكثيرا ما تدعو المعارضة للنزول إلى الشارع تنديدا بتلك الانتخابات، وذلك من قبل أن تنسى أو تتناسى مع مرور الوقت ملف الانتخابات.
السؤال الذي يطرح نفسه هنا : ما أهمية وجود حكماء من أحزاب المعارضة، ما دامت أحزاب المعارضة ستتحدث بعد كل عملية انتخابات عن تزوير غير مسبوق شاب العملية الانتخابية؟
هناك أيضا سؤال آخر يُطرح كثيرا من طرف المجتمع المدني : لماذا لا يكون حكماء لجنة الانتخابات من المجتمع المدني بدلا من الأحزاب السياسية.
لا أملك إجابات على هذه الأسئلة، ولكن لدي مقترح بخصوص هذه النقطة، وهو أنه يجب الاستمرار في منح الأحزاب السياسية حق اختيار حكماء اللجنة المستقلة للانتخابات، ولكن مع اشتراط أن يختاروا شخصيات من المجتمع المدني ليست لها أي انتماءات حزبية.
بهذا سنرضي المجتمع المدني دون أن نُغضب الأحزاب السياسية. 
(2)
هناك أمران متناقضان يجب أن نوفق بينهما، وهما الحرية في تشكيل الأحزاب السياسية، والتي يجب أن تبقى مضمونة دائما، وما يترتب على هذه الحرية من تمييع للعمل السياسي، بل وما يترتب عليها من تدمير للعملية السياسية.
إن فتح المجال للترخيص للأحزاب السياسية دون قيود صعبة سيعني ميلاد العديد من الأحزاب السياسية الصغيرة، والتي ستتحول إلى "مقاولات خاصة" تبيع الترشح في المواسم الانتخابية لرجال الأعمال وإلى كل ميسور يرغب في الترشح.
إن الترخيص لحزب سياسي لم يعد في السنوات الأخيرة يختلف عن منح رخصة صيد لرجل أعمال، فكلاهما أصبح مصدرا يدر أموالا كثيرة دون أن تتحقق الفائدة المرجوة من منح تلك التراخيص.
مقترحي في هذا المجال، وهو سيغضب ـ وبلا شك ـ  كل أولئك الذين أصبحوا ينظرون إلى ترخيص الأحزاب نظرة تجارية بحتة، مقترحي في هذا المجال يتمثل في :
ـ الاستمرار في حل الأحزاب السياسية التي فشلت في تحقيق النسبة المطلوبة التي يفرضها القانون؛
ـ رفع نسبة حل الأحزاب مستقبلا لتصل إلى  3%  بدلا من 1%، فيحل كل حزب لم يحصل على 3% على الأقل خلال موسمين انتخابيين متتاليين؛
ـ وضع شروط أقسى أمام أي جماعة من الموريتانيين تريد ترخيصا لحزب سياسي، منها أن يغطي الأعضاء المؤسسون لمشروع الحزب نصف ولايات الوطن على الأقل، وأن تكون  بينهم نسبة عالية من حملة الشهادات الجامعية، وأن تكون لهم القدرة على فتح مقرات في نصف عواصم ولايات الوطن، ويمكن أن تُضاف شروط أخرى.
(3)
هناك مسألة تم الحديث عنها خلال الكلمة التأطيرية للأمين العام لوزارة الداخلية، وكذلك خلال مداخلات الحضور، وهي في غاية الأهمية، وتتعلق بضرورة ابتعاد المجتمع المدني عن الممارسة السياسية، وضرورة ابتعاد الأحزاب السياسية عن مجالات تدخل المجتمع المدني.
هذا الفصل لن يتحقق إلا إذا كانت هناك إرادة حكومية جادة، فالحكومات هي التي كثيرا ما تُقحم المجتمع المدني في السياسية، ولأغراض سياسية آنية.
أذكر أنه في العام 2013 أصدرت رابطة العلماء الموريتانيين واللجنة الوطنية لحقوق الإنسان بيانات داعمة لمرشحي حزب الاتحاد من أجل الجمهورية، فإذا كانت الحكومات لا تتورع عن جر رابطة العلماء (أهم منظمة مجتمع مدني، وذلك لمكانتها الدينية) ولجنة حقوق الإنسان ( الأهم حقوقيا) إلى التجاذبات السياسية، فكيف سيكون حال الآخرين؟
لابد أن أشير هنا إلى أن المعارضة لا تتورع هي أيضا عن اقحام المجتمع المدني في السياسية، وقد تفعل ذلك اضطرارا في بعض الأحيان. في مطلع العام 2014 تأسس المنتدى الوطني للديمقراطية والوحدة، والذي ضم إلى جانب الأحزاب السياسية المعارضة بعض منظمات المجتمع المدني والنقابات، بل إن رئاسة هذا المنتدى منحت في فترة من الفترات لشخصية قانونية من قطب المجتمع المدني.
(4)
كثُر الحديث عن ضرورة تأسيس مرصد وطني لمراقبة الانتخابات، وهذه دعوة مهمة جدا، خصوصا وأن التجربة السابقة للجنة المستقلة للانتخابات لم تكن بتلك النصاعة التي تبرر أن يترك لها ـ ولوحدها ـ ملف الانتخابات بشكل كامل.
في مطلع العام 2018 نظمنا في "تنظيم من أجل موريتانيا" مؤتمرا للتناوب السلمي على السلطة بجهود ذاتية، وكانت من ضمن توصيات ورشاته الخمس تأسيس مرصد لمراقبة الانتخابات، وقد أسسنا بالفعل ذلك المرصد، وشرفني الأخوة في التنظيم بتولي رئاسته، وقد تمكنا في المرصد من تكوين مئات الشباب في مجال مراقبة الانتخابات، كما نظمنا بعض التكوينات لصالح حملات بعض المرشحين، وأطلقنا منصة لمراقبة الانتخابات، هذا فضلا عن إصدار ميثاق شرف انتخابي وقعه كل المترشحين لرئاسيات 2019 باستثناء المرشح بيرام.  
لقد قمنا بالفعل بعمل كبير، وبجهود ذاتية، فلا السلطة حينها كانت راغبة في دعمنا، ولا الهيئات الدولية التي توفر الدعم لمنظمات المجتمع المدني ساعدتنا، وذلك رغم زيارات متكررة للمرصد نظمتها بعثات من الاتحاد الأوروبي ومعهد كندي وبعض الهيئات الأخرى.
هناك منظمات مجتمع مدني تدعمها الأنظمة الحاكمة لأغراض سياسية، وهناك منظمات مجتمع مدني أخرى تدعمها الهيئات الغربية لأغراض أخرى، وفي الغالب فإن منظمات المجتمع المدني التي لا تعمل وفق مزاج السلطة ولا وفق مزاج الغرب يصعب عليها أن تجد تمويلا يمكنها من أداء مهامها النبيلة. 
في ختام هذه الفقرة أقول ومن خلال تجربة ميدانية بأن تأسيس مرصد وطني لمراقبة الانتخابات سيبقى مطلبا مهما، وأن دعم منظمات المجتمع المدني الجادة سيبقى أمرا ضروريا. 
(5)
أختم هذا المقال بنقطة تتعلق بالبطاقة اللاغية، فمن غير المقبول أن تستمر البطاقة اللاغية في الحصول على نتيجة أعلى من نتيجة أكبر أحزاب المعارضة، وأن تستمر في الاحتفاظ  بالمرتبة الثانية في أي انتخابات تنظم في بلادنا.
هذه مسألة يجب أن تتوقف، ولن تتوقف إلا بالمزيد من التوعية والتحسيس، وكذلك بوضع المزيد من الشروط التي يمكن أن تحد من الفوضى في الترشح، والفوضى في تأسيس الأحزاب، دون إلغاء الحق في الترشح والتحزب وغير ذلك من الحقوق التي يكفلها القانون.
إن الجمع بين حرية التحزب والترشح من جهة ووقف الفوضى في التحزب والترشح وتمييع العمل السياسي من جهة أخرى يشكلان طرفي معادلة صعبة يجب أن نبحث بجد عن حلول مقنعة لها، حلول لا تعتدي على حرية الأفراد في الترشح والتحزب، وتقف في الوقت نفسه ضد فوضى الترشح وتأسيس الأحزاب وتمييع العمل السياسي.
حفظ الله موريتانيا..