للعقلاء فقط/ الأستاذ محمد الأمين الفاظل

(1)

" وإلى الذين استعجلوا في سنة حصاد خمس سنوات، أقول اليوم: لا حرج عليكم، ولكن امنحوا من يختارهم الشعب مستقبلا لحكم موريتانيا ما يمنحه الدستور والناخبون من فرص العمل، ولا تضيعوا على بلدكم المزيد من فرص البناء والاستثمار."

فقرة من خطاب استقالة الرئيس الراحل سيدي ولد الشيخ عبد الله رحمه الله.

كان خطاب الاستقالة مؤثرا في مجمله، وكانت هذه الفقرة بالذات هي الأقوى تأثيرا في نفسي..لقد اعتقدتُ حينها أنها موجهة لي شخصيا، وإلى كل أولئك الذين عارضوا الرئيس الراحل سيدي ولد الشيخ عبد الله في وقت مبكر، وساهموا بشكل مباشر أو غير مباشر، بوعي أو بغير وعي، عن قصد أو غير قصد، فيما سيحدث بعد ذلك في صبيحة السادس من أغسطس 2008.

لقد انشغل الكثير من المهتمين بالشأن العام ـ وكنتُ أحد أولئك ـ برصد وتتبع أخطاء الرئيس الراحل سيدي ولد الشيخ عبد الله خلال فترة حكمه القصيرة، وكنتُ كغيري أتحدث عن تلك الأخطاء في الفضاءات العامة، وربما بالغتُ في بعض الأحيان عند الحديث عنها، وكنتُ أعتقد أني بذلك أقوم بأنبل عمل لصالح وطني، وقد فاتني أني كنتُ أساهم ـ وبغير وعي وعن غير قصد ـ في تهيئة الأجواء للانقلاب الذي سيحدث بعد ذلك.

لا شيء أكثر إيلاما من أن تكتشف في الوقت بدل الضائع أن "العمل النبيل" الذي كنتُ تقوم به لمصلحة وطنك، لم يكن في جوهره وفي مآلاته عملا نبيلا، بل كان مجرد مشاركة غير واعية في "تهيئة الأجواء" لواحد من أسوأ الانقلابات في تاريخ البلاد.

(2)

نشرتُ في يوم 26 ديسمبر 2018 رسالة مفتوحة موجهة إلى رئيس موريتانيا القادم، ولم يكن حينها الرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني قد أعلن عن ترشحه. وقد جاء في تلك الرسالة المفتوحة تعهدان، وهذا نص أحدهما :" الأمر الثاني الذي أتعهد لكم به من الآن إن كان في العمر بقية، هو أني سأكون من داعميكم بعد وصولكم إلى السلطة، ولا يهمني هنا أن تكونوا المرشح الذي دعمته خلال الحملة الانتخابية لرئاسيات 2019، أو المرشح الذي عارضته خلال تلك الحملة.

سيدي الرئيس،

سأدعمكم بعد تنصيبكم رئيسا للجمهورية، ولكن بشرط وحيد ووحيد فقط، وهو أن تظهروا استعدادكم الكامل لانتزاع كل صلاحياتكم كرئيس للجمهورية،وعندما تستعيدون تلك الصلاحيات كاملة غير منقوصة، فحينها سيكون لكل مقام مقال."

لقد كتبتُ هذه الرسالة المفتوحة وأنا على قناعة تامة بأن "التناوب الآمن" على السلطة يعدُّ من أولوية الأولويات في بلد كبلدنا عرف الكثير من الانقلابات، ويقع في منطقة من العالم تعيش عدم استقرار سياسي بسبب الصراع على السلطة.

قد لا يعي البعض أهمية "التناوب الآمن" على السلطة، وقد لا يُدرك البعض الآخر أنه لو قُدِّر لهذه البلاد أن تُحكم من بعد عشرية الرئيس السابق من طرف رئيس آخر غير الرئيس الحالي، أيا كان ذلك الرئيس، لكنا اليوم نعيش أزمة سياسية وأمنية في منتهى الخطورة، ذلك أن الرئيس السابق كان يخطط للعودة إلى السلطة، وذلك ما أثبتته الأحداث خلال السنتين الماضيتين، ولم يكن هناك من كان بإمكانه أن يوقف ذلك الطموح غير الرئيس الحالي.

وقد لا يعي البعض الآخر خطورة النفق المظلم الذي ستدخل فيه البلاد لو فشل الرئيس الحالي لا قدر الله في إدارة البلاد، أو استقال من قبل اكتمال مأموريته، كما طالب بذلك جنرال متقاعد يبدو أنه لا يفقه الكثير عن واقع البلاد.

إن أي عاقلِ فطن إن تأمل في حال البلاد، وفي حال الأحزاب السياسية والقادة السياسيين، وفي تعقيدات المشهد السياسي، سيتوصل ـ دون عناء ـ إلى استنتاج واضح مفاده أن الرئيس الحالي ـ ولأسباب عديدة لا يتسع المقام لبسطها ـ هو وحده الذي كان قادرا على أن يخلف الرئيس السابق، وهو وحده القادر على إدارة شؤون البلاد في أول مأمورية تأتي بعد عشرية الرئيس السابق.

لا يعني هذا الكلام أنه ليست هنا أي أخطاء تستحق منا جميعا أن ننتقدها، ولا أن نضغط من أجل تصحيحها.. نعم هناك أخطاء وهناك حاجة كبيرة للضغط على النظام القائم من أجل تصحيح تلك الأخطاء، ولكن ذلك الضغط يجب أن يكون مدروسا ومحكما فيه ومحميا في الوقت نفسه من أي محاولة استغلال سياسي قد يسعى إليها البعض من أجل التشويش على مسار التناوب الآمن على السلطة.

(3)

لقد عرفنا في الأيام والأسابيع الماضية بعض الجرائم الفظيعة والبشعة، ولقد طالب الكثير من الموريتانيين ـ وحُقَّ له ذلك ـ بضرورة التصدي لتلك الجرائم، ولكن الغريب في هذا الأمر هو أن يتحدث الرئيس السابق عن الانفلات الأمني.

إحصائيا فإن المعدل السنوي للجريمة في عهد الرئيس الحالي هو أقل من المعدل السنوي للجريمة في عهد الرئيس السابق، وذلك على الرغم من جائحة كورونا التي زادت من نسبة الجريمة في كل بلدان العالم. ومن حيث مستوى فظاعة الجرائم وبشاعتها، فإن الجرائم الأخيرة حتى وإن كانت فظيعة و بشعة وصادمة، فإنها ليست بمستوى فظاعة وبشاعة بعض الجرائم التي تم تسجيلها في العشرية.

لا يعني هذا الكلام ـ بأي حال من الأحوال ـ أنه ليس من حقنا أن نطالب السلطة الحالية بالعمل على الحد من الجريمة، ولا يعني أنه ليس من واجبها هي أن تعمل ـ وبجد ـ على الحد من الجريمة..لا يعني هذا الكلام أي شيء من ذلك، وإنما يعني فقط أنه ليس من حق أولئك الذين فشلوا في توفير الأمن في السنوات الماضية، ولا أولئك الذين لم ينددوا بذلك في حينه، ليس من حق هؤلاء ولا أولئك أن يحدثونا اليوم عن غياب الأمن وعن الانفلات الأمني.

هناك بالفعل من يريد أن يستغل سياسيا الجرائم التي وقعت مؤخرا، ومن واجبنا أن نقف ضد ذلك الاستغلال، ومن مظاهر ذلك الاستغلال:

1 ـ إطلاق الشائعات التي تزيد من خوف المواطنين وقلقهم تزامنا مع أي جريمة يتم تسجيلها، ولعلكم تتذكرون الفيديو الشهير الذي تم تداوله بشكل واسع، والذي حاولت من خلاله سيدة ظهرت فيه أن تستغل نزاعا على قطعة أرضية، وأن تصوره على أنه محاولة للاعتداء بالسكاكين على مواطنين قرب حاكم توجنين، وأن حرس الحاكم أغلقوا مقر الحاكم أمام طالبي النجدة من المواطنين؛

2 ـ محاولة الانحراف بأي تحرك سلمي للمطالبة بتوفير الأمن إلى حراك سياسي ضد النظام القائم؛

3 ـ محاولة الانحراف بالاحتجاجات السلمية عن أهدافها ومسارها وذلك من خلال استغلالها لإثارة الشغب.

إننا بحاجة إلى المزيد من الحذر