نسائم الإشراق الحلقة رقم (1633) 3 يوليو 2021م،22 ذو القعدة 1442هـ، مذكرات الشيخ د.يوسف القرضاوي الحلقة رقم (663)

 

ومنها، وهو يصف حاله وبكاءه حينما ودعهم وودعوه راجعين إلى حلب:
دمعـي الـذي كتمتـُهُ جَلـَدا         لما تبـاكوا عندمـا ركبـوا
حتـى إذا سـاروا وقد نزعوا      من أضلعي قلبـا بهـم يجبُ
ألفيـتـُني كالطفل عاطفــة         فإذا بـه كــالغيث ينسـكبُ
قد يَعـجـب العذال من رجل      يبكي، ولو لـم أبـكِ فالعجب
هيهـات مـا كـل البكا خوَر     إني - وبي عـزمُ الرجـالِ - أبُ
قصيدة فريدة:
لقد هزّتني هذه القصيدة الفريدة، لما احتوته من قوة ا لتصوير، وروعة التعبير، عن مشاعر الأبوة الحانية، وعواطف الطفولة اللاهية، ودقائق الخلجات النفسية، التي قد تراها متناقضة الظاهر، منسجمة الباطن، وما فيها من صورة حية رسمها الحرف الناطق، والحسّ الصادق، والشعر الرائق، المعبِّر بسلاسلة منقطعة النظير، عن أعمق أعماق المشاعر، وأحنى حنايا العواطف، في لغة جزلة، وجمل عذبة، وعبارات رشيقة، وأسلوب أخّاذ، متدفق كالعذب الزلال، والسحر الحلال.
وعرفت بعد ذلك أن الشاعر والأديب الكبير الأستاذ عباد العقاد، كان من أشدّ المعجبين بهذه القصيدة، حتى قال عنها في ندوة من ندواته المعروفة، التي كان يعقدها في منزله بمصر الجديدة، في صباح كل جمعة، وكان ذلك في رمضان 1381هـ، قال: لو كان للأدب العالمي ديوان من جزء واحد، لكانت هذه القصيدة في طليعته! كما عرفت أنها تُرجمت إلى الفرنسية، وقُورنت بقصائد الشاعر الفرنسي الكبير «فيكتور هوجو» في الأطفال.
وقد نشرها الشاعر بعد ذلك في ديوانه «ألوان طيف» كما نشرها كذلك في ديوان «أب» مع تسع قصائد أخرى حول الأبوة والبنوة، وقد كتبه بخط يده، ونشر مصورًا كما هو بخطه الجميل، وقال في تقديمها: عشر قصائد من وحي الأبوة... لوحات فيها مكابدة ومعاناة... صور وجدانية... معدِّدة متحولة، يعيش ألوانها وأكوانها كل إنسان أب، وكل أب إنسان!
ديوان «مع الله»:
وقرأت للأستاذ الأميري ديوانه الرائع «مع الله» في طبعته الثانية، وقد تفضل بإهدائه إليّ.
كان ديوان «مع الله» صلوات وابتهالات، وترنيمات إلهية، كأنها من مزامير داود ... إنه شعر يحلِّق في آفاق السماء، ويغوص في أعماق النفس، ويسيح في جَنَبات الوجود ويستحضر معيَّة الله عز وجل في كل مكان، وفي كل حين، وفي كل حال: في ابتسام السَّحر ... في التماع القمر... في تموُّج الغيوم... في احتباك النجوم... في الربيع الطلق... في الخريف الحزين... هو «مع الله» في سجود... في شرود... في وضوح... في غموض... في نزوة... في نشوة... في حزن شديد... في جو سعيد... في الأفق المديد... في الغور البعيد... «مع الله».
وقد قدم الشاعر لديوانه بكلمات هي شعر منثور، أو نثر «مشعور»، أو قبسات من نور، تخاطب العقل والوجدان، وكل الكيان في الإنسان