تركت بصمتها ورحلت/ حبيب الله أحمد

16 مارس 1981 كانت الصحفية الأكثر شهرة فى موريتانيا تستعد لتقديم نشرة الأخبار (من استديوهات إذاعة الجمهورية الإسلامية الموريتانية ) كما تعودت أن تخاطب مستمعيها بداية نشراتها بحنجرتها الخالدة

فجأة دخل عليها الأمير الضابط احمد سالم ولدسيدى رحمه الله وهو يحمل بيانا طلب منها بجلال الفرسان قراءته فتربيته الاميرية واخلاقه العربية وعقيدته العسكرية الصارمة كلها تجعله لايرفع سلاحه ولاحتى صوته فى وجه امراة لذلك كان تعامله معها طلبا لاامرا رغم حساسية ومصيرية مهمته ودور إذاعة البيان فى حسم الأمور يومها

لم تكن المذيعة الشابة التى واجهت الأمير النبيل سوى الناها منت سيدى

كانت وقتها بين قوسين ضيقى الوقت على التفكير فهذا الذى امامها سليل إمارة الترارزة وفخر الجيش الموريتاني وعلى منكبيه تاريخ من قيم الشجاعة والفروسية

وعلاقته بها ك( بوتيلميتية) علاقة خاصة من زبدة علاقة الإمارة بالمشيخة تاريخيا فى ولاية الترارزة

وهذا الذى تقوم به عمل وطني مهني يكفر بالولاءات الضيقة

كان عليها أن تختار بسرعة البرق وتتصرف طرفة عين وهي تلقى نظرة خاطفة على محتوى البيان الذى هو إعلان عن نجاح كوماندوز مدعوم مغربيا فى إسقاط نظام هيداله المحسوب يومها على البوليساريو

لم تبحث الناها ساعتها عن( الناقة) ولا عن( الجمل) بل لبت نداء الضميرين الوطني والمهني فذكرت للأمير الهادئ الرزين ان لديها مشكلة فى البث وعليها استدعاء فني فى مكان آخر من الإذاعة لتشغيل الأجهزة

وماكان ذلك إلا مناورة اقتضاها الموقف الرهيب فكان أن تحرك طاقم المداومة فى الإذاعة لإبلاغ السلطات بوجود أحد ابرز الانقلابيين فى مبانى الإذاعة

لم يكن الأمير راغبا فى إراقة الدماء واختياره لمهمة فى الإذاعة لم يكن اعتباطيا فهو ليس مهتما بمواجهة رفاق سلاحه إلا إذا املت عليه ظروف قاهرة ذلك

لم يناقش الامير الصحفية فقد كان واردا بالنسبة له أن تستهدف هوائيات البث ولو عن طريق الخطإ فلحظة الانقلاب كل شيئ وارد ومحتمل

تم اعتقال الأمير يومها ويقال إنه استسلم بهدوء مستفز ولم يطلق رصاصة واحدة وهو الذى تعرفه جبهات حرب الصحراء فارسا أصيلا لايتراجع ولاينثنى ولايهاب المنايا ولاترهبه الشظايا الملتهبة والجثث المتفحمة والافق المحترق

يحسب للناها منت سيدى ذلك الموقف الوطني المهني الشجاع الذى كان له بالغ الأثر فى إحباط المحاولة الانقلابية الأكثر دموية وتعقيدا وبصمات خارجية فى تاريخ البلاد

اليوم تغادرنا الناها إلى الرفيق الأعلى بهدوء

تركت بصمتها ورحلت

رحلت بتاريخ نقي من الوطنية والمهنية والكفاءة والصدق

كانت ايقونة الإعلام الموريتاني طيلة تاريخه منذ الاستقلال

على صوتها الجميل المميز عاشت اجيال من الموريتانيين الذين احبوها وحببت اليهم الاذاعة بحضورها القوي وحنجرتها الانيقة ولغتها الفخمة

عبر الاثير كان صوتها يوزع ظلال البلاد وعبيرها وينشر شذى وهادها وجبالها وبطاحها

كان يرشرش عطر باسقات النخيل وحداء طيور ضفاف الجنوب وعناق رمال الشرق مع شاطئ الغرب

كان صوتا به من الشمال نضارة ومن الشرق قيثارة ومن الجنوب حضارة ومن الغرب منارة

الناها كانت (شجرة در) الاذاعة الوطنية و(زنوبيا) التلفزيون و(بلقيس( الإعلام الوطني لعقود من الزمن

اليوم ترحل طاهرة التاريخ نظيفة اليد عصامية الكفاح لتنام بهدوء فى ثرى وطن احبته وكافحت من أجله واختزنها فى ذاكرة لاتنطمس صوتا لايغيب ولن يغيب

اللهم اغفرللناها منت سيدى وارحمها وتجاوزعنها