الأستاذ محمد سالم جدو في لقاء مع موقع الفكر... لدي حوالي 40 كتابا نشر حوالي نصفها حتى الآن

حرصا منا في موقع الفكرعلى إشراككم في كل ما يهم هذا البلد ،وكل ماهو مرتبط بمصيره ومستقبله ونهضته وتنميته وسيره قدما في طريق التفاهم والتصالح مع الذات والهوية، ها نحن نستضيف اليوم إحدى الشخصيات الفاعلة والمؤثرة ، شخصية تميزت بإ سهامها المعرفي وعطائها المتعدد في دروب ثقافية وأدبية وإعلامية، وقد حاورناه حول الواقع الثقافي في البلد ،وأمثل الطرق للنهضة به ونفض الغبار عنه ،كما شمل الحوار كذلك بعض المواضيع الأخرى، وأهم الجهود المبذولة لإصلاحها، كل ذلك تجدونه بإذن الله تعالى في المقابلة التالية مع الأستاذ محمدُّ سالم بن جدو.

موقع الفكر: إذا طلب من الأستاذ محمدُّ سالم أن يقدم نفسه فماذا يقول؟

 

الأستاذ محمدُّ سالم بن جدو: مرحبا وشكرا..

على حسابي في الفيسبوك عرّفت نفسي بأني "فرد من المسلمين" وهذا تعريفي الحقيقي؛ فما أنا إلا "شاة دية" من مجتمعي ثم بني ديني..

لكن الإشكال يبرز لو طرح السؤال على غيري ممن عرفوني وخالطوني؛ فمنهم من يقول: أستاذ، وقد يصر كل منهم على أني أستاذ المادة كذا وينفي ما سواها، لمجرد كونه عرفني مدرسا لها، ولعله لا يرى إمكانية تدريسي مواد مختلفة.

آخرون سيقولون: باحث، ويقول آخرون: إعلامي، ويقول آخرون: مؤلف، أو خبير لغوي، أو قارئ سبعي أو محسوب على الفقه والأصول، أو كاتب، أو شاعر فصيح، أو أديب شعبي، أو كذا أو كذا. ويقول آخرون أقل: من أول من عرف المعلوماتية من سكان هذه البلاد، وله خبرة في إدارة المواقع الإلكترونية، وقد يفاجئك إن قيل: مهتم بالعلوم الطبيعية؛ خصوصا في ناحيتيها التقنية والصحية، ومجاز في طب الأعشاب؛ بل قد يقول قائل إنني مغفل لا أتقن الحساب ولا أجيد التسوق ويسهل خداعي في المعاملات.. وكل صادق إن شاء الله.. ولكنه يخطئ في نفي ما سوى الزاوية التي أطل علي منها.

وهذه مشكلة أعايشها مع المجتمع.. ولا أستوعبها، فمن عرفني في مضمار ما لا يرى لي حقا في الجري في غيره، وكأنه يتبنى سياسة العِلم الواحد على غرار ما كان الصينيون يسمونه سياسة الطفل الواحد!

 

موقع الفكر:  هل لكم أن تحدثونا عن مسيرتكم العلمية؟

الأستاذ محمدُّ سالم بن جدو:لا أدري هل يصدق عليها الوصف بأنها مسيرة؛ فقد نشأت في بيئة مشبعة بمختلف المعارف، وفي بيت ذي مكتبة كبيرة ومتنوعة، وحباني الله بذا كرة ممتازة أتاحت لي تخزين الكثير، ومنه ما لا أفهمه وقت سماعه أو قراءته أو رؤيته رؤيته، ولكني أستوعبه بعد زمان، كما تجمع المواشي النباتات ثم تجترها فتهضمها من بعد. ولعلي قصَّرت في الاستفادة من قابليتي، فلو ناسبتْ همتي إمكاناتي الذهنية لكنت غير ما أنا الآن، وكثيرا ما ألوم نفسي وأشعر بالندم في بعض الأحيان وبعض المجالات.

بُعيد إكمال عامي الرابع بدأت دراسة القرآن العظيم على والدتي رحمها الله حتى تجاوزتُ نصفه، فشغلت عني بمرض ألم بأختي (رحمها الله) فأسلمتني إلى أشخاص من بينهم أخت لي وإحدى ذوات رحمي، وعدة رجال، حتى شارفت إكماله (54 حزبا) فانصرفتُ إلى السيرة والفقه والنحو والأدب من خلال المتون المعهودة للكل. ثم عدت إليه حين شارفت البلوغ فدرسته على شيوخ كبار من أمثال محمدٍ ابن انبت نصا، ثم رسما وتجويدا على بداه ابن البوصيري ومحمد عبد الله بن عبد الله وغيرهما، بطموح استمر حتى نلت إجازة في القراءات السبع، فتحولت من الأخذ إلى الإعطاء.

قبل هذا وأثناءه وبعده درست معارف شرعية ولغوية وعقلية مختلفة على مشايخ منهم (سوى من تقدم) والدتي رحمها الله، ومنهم خالي الشيخ محمدٍ بن الشيخ بابَ خي، وخال أمي المختار السالم بن علي (الغطمطم) ومحمد عبد الله بن احمياده (وداهي) ونافع بن حبيب، والطفيل بن الواثق، ومحمد سالم بن عدود، وذ. زايد المسلمين بن ماء العينين.. وغيرهم. رحم الله الموتى وحفظ الأحياء وجزى الجميع خير الجزاء. واستفدت من تدريس والدي لكني لم أدرس عليه متنا بذاته، ولا أعلم سبب ذلك.

تأطيرا لمعلوماتي انتسبت أيضا إلى المعهد العالي للدراسات والبحوث الإسلامية فنلت منه الليصانص في الفقه والأصول، وكانت تساوي المتريز قبل النظام الجديد (LMD).

بيد أن استفادتي الكبرى لم تكن مما درسته بقصد الفهم والاستيعاب؛ بل مما طالعته أو سمعته ووعيته مما يدرسه غيري؛ فقد كان ذهني يسجله لي دون عناء، وأستوعبه أحيانا وأستفيد منه أكثر مما قصدت دراسته وفهمه!

 

موقع الفكر: هل لكم أن تعرفونا على بدايات دخولكم لميدان الإعلام وهل من تقييم لهذه التجربة؟

الأستاذ محمدُّ سالم بن جدو: مارستُ الإعلام المسموع أولا، ودخلته من باب الأدب الشعبي؛ فقد كنت سنة 1982 – وأنا دوين العشرين- أشارك في برامج المرحوم محمدٍ بن سيد ابراهيم إلى جانب كبار الأدباء من أمثال: محمد عبد الرحمن ابن الرباني، وإسلمُ ابن النباش، وبوكي ولد اعليات، وسالمُ ابن إعيدُ (رحمهم الله) وحبيب بن مَنًّا، وإسلم بن أحمد محمود (حفظهما الله). وقد أشارك في تحرير الأخبار عند الحاجة.

وبعد انقطاع عدت إلى الإذاعة من 1991 إلى 1993م فعملت في مجموعة البرامج الثقافية، حيث أنتجت مواد توخيت فيها الجدة والمحلية والطرافة ضمن برنامج "المجلة الثقافية" الذي أصبح فيما بعد "ديوان الثقافة" ولا أعلم هل توقف أم ما زال مستمرا. وشاركت في الإجابة على الأسئلة الثقافية والتاريخية والأدبية الواردة إلى برنامج "أنت تسأل ونحن نجيب" طيلة الفترة ذاتـها.

وعملت في الإعلام المقروء من خلال أغلب الدوريات الموريتانية كالشعب والبيان والشمس والفكر والأمل وأقلام حرة والسفير.. وغيرها، انتهاء بمطبوعات معروضة الآن، كمجلة اللسان التي يصدرها مجلس اللسان العربي (وأنا عضو مؤسس فيه) ومجلة الثقافة التي تصدر عن وزارة الثقافة، ومجلة الموكب التي تصدر عن اللجنة الوطنية للتربية والعلوم والثقافة، مرورا بدوريات عربية كالرافد والعربية لساني، والأخيرة تصدر عن مجمع اللغة العربية بالشارقة.

وحده التلفزيون لم يستهوني ويندر ظهوري فيه، ولو ضيفا عليه.

 

موقع الفكر:  يعرف عن الأستاذ محمد سالم ميله الشديد للغة وعلومها؛ كيف تكيفتم مع تردي المستوى اللغوي في مجالي التعليم والإعلام؟

الأستاذ محمدُّ سالم بن جدو: يحكى أن مغفلا سافر إلى فرنسا فلما عاد سئل: هل وجدت صعوبة في التفاهم من الفرنسيين؟ قال: لا، لكن الفرنسيين وجدوا صعوبة في التفاهم معي أنا.

أنا بقيت بحالي، أو أشد، بتأثير أدرينالين الغيرة على اللغة الذي ثار في كياني، وأعتقد أن لهذا التردي انعكاسين على شخصي الضعيف:

فمنذ زهاء 30 سنة لم أعمل في صحيفة أو مجلة إلا وكُلّفت بالإشراف اللغوي عليها؛ إما مع غيره (وهو الأغلب) وإما بانفراده كحالي في مجلة اللسان الآن. حتى أصبح من أصدقائي من يناديني بالمدقق عوض اسمي! وحين اكتميت فاكتفيت بكُنيتي (أبي زينب) فوجئت بعد سنوات قليلة بإطلاق هذه الكنية على مدققين جدد لا زيانب لهم! منهم من لا يقوى على ما تصدى له، ومنهم فرنسية تدقق لغة موليير في صحيفة موريتانية ناطقة بلسان قومها.. إذ اعتبر بعض القوم أن معنى المدقق "أبو زينب"! وهكذا تحول ما تخفيت به طلبا للعمل في الظل بصمت - تجنبا للشهرة والعُجب- إلى عَلَمٍ على القائم بالمهمة أيا كان اسمه ووسمه.

وثانيا أشعر بأسى وإشفاق على الذين يعجزون عن إيصال أفكارهم سليمة إلى المتلقي، وتعجبني شجاعة آخرين يكتبون ما أرى ستره أولى، فينشرونه محلى بأسمائهم وصورهم، وربما باهوا به. ولي كتاب صار مجلده الأول جاهزا للنشر، سميته - حتى الآن- القاموس الخفيف (ولا أدري هل سيتغير اسمه) أغلب مادة هذا الكتاب هي الفجاجات واللحون والغرائب التي يمطرنا بها الإعلام والمتكاتبون، مع التنبيه على الصواب ودليله. وقد نشر محتواه تباعا في جريدة الشعب منذ أواخر عام 2019 تحت العنوان ذاته (القاموس الخفيف).

 

موقع الفكر: لكم إسهامات كبيرة في اللغة والأدب خرجت في شكل كتب ومقالات وربما تحقيقات وتدقيقات ومراجعات هل من توضيح بهذا الخصوص؟

الأستاذ محمدُّ سالم بن جدو: فعلا.. لدي حوالي 40 كتابا نشر حوالي نصفها حتى الآن، وهو معروض في المكتبات، وعملي فيه يتنوع من التحقيق إلى التأليف الأصيل، ومجالاته من القراءات والفقه والتفسير إلى البحث الألسني أو النقد الأدبي أو ما لا أعلم تصنيفه بالضبط، وبأحجام من مجلد واحد إلى حوالي 30 مجلدا، ومثال الأخير كتاب الريان في تفسير القرآن للشيخ محمد بن محمد سالم رحمه الله، الذي عملت على تحقيقه مطلع عام 2010 اعتمادا على نسخة مصورة غير مكتملة، ووصلت فيه إلى تفسير الثلث الأخير من القرآن العظيم، وأنجزت حتى الآن حوالي 20 مجلد صدر منها بالفعل 13.

أغلب هذه الأعمال التي ذكرتها من تأليفي المنفرد، وأقلها التحقيقات والتأليف المشترك، ولعل من أبرزها ذيل الطاؤوس بتحقيق وشرح شواهد القاموس؛ فالشواهد هي البينات والمرتكزات كما هو معلوم، ولم يسبق أن تعرض أحد (في علمي) لشواهد القاموس المحيط مع أهميته البالغة! وربما كنت من أكثر المؤلفين الموريتانيين الأحياء إنتاجا. والله أعلم.

هذا سوى البحوث والدراسات والمحاضرات والمقالات.. وما إليها. ومنذ عامين وأنا أعمل ضمن فريق موريتانيا بقيادة الشيخ الخليل النحوي حفظه الله، في بناء المعجم التاريخي للغة العربية الذي يرعاه حاكم الشارقة، ويعمل فيه لغويون من ثمان دول عربية عبر منصة إلكترونية، لكل منهم حسابه الخاص فيها، وقد صدرت باكورة عملنا ثمانية مجلدات تتضمن الألف والباء وقليلا من التاء، وربما تصل مجلداته إلى 70 أو 80.

 

  موقع الفكر: لديكم اهتمام بعلوم القرآن وحصلتم على إجازات فيه. حبذا لو حدثتمونا عن ذلك..

الأستاذ محمدُّ سالم بن جدو: عند وفاة الوالدة (وأنا في السابعة عشرة من سني حياتي) أسلمني الوالد حفظه إلى شيخي محمدٍ ابن انبت المشهور بالدِّنَّه، فأعاد تدريسي كتاب الله من أوله إلى آخره على نحو يكمل ما بقي علي ويؤكد حفظ ما سبق أن تعلمته، ودامت المهمة قرابة عامين.

ثم جودته في مستهل القرن الهجري الحالي على الإمام بداه رحمه الله، وحرر لي أول إجازة أنالها، في قراءة نافع (روايتي قالون وورش) وبعدها نلت عدة إجازات في القراءة ذاتها مع إلمام ربما كان واسعا بباقي السبع، إلى أن زرت لفريوه سنة 1992 لإنجاز تحقيق صحفي عن محضرتها ضمن سلسلة تحقيقات ميدانية نشرتها جريدة الشعب آنذاك، فنصحني الشيخ اباه ابن نعم العبد (حفظه الله) باستكمال السبع فبدأت البحث والانتقاء حتى وجدت الشيخ محمد عبد الله بن عبدِ الله رحمه الله (ت 2020) فدرستها عليه نظريا وتطبيقيا، وأجازني فيها بتاريخ الثالث من أغسطس سنة 1993. وقد أجزت أنا حوالي 20 شخصا؛ أغلبهم في قراءة معينة، وبعضهم  في السبع. منهم بعض مشاهير القراء الآن لله الحمد، وأسند إليّ تكوين قراء بالسبع فترة من الزمن، في أحد المعاهد فرسمت منهجا رأيته مناسبا، واستعنت أحيانا ببعض الأكفاء وقطعت شوطا في ذلك، واستفاد منه قراء كبار الآن وشخصيات علمية بارزة، لكن المعهد أغلق لأسباب سياسية. وقد أصدرتُ خلاصات دروسي في كتاب ورقي منشور سميته المرشد الوجيز إلى قراءات الذكر العزيز، يمتاز بثلاث مميزات:

- عرض كل قراءة بمفردها بصرف النظر عما عداها.

- إبراز الخصائص رفعا للبس ولكونها ملامح كل قراءة بمفردها.

- جمع النظائر كما في الفقه.

 

موقع الفكر: هل تذكرون مواقف طريفة أو محرجة تعرضتم لها؟

الأستاذ محمدُّ سالم بن جدو: كثيرا ما حدث هذا، وأذكر منه شيخا ثار علي حين سمعني أقرأ برواية السوسي عن أبي عمرو رحمهما الله ووصفها بالقرآن الطارئ مقارنا إياها بما سماه اتعصري الكتبه والتكباط وكذا وكذا.. والقصة منشورة في المجلد الثاني من كتابي على رصيف الحياة، ص 299.

وقبل سنوات سمعت من يستشهد ببيت للشيخ محمد سالم ابن عدود (رحمه الله) فينشده هكذا:

وإنّ بعد القول كَسِّرَنَّها ** كقال أنه يقول أنها.

فقلت له: أما التكسير فقد حصل، وأما الشيخ فقال:

وإنّ بعد القول فاكْسِرَنَّها ** كقال إنه يقول إنها.

فوتر حباله الصوتية ورماني عن قوس فكيه وقال مزمجرا: يا أخي لن نتفق.. أنا رجل من أهل الفروع، وأنت أدرى بما أنت من أهله!

وخلال عملي في الإذاعة كنت أتحاشى ذكر اسمي ما استطعت، وكنت أوصف على الأثير بالشاعر فلان.. وذات مرة أحيل إلي سؤال عن الشيخ المحفوظ بن بيه رحمه الله، وفي تعديد شيوخه أردت القول إن منهم الشاعر محمدُّ سالم بن الشين، ولكني قلت إنه تعلم اللغة العربية وآدابها على الشاعر محمدُّ سالم ابن جدُّ فنبهني المهندس - عبر السماعتين- على أني إنما ذكرت نفسي، ومع أن هذه الدعوى أخجلتني فقد وجدت صعوبة في التصحيح دون أن أضحك!

 ومرة قابلني رجل بعوراء القول دون سبب مفهوم فلما لم أجبه قلل الكلام، لكن من يبدو أنها زوجه أو أخته قرأت من حيث انتهى فأفاضت علي من السوء ما شاءت، وكان صمتي أشد إغضابا لها من كلامي لو تكلمت، فحاول شاب حضر ما جرى إفهامهما أن لا سبب لما قالا، فنشدته الله أن يصمت وقلت له: أتراني عاجزا عن الرد عليهما؟ وأنشدته قول المتنبي:

ومن البلية عذل من لا يرعوي ** عن غيه وخطاب من لا يفهم

فنظرت إليَّ بثقة وتحد وقالت وعيناها في عينيّ: "صدق الله العظيم. ذاك گالو مولانا بعد يغير ما گالو ابذيك الصيفه". فعجبت من حظ المتنبي في تجاوز طوره الحقيقي! فقديما "تنبأ عجبا بالقريض" وها هي ذي أمِّيَّة موريتانية تؤلهه بعد أحد عشر قرنا من وفاته!!

بعدهما بقليل (نصف ساعة على الأكثر) مررت بالشباب الذين ينتشرون في قلب العاصمة بحثا عن صرف العملات (حَلاَّبة السماء) فرأوا حقيبتي التي لم تفارقني في حلي وترحالي منذ ثلث قرن تقريبا فحسبوا سرابي ماء وقال أحدهم: "أستاذ.. انتوم اتصرفُ ش؟"

قلت: نعم،

قال باهتمام: "شنهُ؟"

قلت: الثلاثي المعتل.

فانصرف خائبا وقال: "ذاك ياسر فيه التزوير".

وقبل سنوات (وأنا خارج العاصمة) كان يتردد عليَّ رجل يبدو طيبا محبا للاطلاع إلى حدود قد تتجاوز المقبول، يبذل الأخبار دون سؤال. وكنت أستلطف بعض أموره مع بعض المآخذ.

ومن أبرز ما نقمت منه أنه حين يرى صمتي مستغرقا في شأني يحلو له الحديث إليَّ ظنا منه أن صمتي إصغاء له! فلا أعي ما يقول لانشغالي عنه، ولا أستطيع التركيز على ما أنا فيه بسبب حديث جليسي المتواصل.

سألني يوما أن أعلمه النحو فوافقت أملا في الاستفادة من وقتي الضائع فيه حتما، وفي ترشيد بثه المتواصل.

كان "عبيد ربه" اختياره فلم يكن هناك، لكني وعدته بإملاء حاجته منه، فاستطرد مشيدا به وبفوائده التي رأى أن أبرزها كثرة الأدباء الشعبيين؛ معربا عن حرصه على أن يكون أديبا مشارا إليه بالبنان يفحم الخصوم بـ"الگاف" الثاني!

قلت له بشيء من الرفق إن المنظومة المذكورة لا تكفي لنيل مطلبه، فقطب ونظر إلي باستغراب متعجبا كيف غاب عني أن النحو هو وسيلة الأدب الشعبي! فاعتذرت بأن هذا خارج علمي المحدود، فقال: قل إذن إنك لا تعرف النحو ولا "لغنَ" قلت له: أعترف بذلك، فشعجني بقوله: "ينصرك اعلَ الحگ.. الكذب ماهُ شِ".

بعدها غيَّرَ موقفه مني وصار يعاملني باستخفاف، والأهم أنه صار يقلل مجالستي فاستفدت من بعض وقتي.

وفي فترة مضت كان لي جليس لا يستهويه الأدب فكان يرى الكتب حولي فيمد يده إلى أحدها فيجده ديوانا أو نحوه فقال لي مرة: "ديوان ديوان.. انت لحگگ اتعود شاعر، هو الادب فاش ينفع؟" فأجبته بهدوء: "افگلت الادب".

وقبل فترة كنت في انواذيبُ فطلب مني أن أترجم عن غاني متهم في قضية مخدرات، ووجد القضاء صعوبة في التواصل معه، لعدم من يجيد الأنگليزية أو لهجته المحلية، ثم كان فتحا مبينا اكتشاف معرفته باللسان الولفي.

في أحد الأيام عقدت جلسة حضرها جمهور غفير وتضمنت ملفات كثيرة ومتهمين كثيرا كان نصيبي منهم المتهم المذكور، وكانت تدافع عنه محامية مغربية تزوجها محام موريتاني يعمل الآن سفيرا لبلادنا في إحدى كبريات مدن العالم.

طلبت المحامية أن تكون الترجمة عن موكلها بالعربية الفصحى لتستوعبها نظرا لحداثة عهدها بالناطقين بالحسانية.

أقسمتُ يمين المترجم وبدأت أرافق الغاني في ترجمة فورية لم تدع لي فرصة لانتقاء المفردات المناسبة إلى أن قال: "تسوفكنتني نونُ له مضو بُياگ، دو منيو تدلو، تانوات تدلوسوات كن جبومه وقتُ بوبُ" فقلت: "ولو كان الأمر كذلك لفررت منذ زمان، ولما تجشمت عناء الحضور فالذهاب فالحضور فالذهاب، فلم أكن معتقلا آنذاك"!

علت الأصوات من القاعة استحسانا للترجمة ولكن شيخا في المقدمة كان له رأي آخر. لم يصدق أن ما سمعه عجميا من المتهم هو ما سمعه مني عربيا فصيحا؛ لذا نظر إلي شزرا وقال: "الله ينسخك مكذبك!".

 

موقع الفكر:  يقول الأستاذ محمدُّ سالم الشعر الفصيح واللهجي هل من نماذج؟

الأستاذ محمدُّ سالم بن جدو: بما أننا في الأشهر الحرم فإن النموذج الشعبي سيكون في مدح النبي صلى الله عليه وسلم:

گلت انَّ لاهِ انسَبْدُ ** فاوَّل ذ لكلام
بسم الله أذاك عندُ ** تخمامِي جَمَّامْ

لازم عنَّ ما انخلُّ ** مرسول الگسَّامْ
محمد لِمامْ صلُّ ** صَلُّ بالسلام
صناديد الگوم ملُّ ** اعرب كيف أعجام
من لعناد امعاه ذل ** واقهرهم لِمام

يوم الفتح امنين شلت ** خيل ارصول الناس ذلت
خيل الكفر الاَّ انشلت ** وانشلت لقوام
والكتايب فم سلت ** عدتهَ گدام
بو سفيان امنين حلت ** مكةَ لَفَّام

بالترحيب اشوي تنطق ** بالرسول ال اتمنطق
بالنصْرَ فاسيوف تبْرَقْ ** والجيش افزحام
من غبرتُ ما اتفرق ** خلفك من لَمامْ

واعف عنهم فُرّْ كامل ** نَبِينَ وابخير عامل
فالخطْبَ الِّ گال جامل ** فالبيت الحرام
غير امحمد ما ايعامل ** بالمثل افلجرام

واتمسلمُ فُرّْ عگبُ ** ارجع ذوك الگط هَرْبُ
والهوازن فم ركبُ ** لخوال ألعمام
من للاف أثنعش.. غلبُ ** گوم الكفر أگام

محمد فاطريگ طيْبَ ** متوجه وافذِ الغيب
فَلَّشْ ذاك الكان سَيْبَ ** واتمدد لسلام
راهُ ذَ ماه اسبيب ** من مدحُ، لقلام

ما يحصوه اُلا ايگدُّ ** ذَ سَيِّدْ لَنَامْ
مُعجزاتُ ما انعَدُّ ** قرايح لَعلام
فامداحُ ما گط بَدُّ ** يسو بالتخمام
وامْحمدُّ ول جدُّ ** سالم بالتمام
ذاك الگايل ذاك گد ** ظروك.. والسلام.

 

أما النص الفصيح فقطعة اخترت أن تكون قصيرة مراعاة للوقت المتاح:

زار الكئيبَ شفاؤه لو يعلم ** فلجرحه فصل الخريف البلسم
وافـى يجر ذيوله فوق الربى ** وزهوره النشوى تراءات تبسم
والأرض تزهو كالسماء بلونـها ** والطل يهمي والطيور ترنم
وخمائل الأشجار يسري بينها ** نبع يسيب كما يسيب الأرقم
من مورق أو مزهر يرنو إلى ** جو السما فكأنما هو أنجُم
يبكي إذا أمسى كما أبكي إذا ** زادت شجوني واستراح النُّوَّمُ
يا قلب روح عن حشاي بمنظر ** فيه الشفا.. حتى متى لا تَنْعَم؟!
إن التفاؤل روضة يزهو بـها ** حقل الحياة، أريجها يتنسم
تزكو إذا ولى الربيع وأدبرت ** أيامه، تفتر إذ يتجهم
وتظل رمزا للسعادة خالدا ** عهدا وطيدا حبله لا يصرم.

 

موقع الفكر: هل من كلمة يوجهها الأستاذ محمدُّ سالم للجهاز الرسمي الراعي لتراث البلد والمهتم بخدمته، وهل وجدتم منها مساعدة في أعمالكم الجليلة السابقة؟

الأستاذ محمدُّ سالم بن جدو: أبدأ من حيث انتهى السؤال لأقول إني لم أستفد بأي شكل من الأشكال، ولم أحظ بأي امتياز من أية جهة؛ لا رسمية ولا غيرها، ولم أسع إلى شيء من ذلك. حتى الجهات التي أنتمي إليها، وتنشر مؤلفات الأعضاء لم ينشر لي أي منها سطرا فصاعدا، وكل ما نشرته كان بعون الله ثم بجهدي الخاص لله الحمد.

أما صدر السؤال فأود أن يعيد القائمون على الشأن العام عموما – والثقافي خصوصا- النظر إلى أنفسهم وإلى هذا المجتمع، عسى أن يفهموا المجتمع الذي كلفوا بخدمته فيراعوا خصوصياته ويتمثلوا هويته، ويعوا أنهم غير مكلفين بإعادة صياغته وإنما بالتعامل معه كما هو، وفق هويته الثقافية ووجهه الحضاري، فمِن شِبه المسلم أن الشعوب لا يمكن تحويلها إلى غير ذاتها، وإنما يكون ذلك مسخا لها.

والكل أضحى وما قد كان يعلمه ** شأن الغراب يحاكي مشية الرخما.

وأود ممن لهم الإقالة والتعيين أن يعينوا في كل قطاع من داخله وباختيار وتدقيق لا بإنزال مظلي ولا قذف بركاني، فالحقائب الوزارية ليست كالأمتعة، بحيث يحمل الشخص الملح مرة، والسكر أخرى، والجص مرة ومبيد الحشرات أخرى.. إلخ.

 

موقع الفكر: هل لكم اهتمام بالسياسة، وهل تحسبون على حزب سياسي، وهل انتسبتم لخط المعارضة؟

الأستاذ محمدُّ سالم بن جدو: الاهتمام بالسياسة أمر طبيعي، لأنه عبارة عن إدراك الواقع والماضي والمتوقع، والانتباه لمن يسيرون الشأن العام خليق بأن يدفع إلى معارضتهم، فأنت لا يمكن أن تقوم عمل العاطل، وإنما تقوم عمل العامل. وما ابتليت به نخبة البلاد من إهطاع وقلة وفاء جدير بالنأي عنها. وقد انتميت في شبابي إلى توجه سياسي معين ونشطت فيه أيام العمل السري، وبعد التعددية السياسية انتميت إلى اتحاد القوى الديمقراطية ونشطت فيه حتى حل (2001) وأنا أقود منتسبيه في معظم مقاطعة عرفات، فوجدت في حله فرصة لإعادة النظر والنقد الذاتي، وأنا حل من الانتماء إلى أي حزب سياسي، فلاحظت خللا بنيويا في السياسة الموريتانية أدى إلى عدم تمكين الأحزاب من أداء ما يتوقع منها وسَدَّ الطريق بينها وبين قيادة البلاد وجعل سبيل الحكم من جهة أخرى من خارج السياسة والمجتمع المدني، اللذين اقتصر دورهما على التبعية والتسويغ.. وتفاصيل ذلك طويلة ولعلها مملة؛ فانصرفت إلى ما أراه أجدى وأبقى.

لذا فأنا لا أنتمي إلى أي حزب سياسي، ولا أُحْسَب عليه؛ مع أن من الناس من يرى اتفاق الرأي والموقف تبعية ودليلا على محسوبية الأقل على الأكثر، وعشت معارضا لكل الأحكام باستثناء المجلس العسكري في بعض الجزئيات، وكنت متحفظا في تأييده رغم الحاجة إلى ما قام به؛ لذا أقول من قصيدة كتبتها يوم الانقلاب:

في حَدِّ ما أعلنتمُ إنا لكم ** عون على السراء والضراء
ولكم علينا العهد أن لا تُخذلوا ** - في حَدِّه- في الرد والإمضاء

ولم أخف مواقفي؛ بل عبرت عنها بمختلف الطرق ولا أسعى من ورائها إلى منصب ولا مال ولا جاه، وإنما أقول ما أعتقده وأنسجم مع ذاتي.

ومن الأمانة أن أسجل هنا أني لم ألاق مضايقة تذكر منذ 16 سنة لله الحمد.