المفتش محمدن الرباني لموقع الفكر: الخلل في التعليم يتجلى في نواح عدة منها المخرجات الضعيفة(مقابلة)

في إطار مواكبة موقع الفكر لمجريات الساحة الوطنية، وسعيا منا إلى إطلاع متابعينا الكرام على تفاصيل الأحداث، بتحليل متوازن، ونقاش متبصر، نلتقي اليوم مع أحد الأكاديميين الموريتانيين، ممن عايشوا واقع التعليم ،وخاصة التعليم الأساسي والثانوي منه، فكان من رواده الأوائل الذين واكبوه في  ربع القرن الماضي معلما فأستاذا فنقيبا للأساتذة، ثم مفتشا للتعليم الثانوي، إضافة إلى عمله في ميدان البحث والنشر، نحاوره ونستجلي من خلاله ما وراء الخبر، في لقاء شامل حول واقع التعليم بموريتانيا، إضافة إلى المشاكل التي تعترض العملية التربوية بموريتانيا وتعيق مخرجاتها  عن بلوغ الأهداف المنشودة..

. فأهلا وسهلا بضيفنا الكبير المفتش محمدن بن الرباني

 

موقع الفكر: نود منكم أن تعرفوا المشاهد بشخصكم الكريم من حيث الإسم وتاريخ ومحل وميلاد والدراسة وأهم والوظائف التي تقلدتم؟

محمدن بن الرباني: الاسم محمدن بن عبد الله الملقب دحمود بن الرباني المولود  1972 في قرية متاخمة لمدينة أبي تلميت تسمى قرية علب آدرس ورغم ميلادي في هذه القرية إلا أني لم أعقل إلا وأنا في مدينة نواكشوط حيث التحقت بالمدرسة الابتدائية سنة 1980 ،وحصلت على شهادة ختم الدروس الابتدائية سنة 1986م، ودخلت الإعدادية وتخرجت منها سنة 1989م وكان من قضاء الله أني شاركت في مسابقة دخول تكوين المعلمين ونجحت فانقطعت عن الدراسة وتخرجت معلما سنة 1992م، في التعليم الأساسي وحولت إلى  الحوض الشرقي ومكثت في التعليم الأساسي ثمان سنوات تخللتها مشاركة في الباكلوريا وتخرجت من المعهد العالي للدراسات والبحوث الإسلامية سنة 1998م، وشاركت في مسابقة دخول المدرسة العليا للأساتذة وتخرجت أستاذا للغة العربية والتربية المدنية سنة 2000 وبعد ذلك سجلت في دراسة المالية الإسلامية وفي سنة 2015 شاركت في أول دفعة أجريت لها مسابقة لسلك متفشي التعليم الثانوي ومنذ التخرج وأنا في سلك المفتشين، والشهادات المتحصل هي الماستر في المعاملات الإسلامية وشهادة المتريز، وشهادة الكفاءة التربوية ، ثمة تجربة نقابية بدأت سنة 2007 حيث انتخبت أمينا عاما للنقابة المستقلة لأساتذة التعليم الثانوي وبقيت فيها حتى  نجاحي في مسابقة المفتشين ،وغني عن القول إن المدرسة ليست أول ما يبدأ به الطفل في بعض البيئات فتسبقها دراسة القرءان الكريم وحفظه ثم بعد ذلك في فترة المعهد،اهتم ضيفكم ببعض النصوص المحظرية وخاصة ما يتعلق بلامية الأفعال مع طرتها والألفية بشروحها وبعض النصوص كالكفاف وشروح مختصر الشيخ خليل مطالعة ودرسا وحفظا.

والمهنة الآن هي مفتش تعليم ثانوي ولم أتقلد أي منصب حكومي غير ما يقتضيه الدخول في أصل السلك الوظيفي، ولدي بعض التعاون مع بعض المؤسسات خاصة التي تخدم العلم الشرعي ونشر الثقافة الإسلامية، ولكنه تعاون محدود وأرجو أن يفيد كما أستفيد منه لأن بعض المؤسسات يستفيد صاحبها من رفقة ونوعية مدرسيها وطلابها أكثر مما يفيد.

ما تقويكم لواقع التعليم في موريتانيا؟

محمد بن الرباني: تقويم الواقع التربوي من الأمورالتي لا يكاد يختلف عليها اثنان فلو أنك فاتحت شخصا متواضع الثقافة ومنعدم التعليم لقال لك إننا نفتقد التعليم أو إن التعليم منهار، وهذه حقيقة مرة لكنها واقع لا يمكن أن نتنكر له.

فمنظومتنا التربوية تعاني من مشاكل حقيقية، هذه المشاكل صنعتها عوامل لعل من بينها الارتجال الذي طبع الإصلاحات التربوية التي عرفتها البلاد وكذلك التوظيف السياسي الذي دأبت عليه الأنظمة مما جعلها تتخذ إجراءات كثيرة غيرمدروسة فتضافرت هذه العوامل إلى أن وقع التعليم فيما هو فيه.

والخلل في التعليم يتجلى في عدة نواح منها المخرجات الضعيفة فتكاد تلقى الطالب الموريتاني وقد مر بجميع مراحل التعليم فإذا حادثته كان كل كلامه خطأ وإذا كتب كان كذلك وإذا اختبرته في مجال تخصصه كان كذلك.

كذلك من مظاهر أزمتنا التربوية انعدام أو ضعف البنى التحتية ،فلو أنك زرت أي منطقة حتى نواكشوط وقمت بزيارة لمؤسساتنا التعليمية سواء كانت ابتدائية أو إعدادية فإنك لن تعدم أن تصادف مؤسسة ساقطة الأبواب والنوافذ وسبورة مشوشة كثيرة الثقوب ومقاعد متهالكة وحائطا متهالكا قصيرا ،وهذا الضعف في البنى التحية يجعل المدرس يفتقد أي وسيط تربوي يمكن أن يعينه على الإيضاح والتوصيل.

وكذلك من مظاهر أزمة منظومتنا التربوية اختلال الخريطة المدرسية فالخريطة المدرسية عندنا ديس عليها منذ فترة، فأصبحت المدارس تفتح لأغراض سياسية وانتخابية لا علاقة لها بالأسس الفنية الموضوعية ،والمهم أن يكون السياسي أو النائب الفلاني أو الوجيه الفلاني استطاع أن يجلب مدرسة إلى هذا  التجمع أو ذاك التجمع ،وهذا التشتيت يجعل الوزارات المتعاقبة غير قادرة على تقديم التعليم المناسب.

ومن مظاهر اختلال العملية التربوية غياب المعلم النموذج والقدوة وكما تعلمون فإنه من البداهة كما يقول الناظم:

إن المعلم والطبيب كليهما                 لا ينصحان إذا هما لم يكرما

هذا إذا كان المعلم على أحسن  مستوى، فكيف به إذا كان خريج مؤسسات تأهيلية وتكوينية متهالكة يقضي فيها السنتين والثلاث دون أن تضيف إلى معارفه الأكاديمية بعدا يذكر، ودون أن تكسبه مهارات تربويةَ. وبالتالي فالمعلم والمدرس عموما في واقعنا اليوم هو أحد مخرجات التعليم وفي ذات الوقت خريج مؤسسات تكويني أولي عاجزة عن تكوينه تكوينا مناسبا وهناك عامل ثالث لا يقل  أهمية عن العاملين السابقين كما قيل:

ألقاه في اليم مكتوفا وقال له           إياك إياك أن تبتل بالماء

ملقى في ضباب وأمواج من المشاكل وفي واقع بالغ المادية وصعب التكاليف ويمنح راتبا متدنيا غاية التدني، وهذا ما يجعله أكثرارتباطا بأمور أخرى قد تجلب له دخلا إضافيا، يعينه على أعباء الحياة، يجعله أكثر ارتباطا بتلك الأنشطة من نشاط التدريس الذي يفترض أنه أسمى المناصب ويفترض أنه حقيقة هو البوابة والآلية المثلى لكل تقدم وتطور ولعله لا يعبر عن حاجة وواقع المدرس إلا قصيدة الدكتور التقي بن الشيخ والتي يقول فيها:

قالوا سنصلح من شؤم ومن دنس           تعليمنا فهو للأجيال كالقبس

قلنا لهم هذه والله حاجتنا                    كانت لنا حلما يجري مع النفس

لكنه مركب صعب وسالكه                  يرميه من شاء بالتهويس والفلس

و من تصدر للإصلاح يحسبه                أمرا بسيطا سيلفي الأمر غير بس

لو أن أول من مروا وآخرهم                 إنسا وجنا على "التكوين" أو "لنس" 

جمعتموهم وملأتم سماءهم                    يا قومنا حرسا أعييوا على الحرس

ولو جعلتم لكل منهم عسسا                   ما أدخلتهم لقسم خشية العســــــس

فللحياة وحاجات الحياة صدى                يصمهم صوته عن دقة الجرس

فالكف مملقة والحال مقلقة                   والناس مطرقة من شدة الكفس

وهذه حال مسعود وفاطمة                    وابْلالَ وأم المؤمنين وسي

فالمدرس في ظروف كهذه الظروف ليس فيها بنى تحتية وليس فيها محفز ضف إلى ذلك أنه منذ بدايات التسعينات أصبح المجتمع مجتمعا ماديا فمن لا يملك شيئا لا يساوي شيئا،وتضافرت هذه العوامل لتجعل المدرس أزمة من أزمات التعليم.

ومن مظاهر أزمات التعليم المضاربات في الكتاب المدرسي الذي أصبح ك"الكبريت" الأحمر الذي يقال إنه يذكر ولا يرى ،خاصة إذا تعلق الأمر بالمناطق الداخلية أو تعلق بضعيفي أو عديمي الدخل فإن أبناء هذه الفئات لا تجد الكتاب المعين.

هذه مظاهر ليست هي كل مظاهر أزمة التعليم وإنما هي بعضها فقط.

موقع الفكر: ما تقويمكم للإصلاحات التربوية التي قيم بها، وما العوامل التي أدت بها جميعا إلى الفشل؟

المفتش محمدن بن الرباني: فيما يتعلق بالإصلاحات التربوية التي عرفتها البلاد يمكن أن نقول ما يلي:

مع إدبار الاستعمار ولملمة أوراقه لم يشأ أن يخرج حتى يكرس ثقافته ،وحتى يضع يده على التعليم ليظل متمكنا من هذه المخرجات التي هي حقيقة صناعات البشر، ومعلوم أن من سيطرعلى التعليم سيطرعلى الأمة لأن التعليم هو أسلوب صناعة الإنسان ،وأداة تربيته لذلك جاءت السلطات الفرنسية في مرحلة الاستقلال الذاتي بإصلاح 1959 وكان نظاما  فرنسيا بامتياز لا يكاد يوجد فيه للعربية ذكر باستثناء نحو ساعتين من التربية الإسلامية ثم بعد الاستقلال، واستجابة للمطالب المتكررة التي يطرحها المواطنون خاصة الفئة التي تنتمي إلى العرب ،وهي الفئة الغالبة وافق البرلمان على إصلاح جديد وقد تضمن هذا الإصلاح الجديد زيادة طفيفة في ساعات التربية الإسلامية و اللغة العربية وعارضته النخبة الفرنكفونية، وكانت متمكنة في تلك الفترة وترتبت عليه أحداث سياسية معروفة أدت به إلى أن يبدأ التعامل مع مسألة اللغة ومسألة الإصلاح التربوي بقدر كبير من الحيطة والحذر، لكن ذلك لم يمنع من التقدم من جديد بإصلاح 1973 وبالمناسبة هو الإصلاح الوحيد الذي يمكن أن يصنف كإصلاح فعلي لأنه كانت له نظرة و رؤية  واستحدث مؤسسات مهمة كالمعهد التربوي وأيضا زاد في نسبة اللغة العربية في النظام التربوي. وإصلاح  1979 نظرا للمطالبات والمطالبات المضادة جاء بفكرتين إحداهما كانت سيئة وسلبية وأثرت على الوحدة الوطنية  تأثيرا عميقا، والثانية كانت إيجابية لأنها كانت تسعى إلى تهيئة اللغات الوطنية من أجل أن تكون قادرة على استيعاب المضامين التعليمية اللازمة ،وكانت المرحلة التي الأولى هي ست سنوات من أجل استكمال تطوير اللغات الوطنية، ولما جاء نظام ولد الطائع ألغى فكرة تطوير اللغات الوطنية وبقي النظام التعليمي نظاما مزدوجا بمعنى أن هناك من يدرس باللغة العربية  83% من مدروساته وهناك من يدرس باللغة الفرنسية 83 % من مدروساته، ونشأ جيلان جيل معرب وجيل مفرنس وكان الجيل المعرب هو الأكثر، لكنه تعرض لمؤامرة لأن التعليم والمعارف عربت ولكن الولوج إلى الإدارة والوظائف الإدارية ظلت مفرنسة  وبالتالي أصبح المتعلمون باللغة العربية محاصرين وشهاداتهم شهادات معطلة.

 ثم جاء إصلاح 1999م الذي رفع شعار توحيد النظام التربوي لأن هذه الازدواجية كانت خطرا على الوحدة الوطنية لكنه أخطأ من حيث أحسن فقد أحسن بتوحيد المنظومة التربوية ،وأخطأ إذ أتى بلغة أجنبية وإن كانت قد سادت البلاد منذ الاستقلال، فدرس بها العلوم العلمية المعاصرة.

وينبغي ألا نتغافل عن أن اللغة التي تدرس بها هذه العلوم ستظل هي اللغة الحية لأن أصحابها هم الذين يتولون الوظائف وينجحون في مختلف المسابقات، وهذه الإصلاحات كتب عليها أو على أغلبها الفشل لأنها ليست إصلاحات بالمعنى الصحيح، فالإصلاح هو ذلك الذي يكون نابعا من رؤية واستراتيجية توكل إلى الفنيين والخبراء وتستشار فيها القوى الحية ،سواء كانت قوى سياسية أو اجتماعية وبالتالي  فإن أي إصلاح هو تصورلدى حاكم مدني مستبد أوحاكم عسكري مستبد دون استشارة المجتمع ،ودون أخذ حاجياته وأخذ خصوصياته بالحسبان لايمكن اعتباره اصلاحا.

وذكر الرئيس المرحوم المختار بن داداه في مذكراته  أن الخطأ الأساسي الذي وقع في إصلاح 67 المعروف بإصلاح 66 أنه لم يشرح بما فيه الكفاية، فقدم معلبا دون أن يشرح للناس، ولم تقدم لهم الأهداف والمرامي منه، وبالتالي كانت ردة الفعل هي ما وقع  ونستفيد من هذا أن الأمورالمعلبة وخاصة إذا لم يعهد بها إلى الخبراء غالبا ما تفشل، وفي المثل الحساني أن من يريد أن يصنع "علافة لعر يجب أن يقيسه عليها" وينبغي أن يستشار الفاعلون السياسيون والفاعلون الاجتماعيون والمجتمع المدني في المواطن الذي نسعى إليه وأبرز آليات تكوين هذا المواطن ،وبالتالي فهذا من العوامل التي أدت إلى فشل هذه الإصلاحات ومن العوامل التي أدت إلى الفشل ،خاصة في إصلاحي 79 و 99 أنهما  في الغالب إصلاحان  سياسيان  يعني أن الهدف منهما  إما إسكات ضغط داخلي أو تناغم مع ضغط خارجي فإصلاح 79 كان الهدف منه إسكات الساحة الداخلية فمن يريد العربية يدرس باللغة العربية ومن يريد أن يدرس باللغة  الفرنسية يدرس بالفرنسية ،ومن الطبيعي أن هذا ليس نابعا من احتياجات تربوية وليس استجابة لتشخيص واقع موضوعي ثم جاء إصلاح 1999 في إطار إلقاء النظام الرسن إلى الغرب ،والتجاوب معه بما في ذلك العلاقة مع إسرائيل ،وتقليم أظافر الهوية بإضعاف اللغة العربية وهذه العوامل مجتمعة يمكن أن نختصرها في الارتجالية وهذه الارتجالية تتمثل في جملة أمور من أهمها  عدم اتخاذ الإجراءات المصاحبة.

  كيف لحكومة تفكر في أن تتقدم بإصلاح مثل إصلاح 1999  يقضي بأن تدرس الرياضيات والعلوم الطبيعية باللغة الفرنسية وإذ ذاك الأساتذة التابعون للوزارة أغلبهم إنما يستطيع تدريسها باللغة العربية ،ولم تتخذ أي إجراءات مصاحبة لا من حيث المراحل الانتقالية التمهيدية ولا من حيث التكوين الفاعل والسريع للأساتذة ،فضلا عن ذلك جوبه الإصلاح  برفض شعبي ورفضته النخبة ونذكر أنه في تلك  السنة وقع عشرات الأساتذة والمعلمين عريضة رفض وطلب مراجعة لهذا القانون وهذه العوامل لا بد أن تؤدي إلى فشل الإصلاح.

موقع الفكر: ما الأسس الموضوعية والفنية  اللا زم توفرها كي يبلغ الإصلاح غاياته وأهدافه؟

محمدن بن الرباني : أظن أن أسس الإصلاح الناجح تبدأ من التشخيص الموضوعي ولا بد أن تشخص الحالة التربوية تشخيصا موضوعيا بعيدا عن المزايدات السياسية كأن نقول إن منظومتنا التربوية تعاني  الخلل "أ"، والخلل "ب" إلخ والتشخيص الصحيح كتعرف الطبيب على الداء يقتضي عادة القدرة على اكتشاف وتقديم الدواء الصحيح وبعد التوصيف ينبغي أيضا أن يعلم أن مسألة التعليم والتربية لأنها مسألة تكوين المواطن والفرد الصالح القادرعلى دفع عجلة التقدم في بلده  ـ والذي يحمي هوية مجتمعه وخصوصيته الحضارية ـ  ينبغي أن تكون محل اتفاق وطني وبالتالي لا بد من محافل وطنية غير مسيسة وغير موظفة سياسية ولا يستثنى أي طرف مهما بدا أو صنفته الحكومة بأنه طرف ذو شذوذ في مسألة معينة ،فما دام التعلم يعني جميع المواطنين فينبغي أن يكونوا جميعا معنيين به، الأمر الثالث هو تحديد الغايات الكبرى ما الذي نريده من المواطن وما حدود انفتاحنا على العالم الخارجي! وما أبرز المعارف التي ينبغي أن يتلقاها المواطن الذي نسعى إليه حسب المراحل العمرية والتعليمية التي يتلقاها ثم إذا اتفقنا على الغايات والاستراتيجيات العامة ينبغي أن يسند هذا الأمر إلى مجلس وطني متنوع فني مستقل لأن السياسة هي ما يفسد التعليم والأنظمة ـ  وإن كانت في ظاهرها أنظمة ديمقراطية إلا أنها إذا لم تكن حقيقة ديمقراطية نابعة من إرادة الشعب ـ  تتخذ من التعليم وسيلة مزايدة أحيانا وأحيانا وسيلة إقصاء واستبعاد لمكون معين أو بعض المكونات الأخرى وينبغي كذلك إيجاد مجلس وطني من الخبراء متنوع توكل إليه مهمة التعليم،  وإذا اجتمعت هذه الأمور في إصلاح يمكن أن نقول إنه إصلاح حقيقي.

والتعليم لا يمكن أن يوجد بدون إنفاق، إنفاق غير معتاد ولذلك نجد أن الدول التي عرفت نهضة علمية تشبه الطفرة إنما فعلت ذلك بأن خصصت للتعليم ميزانيات استثنائية ، فمثلا كوريا الشمالية بعد الحرب العالمية خصصت في بعض السنوات للتعليم ميزانية 63 % من الميزانية العامة ولا يمكن أن تحدث إصلاحات جوهرية حقيقية تتغلب على النواقص التي ذكرنا بعض أهمها كالبنى التحتية ووضعية المدرس، لا يمكن أن تعالج بالإرادة السياسية وحدها ولا باتفاق المجتمع، فلا بد أن تضخ فيها موارد مالية كبيرة.

وقد يقول قائل إن هذا تصور حالم ولا يخلو من طيبوبة ولكنه الحقيقة، فالدول اليوم يقاس تطورها بقدر تطور تعليمها وتعليمها بقدر إنفاقها عليه، ولا يمكن أن تتطور في التعليم وأن تخصص له 10% أو حتى 20 %  من الموازنة العامة لأن الموارد لا يمكن أن تحدث الفرق والأمر الذي ينبغي أن يواكب ضخ الموارد أن تكون هناك إصلاحات إدارية وأن تأخذ مبدأ العقوبة في محلها والمكافأة في محلها وأن تجعل الموظف المناسب في المكان المناسب وأن تقصي ما توارثناه للأسف وهو مما أضاع التعليم ـ التعيينات التي  تقوم على أساس القرابة أو الولاء السياسي ـ وفي الإصلاحات الإدارية كذلك لا بد أن ننبه إلى ضرورة المصادر البشرية فلا يعقل أن يكون المعلم في ظروف غير مناسبة ولا يعقل أن يترك هملا كذلك ،بل يجب أن يوضع في ظروف مناسبة وأن يُكون تكوينًا مستمرا، ثم يجب أن يراقب وأن يحاسب على تغيباته وهو في النهاية موظف وبقدر إنفاقنا على التعليم وضخ موارد فيه يجب أن يكون بقدر محاسبتنا للمدرس و رقابتنا ومحاسبتنا للمعلم فكما يقال حسنات الأبرار سيئات المقربين.

موقع الفكر: هل المشكل اللغوي سياسي أم تربوي؟

محمدن بن الرباني: المشكل اللغوي مشكل سياسي باعتبار، ومشكل تربوي باعتبار آخر، مشكل سياسي لأن أصله في موريتانيا مشكل سياسي لأنه لو أنصف الدهر فأهل هذه البلاد قبل الاستعمار كانت لديهم لغة علمية وحيدة هي اللغة العربية ولديهم أيضا اللغات المحلية لكن اللغة العلمية التي يتراسل بها ويؤلف بها هي اللغة العربية ،وهذا إن جهله بعض الناس وخاصة من ثقافتهم ثقافة فرنكفونية بحتة يجب أن يعلمه الجميع ،وهي أن اللغة العربية كانت هي اللغة العلمية الأكثر تداولا في البلاد وفي غرب إفريقيا.

من جهة أخرى صار المشكل مشكلا تربويا لأنه من المسلمات التربوية أن اللغة التي تحمل العلم بقدراستيعاب المتلقي وتفاعله معها بقدر استيعابه لمحتواها وما دامت اللغة العربية إما لغة أم  لمعظم المواطنين أوهي أقرب اللغات للغة الأم فهذا يعني أن عدم التدريس بها يشكل عائقا تربويا فهو من هذه الناحية مشكل تربوي. 

والعودة إلى اللغة العربية عبر مسار توافقي فيه مصالحة مع الذات الحضارية وفيه نجاعة تربوية ولذلك حينما كان التعليم في فترات معينة يمارسه من درسوا اللغة حق دراستها ،وخاصة في المحاظر كان تعليما  أكثر امتيازا حتى الذين لا يعرفون اللغة الفرنسية ما إن ينفقون عليها أشهرا حتى يصبحوا من عباقرتها.

موقع الفكر: ما المخرج السليم من الإشكال اللغوي، هل تعميم اللغة العربية؟ أم الإبقاء على اللغة الفرنسية لغة موحدة؟

محمدن بن الرباني: أظن والله تعالى أعلم أن المشكل اللغوي مثل القضايا الكبرى ينبغي أن يحل حلا توافقيا تفاوضيا في منتديات يشترك فيها كل الموريتانيين ،وتقدم فيها أوراق علمية موضوعية ويأتي الجميع وهم منفتحون، يقدرون المصلحة الوطنية حق قدرها ويجعلونها فوق كل اعتبار، وأرى أنه حينما يحدث هذا فإن من نعتبره متطرفا في موضوع اللغة العربية لن يكون كذلك وستكون اللغة العربية لغة إجماعية، وبذلك نكون حصلنا بعدا إجماعيا في المسألة وتبقى لدينا إشكالات من الماضي كمن درس اللغة الفرنسية أو من لا يعتبر أن اللغة العربية لغته الأم ،ولو نظرنا في غرب إفريقيا لو وجدنا أن هذه الدول مثل مالي والسنغال وغامبيا تتسابق إلى التعريب وقد قدم نخبة من "الفرنكفونيين" الذين صنعتهم فرنسا مثل الرئيس "سينغور" عريضة مطلبية مع مجموعة من المثقفين لكي تسمح فرنسا بتدريس اللغة العربية في الأنظمة التربوية وأن يمنح طلاب المعاهد الذين يدرسون باللغة العربية كما يمنح الطلاب الذين يدرسون اللغة الفرنسية وعللوا ذلك بأن اللغة العربية لغة جامعة لغرب إفريقيا.

وتبقى مسألة أخرى بالغة الأهمية وهي واجب تطوير اللغات الوطنية، هذه لغات لمجتمعات موريتانية ولها كامل الحق في تطوير لغاتها وهناك تجارب لتطويرها و ينبغي أن نسعى ما أمكن لذلك، حتى إذا أصبحت لها قدرات علمية فلا مانع من التدريس بها أما اللغة الأجنبية فينبغي أن يتعامل معها تعامل الضرورة وما دام لدينا خريجون هم إنتاج المنظومة التربية فيجب أن تحفظ لهم حقوقهم في إطار الترتيبات الانتقالية ولا يحتاج ذلك إلى ترسيمها واعتبارها لغة تعليم، بل يكفي أن تصدر قوانين تقضي بحفظ الحقوق الوظيفية والسياسية لمن درس بتلك اللغة بما في ذلك حق النفاذ إلى المعلومات الضرورية.

 

هل يمكن مرتنة مفهوم المدرسة الجهورية بمعنى أن نأخذ المساواة في التعليم دون أخذ المفاهيم العلمانية المتوحشة؟

محمدن بن الرباني : هذه المصطلحات ربما كانت بحاجة إلى كثير من التدقيق ومعرفة المدلولات ،وربما التطورالتاريخي ولكن الذي لا ريب فيه أن المدرسة الجمهورية إذا كانت تعني أن الأطفال في أمة ما أو مجتمع  ما كالمجتمع الموريتاني يدرسون في مكان واحد و يتلقون الثقافة ذاتها والمعرفة ذاتها و تتاح لهم نفس البنى التحتية ،فهذا لا شك أنه أمر مطلوب وينبغي أن نسعى إليه وهذا الاستخدام هو الاستخدام الذي يقصده أغلب المستخدمين للمصطلح.

موقع الفكر: إلى أي مدى يمكن تحقيق أهداف المدرسة الجمهورية؟

محمدن بن الرباني: المدرسة بشكل سريع من أهدافها خلق المواطن الصالح وحفظ التراث وخلق وئام  وتجانس بين المواطنين وهذه الأهداف إذا توفرت فهناك مدرسة نموذجية سواء سميناها مدرسة جمهورية أو مدرسة، استبدادية المهم أن تؤدي هذه الوظائف الثلاث.

موقع الفكر: هل تحقق الدولة للموظف الحد الأدنى من الرضا الوظيفي فيما يتعلق بالرواتب والتأمين الصحي والعناية بالأسرة؟

محمدن بن الرباني: الجواب يدركه كل ذي عينين.

موقع الفكر: هل يمكن نهوض التعليم بموظفين يعيشون واقعا مثل واقع المدرس اليوم؟

محمدن بن الرباني : من يريد أي نهضة أو تنمية بمدرسين أومعلمين ،بمدرسين ضعفاء المستوى منهكين كمن يريد أن ينتصرعلى قوة كبرى بجيش من الزمنى، فلا بد أن نوجد معلمين مكونين تكوينا علميا نوعيا مكونين تكوينا تربويا مميزا.

موقع الفكر : يلاحظ بين الفترة والأخرى مراجعة للبرامج التربوية هل هي استجابة لحاجة وطنية أم تناغم مع جهات دولية، أم لمجرد استدرار التمويلات؟

محمدن بن الرباني : كما ذكرنا فإنه من الخلل التربوي أن المراجعات التربوية غالبا لا تكون استجابة لحاجات البرامج ،ولا تكون بسبب البرنامج واستنباط واستدراك الملاحظات عليه ،ولعلكم تلاحظون أنه منذ سنتين قيم بمراجعة للبرنامج الذي روجع سنة 2016 وهذه البرامج لما تطبق حتى يعلم هل هي بحاجة إلى المراجعة أم لا ،وقد يكون للأمر علاقة بما قلتم وقد يكون الأمرحرصا من المسؤول.

موقع الفكر: ماسبب الأزمة المستفحلة في الكتاب المدرسي؟

محمدن بن الرباني: بالنسبة للكتاب المدرسي أظن أن هناك عوامل أدت إلى الحالة التي تكلمنا عنها سابقا، ولا أظن أن الجهة المكلفة بإنتاجها وهي المعهد التربوي قادرة على إنتاج الأعداد المطلوبة رغم أن قلة سكان هذا البلد، ولكن إذا سمعت الأعداد التي يتحدث عنها المسؤولون فستجد أنها أعداد قليلة فيتحدثون مثلا عن مليون نسخة من الكتاب المدرسي ومليون نسخة في الحالة الطبيعية لا تكاد تغطي ربع الاحتياجات، فلديك ثمان مائة ألف تلميذ ومتوسط الكتب ينبغي أن يكون ستة كتب لكل تلميذ،وهوأربعة ملايين وثمانمائة ألف كتاب، والمعهد لا ينتج هذا العدد، إضافة إلى الفساد والمضاربات في السوق، وبالتالي يوجد الكتاب في السوق بأسعار باهظة ولا يوجد في المدارس وإذا اجتمعت الندرة الأصلية مع هذه المضاربات فمن الطبيعي أن تستفحل الأزمة.

موقع الفكر: إلى أي سبب ترجعون الأزمة المستفحلة في نسبة النجاح في الامتحانات الوطنية، هل هو مظهر من مظاهر الفشل أم هي مظهرمن مظاهر الجدية والصرامة؟

محمدن بن الرباني: نسبة النجاح في الامتحانات الوطنية مقارنتها بالدول المجاورة مزعجة بل بعضهم يقول إنها فاضحة، وأذكر أن بعض المسؤولين قال إنه حضر اجتماعا في باريس حول الامتحانات وقال أحد المتحدثين إن هناك مشكلة في مدينة معينة وهي أن نسبة النجاح منذ سنوات لم تتجاوز 75%، وهذا بالنسبة إليهم أزمة ،ونحن لا يخفى عليكم أن هذه السنة من أحسن السنوات ففي الدورة الأولى بلغت نسبة النجاح 16% وفي الدورة الثانية وصلت النسبة إلى 10%،الجميع في الدورتين لم يصل عتبة ال30٪، و هناك عدة عوامل  أظن أن من بينها  أمورا فنية معقدة جعلت الواقع يكون بهذه الصعوبة، وما دامت الحكومة لم تبن جامعة قادرة على استيعاب هذه الأمواج البشرية فسيظل الأمرعلى هذه الحال بأمور ظاهرة أو باطنة.

ولك أن تتصور أننا نتكلم عن أزمة الباكلوريا والجامعة في نفس الوقت تسد الباب أمام التلاميذ فكيف به لو لم تكن هذه الازمة موجودة لكانت النسبة أكبر.

وهناك عدة عوامل من بينها الترشح الحر ،ولا شك أنه عامل من عوامل انخفاض نسبة النجاح لأنه يؤدي إلى ترشح أعداد كبيرة ممن ليست لديهم خبرة وليس لديهم ارتباط بالمدرسة، ولو كان مقتصرا على من كان في التعليم فلا شك أن النسبة ستتحسن ولكن هذا في الغالب سيكون له ضريبة ،وهو أن كثيرا من المجتمع الموريتاني يتعلم تعليما موازيا عن طريق التعليم المحظري، وبالتالي فإن سد باب الترشح الحر يعني سده في وجه هؤلاء.

موقع الفكر: التدني الشديد في مستوى تصنيف جامعتنا والتي تحتل ذيل الترتيب العالمي هل له علاقة بتدني مستويات الطلبة في المراحل الابتدائية والإعدادية والثانوية، أم له علاقة بإدارة وتخطيط وتمويل التعليم العالي؟

محمدن بن الرباني: أظن أن هذا وذاك و"الجمع واجب متى ما أمكن" وأنت تعلم أن المعارف بناء تراكمي وبالتالي أنه من وصل إلى الجامعة في أي تخصص من التخصصات ولم يكن قد حصل الحصص التراكمية المفترض أن يحصلها في المراحل  الفترة السابقة ستبقى لديه ثغرات من الصعب سدها ،خاصة أنه كلما ارتفعت المرحلة كلما صعب سدها فأنت في الجامعة إذا كنت تدرس الأدب وكان طالبك لا يميز بين الجملة الفعلية والجملة الاسمية ولا يميز بين التاء المربوطة والتاء المبسوطة فقد فات الأوان حقيقة لسد هذه الثغرات وهذه في مختلف الأمور، أضف إلى ذلك أن التعليم العالي عندنا ليس نموذجيا،  فالأستاذ يدرس في مدرج قد يكون كبيرا ولكن  الطلاب أحيانا يبلغون خمس مائة أوست مائة طالب وهذا لا يمكن أن يكون معه تميز معرفي خاصة إذا تعلق الأمر بالأعمال التطبيقية الميدانية إضافة إلى ضعف البحث العلمي.

موقع الفكر: إلى ماذا ترجعون ضعف القدرات الاستيعابية لمؤسسات التعليم العالي؟

محمدن بن الرباني: هل يعقل أن تكون اليوم في دولة استقلت منذ ستين عاما جامعة وحيدة لمختلف العلوم وجامعة أخرى للعلوم الشرعية، وهذا الواقع يجعل القدرة الاستيعابية ضعيفة لا يمكن أن يكون الوطن كله منصبا في جامعة واحدة، وبالتالي ما لم تأت أنظمة يكون في سياساتها بناء جامعات وتوزيعها على الخريطة الوطنية بعدالة ستظل القدرة الاستيعابية ضعيفة.

والمركب الجامعي الجديد للأسف ظهرفي فترة كان القائمون على الشأن مبدعين في التفكيرفي محاربة المد النقابي ،سواء كان هذا المد مدا طلابيا أو كان مدا مهنيا وكان من إبداعاتهم أنه لكي تنجو الحكومة والعاصمة بصورة خاصة من أنشطة الطلاب واحتياجاتهم ولكي يغيبوا عن الإعلام ينبغي أن تنشأ الجامعة بعيدا عن المدينة.

وللأسف ما قلناه في البداية عن الإصلاحات من الارتجالية وعدم الدراسة مطبق في كثير من المجالات. ولدينا جامعة مفيدة ومهمة تبجح منشؤها بأنها كانت قرارا ارتجاليا ، فالرئيس محمد بن عبد العزيز قال في مهرجان مشهود إن بعض الناس جاءوا إليه وأخبروه أن العلوم الشرعية أصبحت مهددة فأمر بإنشاء جامعة لعيون بدون دراسة وبدون ترتيب.

موقع الفكر: حدثونا عن الرقابة على المدارس الدولية الوافدة وخصوصا المدرسة الفرنسية فهل تخضع لرقابة الدولة أم هي فوق القانون؟ مع العلم أنها في بعض الدول الإفريقية الأخرى تدرس الأطفال بعض العقائد المسيحية؟

محمدن بن الرباني: عموما ينبغي أن نميز بين الجانب النظري وبين الواقع الذي قد يتأثر بالفساد الذي كنا نذكر والجانب النظري  ينص على  أن المؤسسات التي تقوم على أرض الجمهورية الإسلامية الموريتانية ملزمة بتدريس المناهج الموريتانية ،ولا يجوز أن تخرج عنها وعلى المفتشية العامة أن ترسل من وقت لآخر بعثات إلى تلك المدارس للتأكد من مدى مطابقتها للمناهج الموريتانية، إلا إذا كانت هنالك مدارس لتدريس أبناء الجالية فهذه المدارس تدرس مقررات تلك الدولة وليس للمنظومة التربوية عليها من سلطان إلا أنه لا يجوز للمواطنين أن يلتحقوا بها ،باستثناء من كان يدرس في الخارج وتحول لمتابعة دراسته، والواقع كواقعنا جميعا قد يكون فيه اختلالات وخروقات و لا أنكر ذلك.