ساكنة الشامي: بين مخاوف التلوث وهواجس المستقبل المجهول (تقرير)

(بعثة الفكر) مدينة الشام أحدث مدن البلاد وأكثرها استقطابا للعمال والباحثين عن الثراء السريع، كأنما كشفت عنها عواصف الرمال التي لا تكف عن الهبوب، في منبسط صحراوي قاحل لا ماء فيه ولا زرع، شوارع فسيحة، ومباني سكنية فخمة، ومرافق خدمية شبه متكاملة، أريد لها أن تكون مدينة حديثة لخدمة أعمال التنقيب عن الذهب، وأن تصبح قطبا تنمويا ينافس مدن المعادن في البلاد: اكجوجت وأزويرات، لكن مصيرها لما يتضح بعد أقل من عقد على إنشائها ،فلا تزال هواجس أن تعود المدينة للأشباح كما كانت تعرف- حاضرا لدى الساكنة الأصليين، والذين لم يصدقوا أنفسهم وهم يتابعون أشغال التعمير والبناء في هذا المشروع الذي ظل إلى وقت قريب حلما لدى الكثيرين..

واليوم وبعدما أصبح الحلم حقيقة لا مراء فيها وجذب الاستقرار في المدينة والبحث عن حياة أفضل بعض الساكنة الأصليين ،الذين كانوا يمارسون حياة الرعي والانتجاع في فضاء صحراء تازيازت الواسع، فيما امتهن البعض مهن التجارة والصيد في المدن والتجمعات القروية القريبة..يتساءل الساكنة عن مستقبل مدينتهم التي شهدت بفعل ورش التعدين ،واستخلاص الذهب طفرة سكانية وتوسعا عمرانيا تركا بصماتهما على مختلف جوانب الحياة في هذه المدينة.

مشكل النفايات والتلوث:

المختار ولد محمد سالم، خمسيني يعيش مع أسرته على أطراف المدينة عمل في البداية في مقالع استخراج الحجارة ثم في ورش استخلاص الذهب، لكنه اليوم يكتفي بريع ما يدره تأجير محلات ومرافق سكنية في المدينة التي تشهد هذه الأيام عودة قوية للمنقبين والعاملين في ورش استخلاص المعدن الثمين، بعد رفع إجراءات حالة الطوارئ التي فرضتها جائحة كورونا، وفي ظل الحديث عن تحسن الخدمات الموجهة للمنقبين وعمال التعدين، تلك الخدمات التي تنظمها وتشرف عليها شركة معادن موريتانيا.

يشير ولد محمد سالم إلى أكوام من النفايات المنزلية ،ومخلفات ماكنات طحن الحجارة ،وأشغال استخلاص الذهب وهو يقول إن أخطرما يتهدد السكان الآن هو النفايات والأوساخ المتراكمة في الطرقات وبين البيوت، ولا جهة حتى الآن تعنى بالتخلص منها وتجميعها خاصة في ظل تطبيق الوافدين على المدينة للمثل :"خذ خيرها ولا تجعلها وطنا".

أما مخلفات ورش استخلاص الذهب من المياه المشبعة بالزئبق، وسوائل المعالجة السامة فلا يمكن التكهن بمخاطرها في حال تسربها إلى المياه الجوفية، ومع ذلك يرى ولد محمد سالم في إجراء تجميع هذه الورش وتسوريها في مكان مفتوح على أطراف المدينة خطوة في الاتجاه الصحيح.

في طرقات المدينة التي تقع في منتصف الطريق بين نواكشوط ونواذيبو تكثر محلات بيع المواد الاستهلاكية التي لاتكاد أسعارها تستقر على حال بفعل المضاربة والاحتكار، يعلق أحد الحمالين وهو ينزل حمولة عربته من المواد التموينية أمام أحد الدكاكين.

مع ارتفاع أشعة الشمس تتوافد على المدينة عشرات السيارات الرباعية المحملة بأكياس الحجارة ،والتي غادرت لتوها مقالع الاستخراج في تجريت، أو لخنيفسات أو انتالفه، أو تازيازت وأقربها يقع على بعد 60كم من المدينة كما يقول أحد السائقين وهو في طريق العودة لجلب حمولة جديدة. 

تجارة بلاقيود:

في الشامي تجد من أنواع التجارة ما يتماشى مع احتياجات الساكنة ،لكن العرض يبقى رهنا بمتطلبات عمال استخلاص الذهب وماكنات طحن الحجارة، ولا يعدم المتجول في السوق الخاص بورش الحجارة محلات لصناع تقليديين يعرضون خدماتهم في تصليح مولدات الكهرباء ،وماكنات التكسير وكصاغة مهرة تدربوا على استخلاص الذهب، وتكريره باستخدام الزئبق والنار.

وقرب السوق المحاذي لورش المعالجة لا صوت يعلو فوق هدير المولدات الكهربائية، والتي تظل المصدر الأول للطاقة لدى ورش المعالجة. وعلى مقربة من وسط المدينة ترتفع أكوام من مخلفات المولدات المتهالكة تترك انطباعا بمعاناة المدينة من أزمة كهرباء متجددة.

في السوق الرئيسي للمدينة يبدي الشاب سيدي محمود ـ الذي يعمل في بيع اللحوم والخضروات ـ تحفظه في الرد على الأسئلة خشية أن يكون للسائل علاقة بالمصالح الحكومية والتي أعلنت عن أسعار محددة للحوم لا يكترث لها الباعة، ما دامت السلطات غائبة على مستوى ضبط أسعار المواشي، ولا تقدم أية خدمة للجزارين وباعة اللحوم على حد تعبيره.

في المحل التجاري القريب سلع استهلاكية متنوعة جلها من معلبات المياه والألبان، والعصائر والسردين :"الأسعار هنا لا ضابط لها ولا حدود للربح ما دام مجرد توفير السلعة جهدا يذكر فيشكر، وفي ظل غلاء المحروقات وارتفاع تكلفة النقل وتداعيات الجائحة " يقول البائع الشاب سيدي إبراهيم، وهو يذب الذباب عن معروضاته، والذي تجتاح المدينة أمواج متحركة منه هذه الأيام.

وأنت تسير في مركز المدينة لا حاجة إلى أن تستقل سيارة خاصة، فالمباني السكنية ومقرات المصالح الإدارية والخدمية في مكان واحد تقريبا ،حيث جرى تشييدها من طرف شركة "إسكان" ولا زال الكثير منها في حالة جيدة، ومع ذلك فالمدينة في حاجة إلى نقطة للحماية المدنية ومركز للحالة المدينة إضافة لاستكمال منشئات إدارية كمقر لمحكمة المقاطعة، وممثليات المصالح الإدارية الموجودة في غيرها من المقاطعات يعلق أحد الساكنة.

عمالة محلية ووافدة:

في مدخل المدينة وأمام الحائط الذي يسور ورش معالجة الحجارة واستخلاص الذهب حشد من العاملين في مجال التنقيب، وخدمات المعالجة والتكسير من أجل العثور على زبائن جدد ،ومن بين هؤلاء عاطلون يريدون اكتساب خبرات ومهارات في هذا المجال.

محمد قادير شاب سوداني هوأحد هؤلاء، قال إنه بدأ العمل في مقالع الحجارة وعمره ستة عشر سنة، وله تجربة في الكشف عن الحجارة التي تحمل معدن الذهب، كما يجيد أعمال التصفية والتكرير، قادته رحلة البحث عن العمل إلى مالي قبل أن يصل موريتانيا التي يرى أنها في أمس الحاجة للاستفادة من تجارب الدول الأخرى، حتى لا تقع في نفس الأخطاء والتجارب المريرة التي تواكب استغلال مثل هذا النوع من الثروات.

على مقربة كانت أعداد من سائقي السيارات الرباعية في مهام البحث عن مسافرين سواء إلى نقاط التنقيب أو إلى نواكشوط، حيث تكون تعرفة النقل مغرية في أيام العطل، ويكون المردود أفضل في نقل الحجارة عندما تبلغ تكلفة نقل خنشة الحجارة 200أوقية جديدة في المتوسط وحسب البعد من المدينة، ومع ذلك فلهؤلاء مطالبهم من قبيل معالجة الحالة المزرية للطرق المعبدة التي تملؤها الحفر، وتكاد أن تطمرها ألسنة الكثبان الرملية المتحركة في مقاطع منها، وكذا غلاء المحروقات التي يطالبون بدعم الموجه منها للتعدين على غرار المعمول به في قطاع الصيد بنواذيبو، كما يبدون شكواهم من الرسوم المفروضة على كل خنشة حجارة تدخل ورش المعالجة ،وهو 30أوقية جديدة، كما يقول السائق محمد ولد محمد سالم من ساكنة الشامي الأصليين.

الحبل السري:

لا أحد من سكان الشامي يماري في المكاسب الهامة التي جنتها المدينة، من تقريب للخدمات وتوفير لفرص العمل واستحداث بنية تحتية هامة، تلك المكاسب والمزايا التي لا زالت تحجب عن الكثيرين حقيقة ما يشاع من مخاطر صحية وبيئية، قد يحملها الطابع التعديني والعمالي لهذه المدينة الناشئة، لذا يظل مطلبهم الأول هو الإبقاء على ورش معالجة الحجارة ومعالجة الذهب، ويعلنون معارضتهم لتحويلها إلى أي وجهة حتى ولو كانت على أطراف تازيازت التي تقع في داخل الحوزة الترابية للمقاطعة، ولا يتردد البعض في وصف هذه الورش وأعمال التعدين بالحبل السري للمدينة، والذي في حال قطعه سيحكم عليها بالموت والضياع.

وفي المقابل يطالب السكان باستكمال البنية التحتية للمدينة، والسهر على تنظيم أشغال التعدين مثمنين الجهود التي تقوم بها شركة معادن موريتانيا في هذا الإطار.

ولا يخفي السكان سعادتهم بالاجراءات الأمنية التي باشرتها شرطة المدينة لضبط النظام والتصدي لبؤر الفساد الأخلاقي، وقطع أسباب الجريمة كما صرح بذلك أكثر من شخص، ولعله من النادر وجود مثل هذا الرضى عن جهاز الشرطة الوطنية، فأغلب من قابلنا من الساكنة يشيدون بجهود مفوضية الشامي ومفوضها في التصدي للجريمة والحزم أمام كل ما يهدد قيم المجتمع، وهذا بدون شك سيساهم في جعل المدينة أكثر أمنا وراحة واطمئنانا وجاذبية للإستثمار والسياحة.

مطالب وهموم عديدة يتقاسمها سكان مدينة الشامي بمن فيهم الساكنة والعمالة الوافدة، كالحد من مخاطر التلوث وتوفير الخدمات الأساسية، لكن الخلاف يطفو إلى السطح عندما يتعلق الأمر بالمشترك الذي ينبغي أن يتفق عليه الجميع، وهو الإجابة على سؤال يتردد كثيرا على ألسنة الساكنة عن المسوغات الموضوعية وراء تحويل الورش التعدينية عن المدينة، بعد كل تلك الاستثمارات الضخمة والموارد الكبيرة التي أنفقت من أجل تعميرها وإمدادها بوسائل الحياة والنماء.

كل ما نتمناه أن تقدم السلطة القائمة مزيدا من الجهد والجدية على ما تبذل حتى ينتج عن البذل الحصاد، وحتى تظل هذه القرية وما حولها عامل دفع لعجلة التنمية في البلاد، ولعله من المناسب إحاطة شركة "معادن موريتانيا" بمزيد من العناية والترشيد والرقابة الصارمة، لا لأنها متهمة وإنما بصفتها الجهة المخولة من طرف الدولة بموضوع المعادن، ويتعلق بصلاحها صلاح القطاع، فكلما أحسنت حكامتها تعزز الأمل في القلوب المتعبة .