لم يكن إنشاء معهد الدراسات الإسلامية في بوتلميت سنة 1956 حدثا عاديا في موريتانيا وغرب إفريقيا، بل كان إيذانا بانطلاق مسيرة جديدة من أجل تحديث المحظرة وتطوير وسائلها.
كانت السنوات التي سبقت تأسيس المعهد سنوات الخروج من أصعب مجاعة عرفتها البلاد خلال الحرب العالمية الثانية، حيث تدمرت عشرات المحاظر، وابتلع غول الجوع آمال الفقراء والأغنياء على حد سواء.
ولوعي مؤسس المعهد الشيخ عبد الله بن باب بن الشيخ سيديا بالمتغيرات الجديدة في البلاد، وآثار الجفاف، زيادة على ما شاهد من معالم ونماذج تعليمية خلال رحلته للحج سنة 1948 كان قراره صارما ومحددا بإنشاء معهد إسلامي على غرار المعاهد الإسلامية الكبرى في القيروان والأزهر
كان الشيخ عبد الله ولد الشيخ سيديا قد أسس بداية الأربعينيات جمعية لترقية الثقافية الإسلامية في موريتانيا وغرب إفريقيا، وإضافة إلى معارفه الإسلامية الواسعة، فإنه لم يكن فقيها تلقيديا، فقد استقى من والده روحا سلفية تسعى إلى تطوير منهجية التدريس والتعامل مع النصوص الشرعية، كما مكنته علاقاته الوطيدة جدا مع الفرنسيين من الاستفادة من الخبرات التربوية التي كانت ضمن الفريق السياسي والأمني للاستعمار الفرنسي
جامعة بين كثبان بوتلميت
بدأت فكرة تأسيس المعهد منذ العام 1947، حيث بدأ ولد الشيخ سيديا جمع الأموال الكافية لإطلاق المعهد، كان هذا الرجل المؤثر في غرب إفريقيا قد ورث ثروة طائلة من والده، وتعززت خلال عقود.
ومع منتصف الخمسينيات أصبح المعهد الحلم حقيقة، وارتفعت بنايات المعهد الذي سيتحول لاحقا إلى مجرد ثانوية لا أكثر.
وتؤكد الوثيقة التأسيسية للمعهد أنه " مفتوح للشبان المسلمين من إفريقيا الغربية وجميع البلدان المجاورة لها"
وتضيف الوثيقة التأسيسية " إن المعهد حريص على تدريس العلوم الشرعية التي بها قوام الدين واللغة العربية ويتشرف بأن يكون من أوثق المحافظين عليها"
ولم تغب العلوم العصرية عن اهتمام إدارة المعهد وأساتذته حيث خصصت للرياضيات والعلوم الطبيعية والتاريخ والجغرافيا جانبا مهما من التدريس"
مقررات موسوعية
وتصل مرحلة التدريس في المعهد 10 سنوات يحصل فيها الطالب وذلك عبر مرحلة ابتدائية وأخرى إعدادية، تختتم بالمرحلة العليا التي يتخرج فيها الطالب وقد جمع علوم المحظرة الموريتانية إضافة إلى بعض المعارف العصرية ومن أبرز مقررات المعهد
- القرآن الكريم حفظا وإتقانا
تفسير الطبري، تاريخ الطبري
علوم المحظرة
الفقه المالكي من خلال مختصرات الفقه ومختصر خليل مع شرح الحطاب، دراسة المدونة في الفقه المالكي، الديباج المذهب
وتحفة ابن عاصم
ألفية ابن مالك ولامية الأفعال، دراسة ديوان غيلان، تاريخ النحاة واللغويين
الكوكب الساطع
بلوغ المرام كتب الصحاح والسنن، ألفية العراقي في مصطلح الحديث
دراسة تاريخ المصلحين المعاصرين
عمود النسب موزعا على سنوات القسم الجامعي
منتدى العلماء الأجلاء
انتدب الشيخ عبد الله ولد الشيخ سيديا زمرة من خيرة العلماء المشهورين في منطقته يوميذ للتدريس في المحظرة، ويمكن اعتبار الشيخ عبد الله رئيس مجلس إدارة للمعهد، فيما كان مديره المباشر ابن أخيه العلامة اسحاق ولد محمد ولد الشيخ سيديا.
ومن بين أبرز المدرسين في المعهد يومها
الشيخ محمد عالي ولد عدود – الشيخ محمد يحيى ولد عدود رحمهم الله، والشيخ المحدث محمد بن أبي مدين، والعلامة المحدث محمد بن آبوه رحمه الله، والعالم الدبلوماسي الشهير الشيخ محمد فال ولد البناني، والشيخ حمدا ولد التاه، والدكتور محمد المختار ولد أباه، والمؤرخ الكبير المختار بن حامدن، والمقرئ العلامة الدنبجة ولد معاوية، والشيخ إسحاق ولد محمد ولد الشيخ سيديا، والشيخ أحمد ولد المختار ولد داداه، والشيخ أحمد ولد مولود ولد داداه، إضافة إلى الشاعر السيري الشيخ عبد الله ولد عبد الرحمن والتربوي الوزير السابق سيدي محمد ولد الديين رحم الله الجميع
أول مؤسسة لتكوين الأطر
تعاقبت على معهد بوتلميت أجيال متعددة من أجاويد الطلاب الذي كان لهم شأن كبير في الدولة الموريتانية على كل الصعد ومن بين هؤلاء الشاعر الكبير أحمدو ولد عبد القادر، والوزير الأسبق الفقيه إسلم ولد سيدي المصطف، والسفير عبد الله ولد الغزالي، والتربوي الكبير لكبيد ولد حمديت، والمؤرخ واللغوي الشهير يحيى ولد البراء، ومن أشهر الطلاب الأجانب الذين درسوا في المعهد العالم والسياسي المالي الشيخ محمود ديكو
وقد كان الجيل الأول من تلاميذ المعهد من محطيه القريب ومن سكان المدينة ومن غيرها و من بينهم:
هارون ولد الشيخ سيديا
أحمد محمود بن محمد عالي
ابراهيم بن مولود
محمد بن محمذن فال
محمد عبد الله بن أحمد بن الحسن
أحمد بن محمد بن الشيخ سيديا
احمد بن محمد فال
سيدي محمد بن آكه
إسحاق بن أحمد بن الشيخ سيديا
يوسف بن أحمد
أحمد بن مني
سيدي محمد بن محمد فال بن سيديا
الطالب بن الراجل بن منيا
ألفغ بن باب بن سيدي أحمد
الشيخ سيلا
محمد الأمين بن سيدي
محمد الأمين سيس
اسماعيل بن البشير
عبد الله بن ابراهيم
عبد الله بن الديمان
محمدو مولود بن أحمد الجواد
محمدسالم بن أبو المعالي
ويشير الدكتور سيد أحمد ولد الأمير في مقال له عن تجربة المعهد إلى أن عدد طلابه بلغ سنة 1954 بلغ خمسة وأربعين، فيهم بعض الغامبيين وبعض الغينيين. ويتحدث تقرير صادر في يناير 1955 من السير بريان شاروود سميث الحاكم العام لشمال نيجيريا، أن أخبار معهد بوتلميت وصلت شمال نيجيريا، وأن أعيان المجتمع النيجيري مهتمون بابتعاث أبنائهم إلى بوتلميت، لذلك أصبحت بوتلميت مع منتصف خمسينات القرن العشرين مركز إشعاع إسلامي في غرب إفريقيا، ولن نصل إلى سنة 1957 حتى يصل عدد الطلاب 305 طلاب"
ومع الاستقلال كان عدد الطلاب قد تمدد أيضا، وكان لهؤلاء سكن خاص بهم ما تزال كثير من غرفه صامدة رغم عاديات الزمن والنهب الذي طال كل محتوياتها.
وقد مؤسس المعهد يتكفل لطلابه بالمعيشة، والأدوات المدرسية، والثياب إضافة إلى شاة أضحية لكل واحد منهم، ومنحة شهرية
التأميم السياسي.. طريق سريع نحو الإغلاق
مع العام 1962 وضعت الدولة الموريتانية يدها على المعهد وعينت مديرا له خلفا لمديره إسحاق بن محمد الذي كان المشرف على تطويره وتفعيل أدائه طيلة عقد أو أكثر.
وقد اضطر عدد من أساتذة المعهد إلى المشاركة في مسابقة ختم الدروس الإعدادية في المعهد والمعروفة بالعكارية وذلك من أجل المواصلة في التعليم، واستبقاء الراتب الذي كان يدفعه لهم الشيخ عبد الله ولد الشيخ سيديا الذي انتزعت منه الدولة معهده، وتولت تسييره بشكل مباشر
وقد بدأت عمليات التصفية شيئا فشيئا منذ العام 1962، ليصل المعهد إلى المحاق بتحويله إلى ثانوية سنة 1975، منهيا بذلك 28 سنة من الإشعاع العلمي المؤثر والنادر.
وقد كان السبب المباشر لإغلاق المعهد ووضع اليد عليه سياسيا بحتا، حيث تبادل الرئيس المختار ولد داداه مع مؤسس المعهد رسائل غاضبة، بشأن تبعيته، حيث كان ولد الشيخ سيديا يرى ان المعهد هو مؤسسة أنشأها من ماله الخاص ولا ينبغي أن تشملها سيطرة الدولة، فيما عمل المختار على تأميم كل مصادر القوة واحتكارها لصالح الدولة.