لم يبق من البناية الأولى للجامع العتيق في مدينة نواذيبو، غير ذكريات مفعمة بالجلال والجمال والعبق الإيماني النبيل، عند جمهور قليل من جماعته المرابطين بين الصلوات والمسارعين إلى الصفوف والسواري كلما ارتفع النداء حي على الصلاة حي على الفلاح.
أخذ المسجد موقعه الأول في حي "الغيران" العتيق بالمدينة الشاطئية منتصف خمسينيات القرن المنصرم، على يد مجموعة قليلة من السكان، وبمبادرة من إمامه الأول المرحوم البن ولد بده الكنتاوي الذي بدأ مساره في مدينة نواذيبو تاجرا في سوق حي الغيران الشهير.
كانت البناية الأولى عبارة عن مصلى صغير مبني بالحجارة القوية العريضة، وقد ظل صامدا طيلة عقود على هذه الوضعية.
وقد ساعد الإمام البن رحمه الله مجموعة من النواب من بينهم الإمام أحمد الرفاعي رحمه الله تعالى.
قاد البن مختلف التوسيعات التي خضع لها المسجد والتي نقلتها من مصلى صغير إلى جامع ضخم، ذي مساحة كبيرة تستوعب آلاف المصلين.
محراب الدعوة ومقر الجمعية الثقافية الإسلامية
وقد ظل الشيخ البن في محرابه وعلى منبره مثالا للإمامة والدعوة، ونموذجا للتاجر المستقيم، إلى أن أقعده المرض، قبل أن يتوفي في حدود 2008، عن عمر ناهز ثمانين سنة.
وتعتبر فترة الإمام البن ولد بده الفترة الذهبية في تاريخ المسجد، حيث توسع الجامع في هذه الفترة أربع مرات، ليتمدد عدة أضعاف مساحته القديمة.
وطوال فترة الإمام البن ولد بده كان مسجد الغيران المقر الرسمي للجمعية الثقافية الإسلامية التي أقامت بجانبه دكاكين وقفية لصالح المسجد، كما أقامت مقرها في باحته، واستمرت في ذلك إلى حين حلها سنة 1994.
وقد شهد المسجد كما هائلا من الأنشطة والفعاليات الدعوية التي نفذتها جماعات وتيارات ومحاضرون مختلفون، حيث حاضر فيه كثير من العلماء والدعوة، مثل الشيخ محمد الحسن ولد الددو، والشيخ محمد ولد سيدي يحيى، إضافة إلى أئمة وعلماء ودعاة من نواذيبو وخارجها.
وبعد وفاة الإمام البن وتخلي الإمام أحمد الرفاعي رحمه الله تعالى عن الإمامة تولى الشيخ محمد الأمين ولد الصايم إمامة الجامع العتيق لعدة سنوات، حيث واصل مسيرة الإمامة والتربية والتعليم، طيلة ثلاث سنوات إلى حين وفاته رحمه الله.
كما عرف المسجد الدور التعليمي الكبير للفقيه إسلم ولد الطالب زين رحمه الله تعالى الذي كان شيخ محظرة المسجد العتيق، وقد نهلت من معارفه أجيال متعددة من سكان نواذيبو.
وقد تعاقب على المسجد مؤذنون متعددون، من بينهم مؤذنه الأول سيداتي الذي توفي بعد أن رفع الأذان لصلاة الفجر، ومع آخر لفظة مع الأذان انسابت روحه، لتكون ختام مسك على قصة تاريخ عميق وعلاقة راسخة بينه وبين الجامع العتيق.
سنوات الخلاف بين المحراب والمحظرة.
عاش مسجد نواذيبو سنوات طويلة من الخلاف بين القائمين على المحظرة وأئمة المسجد، وقد ظهر هذا الخلاف في فترة الإمام البن ولد محمد بده، بينه والإمام محمد الأمين ولد بلال القيم على المحظرة المذكورة، والقيم أيضا على مقبرة نواذيبو القديمة
وقد تعمق الخلاف بعد ذلك بقوة في عهده إمامه الفقيه السالك ولد النامو، واستمر هذا الخلاف طيلة ست سنوات، قبل أن يتراجع بمغادرة أغلب القائمين على المحظرة إلى أحياء الترحيل الجديدة، وكذا بإحالة الإمامة إلى فقيه آخر وهو محمد الأمين ولد عبدي سالم.
ويتولى ولد عبدي سالم الذي يعرف بأنه أحد الفقهاء والأدباء واللغويين المتمكنين في نواذيبو، إمامة الجمعة والجماعات، وكذا التدريس المحظري.
وفي عقده السابع، وهو يخطو إلى عامه الثمانين، مرت على جامع نواذيبو، كثير من الأحداث والمواقف، وأنماط البناء حيث توسعت بنايته أربع مرات خلال عقوده السبعة المنصرمة.
وخلال السنوات الأخيرة، وبعد أن تدهورت وضعية المسجد، وإثر وعود من السلطات الرسمية بإعادة ترميم المسجد، أغلق الجامع العتيق طيلة سنة كاملة، قبل أن يقوم بعض خيري مدينة نواذيبو بإعادة بنائه على قواعد وأسس جديدة، وتصميم جديد سنة 2019، وفي هذه الفترة بالتحديد نشب خلاف جديد، إثر سعي إدارة الأوقاف إلى السيطرة عل دكاكين وملحقات تجارية تابعة للمسجد، قبل أن يستأنف عتيق نواذيبو فعالياته، بعد أشهر من اكتمال ترميمه سنة 2020، وذلك بعد صراع على "جهة الإشراف على بناء المسجد" بين رجال أعمال وتجار تعهدوا ببنائه من جديد، وبين بعض أئمة المسجد وجماعته، وانتهى الأمر لصالح الممولين الذين أعادوا ترميم المسجد في شكله الجديد الذي يمكن اعتباره معلمة جديدة من المعالم الخالدة في العاصمة الاقتصادية.
وإذا كان "امسيد الغيران" كما يعرفه أهل نواذيبو القدماء محتفظا بلقب ومكانة العتيق، إلا أنه لم يعد المسجد الوحيد في العاصمة التجارية، فقد تعددت المنارات والمحاريب في المدينة، وتعددت أيضا اتجاهات الأئمة والدعاة، وتوسعت أيضا الخلافات وسط صراع قوي بين رموز من الأئمة في نواذيبو، على قيادة رابطة الأئمة.