ارتبط المسجد في تاريخ الأمة المسلمة بالفتوحات والانتصارات، منذ أن أرسل الله رسوله بالهدى والدين الحق، فأقيمت المساجد بوصفها أحب البقاع إلى الله، في بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ رجال لاتلهيهم تجارة ولابيع.. فمع كل نصر للأمة تكون فاتحته تشييدا وعمرانا، فبنيت المساجد وعمرت
لم تنس إفريقيا ولا صحراؤها سجداتنا والأرض تقذف نارا.
وفي الجزء الثاني من هذه السلسلة ندندن حول مساجد لها تاريخ ونتوقف مع المساجد التالية:
1- جامع القصبة بأشبيلية
من المساجد التي بناها أبو يوسف يعقوب بن يوسف المنصور الموحدي..ولم يتبق منه سوى آثار المسجد الجامع بقصبة أشبيليا، وهو من أشهر المساجد الأندلسية، وقد أمر ببنائه الخليفة أبو يعقوب المنصور يوسف، في سنة 567هـ، 1171م. وكان جامع أشبيليا مثل جامع الكتبية.
كانت القباب وعددها ثلاث، تقوم فوق الأساطين الثلاثة الناشئة من تقاطع البلاطات الثلاث الواسعة بأسكوب المحراب، وكانت هذه القباب مقرنصة كما في جامع الكتبية بمراكش. وكان يحف بالمحراب من اليمين باب معقود يؤدي إلى قبو كان يُحفظ فيه المنبر، وإلى اليسار باب آخر معقود للساباط (سقيفة بين حائطين تحتها ممر نافذ) الموصل إلى القصر. وكانت تنفتح في جدران الجامع الخارجية ثلاثة أبواب تؤدي إلى مجنبات الصحن، واحد على امتداد محور بيت الصلاة يعرف اليوم بباب الغفران، وبابان آخران في المجنبتين الشرقية والغربية، تبقّى منها اليوم الباب الشرقي فقط، وهو باب يليه أسطوان (دعامة يقوم عليها البناء) تعلوه قبوة مقرنصة على منوال قباب جامع الكتبية بمراكش. أما أما صومعة الجامع المعروفة اليوم باسم لاخيرالدا فقد تم بناؤها بعد انتصار الموحدين في موقعة الأرك وارتفعت في رشاقة، مشرفة على أشبيلية وما يحيط بها من المنطقة المعروفة باسم الشرف. وكانت تتألف من طابقين: الأول وهو الجزء الأعظم منها ينتهي بالإفريز الأفقي، والثاني برج صغير الحجم يعلو البرج الأدنى في امتداد نواته الداخلية.
بنيت الصومعة في الأصل بمنحدرات يبلغ عددها 35 يمكن من خلالها الصعود إلى البرج. وهذه المنحدرات عريضة بشكل كان يستطيع المؤذن أن يصعد إلى أعلى البرج وهو راكب على حصانه للنداء إلى الصلاة.
إلا أنها اليوم أصبحت برجًا لأجراس كاتدرائية إشبيلية التي أسسها الإسبان بعد نهاية نهاية الحكم الاسلامي لمدينة إشبيلية.
يبلغ ارتفاع الصومعة 102 متر طولي، وكانت عند بنائها أعلى برج في العالم. وبشكلها الحالي يظهر في بنائها البرج تأثير الحضارات المختلفة، بدءا من الحضارة الإسلامية.
تم ترميم المئذنة في عام 1984م، والاحتفال بمرور 800 سنة على بنائها بالتعاون بين المملكة الإسبانية والمملكة المغربية،
فوق الروابي وفي الوهاد نزلزل الأرض إذننادي
كانت المنارة مغطاة بقبة كروية مصنوعة من النحاس إلا أنها سقطت عقب زلزال ضرب المنطقة عام 1365م، فقام المسيحيون المغتصبون للمدينة وللمسجد باستبدال القبة بصليب وجرس.
وفي القرن السادس عشر الميلادي، قام المعماري هيرنان رويز بتصميم برج ناقوس وعلى رأسه تمثال يعبر عن العقيدة المسيحية ليحوّل المنارة إلى برج للأجراس. وضع هذا التمثال على قمة ما لصومعة التي أصبح اسمها الخيرالدة في العام 1568م، أربعة أمتار طولًا دون قاعدته.
حيث كان يطلق على التمثال اسم خيرالدا (أي دوارة أو محددة اتجاه الريح)، ومع مرور الوقت أصبحت المنارة تعرف بهذا الاسم، أي خيرالدا، فيما أخذ التمثال اسم جيرالديللو.
2- جامع الكتبية في مراكش،
من المعالم الإسلامية الراسخة في تاريخ المغرب. يوجد الجامع بالقرب من ساحة جامع الفنا. وتسمية المسجد مشتقة من "الكتبيين" وهو اسم سوق لبيع الكتب يعتقد أنه كان بمقربة من المساجد.
وبقي المسجد شاهداً على تاريخ حضارات. فقد بني الجامع الأول من طرف الخليفة عبد المومن بن علي الكومي سنة 1147م على أنقاض قصر الحجر
أما المسجد الثاني ف تم بنائه في العام 1158م، وهو يشبه من حيث الحجم البناية الأولى، وينتظم في قاعة للصلاة مستطيلة الشكل تضم سبعة عشر رواقا موجهة بشكل عمودي نحو القبلة، تحملها أعمدة وأقواس متناسقة وتيجان فريدة.
ويشكل التقاء رواق القبلة بقببه الخمسة والرواق المحوري تصميما وفيا لخاصيات العمارة الموحدية التي كان لها بالغ التأثير في مختلف أرجاء المغرب الإسلامي.
3-صومعة حسان:
أُسس "جامع حسان" بناءً على أبو يوسف يعقوب بن يوسف المنصور الموحدي، في العام 593 هـ (1197-1198 م)
و يعد من أكبر المساجد في عهده. لكن توقف هذا المشروع الطموح بعد وفاة في العام 1199، كما تعرض للاندثار بسبب الزلزال الذي ضرب الرباط سنة 1755م. وتشهد آثاره على مدى ضخامة البناية الأصلية للمسجد، حيث يصل طوله 180 مترا وعرضه 140 مترا، كما تشهد الصومعة التي تعد إحدى الشقيقات الثلاث لصومعة الكتبية بمراكش، والخيرالدا بإشبيلية على وجود المسجد وضخامته.
تتجاوز مساحة المسجد 2550م2
وفي فترة احتضارالدولة الموحدية استخدمت أخشاب المسجد وأبوابه، صنعت منها سفن الجهاد في سبيل الله لصد هجمات النصارى عن المسلمين في العدوتين، بعد ذلك تعرض للنهب والسلب للسطوا على بقية هذه الأخشاب التي كانت من أشجار الأرز.
وقد تعرض المسجد لحريق عظيم أتى على ما بقي من أخشاب المسجد التي تحولت رمادا، وكان للأمطار ورطوبة البحر وتقلبات الجو أثرها أيضا على هذا البناء الأثري حتى استحال الجانب المطل على نهر أبي رقراق من المنار رماديا كما يبدو ذلك حتى الآن.
4- المسجد الجامع في غرناطة.. آل أمره لمدفن الملكين الكاثوليكيين:
احتل مسجد غرناطة الجامع مكانا سميا بين المساجد في غرناطة الإسلامية، بل أصبح يضاهي جامع قرطبة وأشبيلية والقرويِّين بفاس، ثم تفرَّد بالصدارة بعد سقوط الحواضر الأندلسيَّة الواحدة تلو الأخرى، ومحطّ أنظار العلماء وطلاب العلم، وحظي باهتمام الأسر الحاكمة التي توالت على حكم المدينة، وبعد سقوط غرناطة في قبضة ملكي إسبانيا الكاثوليكيِّين فرناندو وإيزابيلا سنة 897هـ/ 1492م، حظي باهتمامها لكن بشكل آخر بعد قرار تحويله إلى كاتدرائية.
وعندما توفيت الملكة ايزا بيلا القشتالية سنة 1504 أفردوا لها جزءا من قصر الحمراء جعلوه كنيسة ودفنوها هناك ، ثم توفي زوجها الملك فرناندو سنة 1516 وأوصى أن يدفن بجانبها في قصر الحمراء حتى يتم الانتهاء من بناء الكنيسة الملكية ضمن مساحة جامع غرناطة الكبير الذي تم هدمه بعد سقوط غرناطة سنة 1492 وأقيمت على أنقاضه كاتدرائية غرناطة والكنيسة الملكية التي شرعوا في بنائها سنة 1505 وانتهوا منها سنة 1517 بعد وفاة فرناندو بسنة، عند ذلك تم نقل رفاة الملكين الكاثوليكيين بامر من حفيدهما الامبراطور كارلوس الخامس سنة 1521 من كنيسة سان فرانسيسكو بقصر الحمراء الى الكنيسة الملكية المجاورة للكاتدرائية والتي هي في الاساس جزء من جامع غرناطة الكبير فهما مدفونان في مكان كان طاهرا حيث كان موضعا لسجود المسلمين طيلة ثمانية قرون ودفنا هناك لرمزية المكان وتذكيرا بما قام به هذان الخبيثان من جرائم في حق المسلمين الاسبان و نجاحهما لفترة من الزمن في حرب استئصال الاسلام من كل شبر في اسبانيا وابادة وتهجير الاندلسيين. وقد عاد الأذان بحمد لله يصدح من جديد في سماء غرناطة ويصل الى قبريهما ويتعذبان بسماعه.
القبران يقعان في قبو الكنيسة ورفاتهما داخل صندوقين من حديد انظر الصورة الثانية، وقد صنعوا لهما تمثالين من رخام وضعا فوق القبو.
5- مسجد آيا صوفيا:
يقع في منطقة السلطان أحمد بإسطنبول، واستُخدم كنيسة لمدة 916 عاما، قبل تحويله إلى مسجد بعد فتح القسطنطينية، بعد أن اشتراه السلطان من ماله الخاص، فتحول لمسجد اعتبارا من عام 1453، ويعد من أهم المعالم المعمارية في تاريخ الشرق الأوسط وشرق أوروبا، وفي عام 1934م. جرى تحويله إلى متحف وبقي على هذا الوضع لمدة 86 سنة، قبل أن يعيد القضاء والسلطان افتتاحه للعبادة في العام 2020.
حيث أصدر القضاء التركي حكما بإلغاء قرار مجلس الوزراء للعام 1934 بشأن تحويل آيا صوفيا من مسجد إلى متحف بعد دعوى قضائية رفعتها "جمعية الأوقاف الدائمة وخدمة الآثار التاريخية والبيئة".
وفي اليوم نفسه وقّع الرئيس رجب طيب أردوغان المرسوم الخاص بإعادة افتتاح آيا صوفيا للعبادة، ونشر القرار الرئاسي في الجريدة الرسمية، بما في ذلك نقل مسؤوليات إدارة آيا صوفيا إلى رئاسة الشؤون الدينية التركية.
6- مسجد الاستقلال في جاكارتا، عاصمة أندونيسيا،
المسجد الأكبر في جنوب شرق آسيا، بطرازه المعماري، حيث يتميز بتعدد طوابقه الضخمة وساحاته الخارجية الواسعة.
ويلفت نظرك في أعلى المسجد الذي يصنف أنه الثامن عالمياً قبتان كبيرتان ومئذنة بطول 90 متراً، أما سقف المسجد فتزينه الزخارف الإسلامية بأشكال وألوان متعددة وفي جدرانه كتبت عبارة لفظ الجلالة الله ومحمد بشكل بارز.
ويقابلك في مدخل المسجد عدد من الأشخاص أشبه بمكتب استقبال مهمتهم صف أحذية المصلين في رفوف خشبية ومنح كل مصل رقماً خاصاً يحتفظ به لاستلام حذائه بعد فراغه من أداء الصلاة.
وعند دخولك المسجد تشعر بالأجواء الإيمانية التي تلف المكان الواسع؛ فهذا مصلٍ احتضن كتاب الله في تلاوة خاشعة، وآخر يؤدي صلاة السنة الراتبة بكل طمأنينة، وثالث اصطحب ابنه الصغير للصلاة ولسانه يلهج بالدعاء والذكر.
أما النساء في آخر المسجد فتتعجب من كثرتهن وخشوعهن في الصلاة وهن يلفن رؤوسهن بالحجاب في منظر مهيب.
ولا تقتصر رسالة المسجد على أداء الصلوات المفروضة فحسب، بل تمتد إلى أبعد من ذلك من خلال إنشاء فصول دراسية لتحفيظ القرآن الكريم تستهدف البنين والبنات وكبار السن وتوعيتهم في جوانب العبادات وشرح مناسك الحج والعمرة من خلال تنظيم المحاضرات التوجيهية والدورات التدريبية على مدار العام.
وتحيط بالساحات الخارجية للمسجد بحيرة صناعية ونافورة وأسواق تجارية، ويعج المكان بحركة غير عادية من الزوار حتى من غير المسلمين وهم يحملون هواتفهم المحمولة لالتقاط صور تذكارية مع المسجد.
و تطلب يناء المسجد 14 عاماً من الأشغال، وسمي بمسجد الاستقلال؛ لأنه شرع في بنائه بعد استقلال إندونيسيا عن هولاندا في العام 1949، وقد أراد الإندونيسيون حينها أن يشيّدوا مسجداً عظيماً يليق بسمعتهم كأكبر بلد إسلامي سكاناً، بتعداد 275 مليون نسمة.