اختارت إسرائيل اسما مريبا لحملتها العسكرية الجارية على غزة هو السيوف الحديدية، وهي تسمية لا تبدو موازية في وقعها وعنفوانهالطوفان الأقصى الذي اختارته المقاومة الفلسطينة في غزة اسما لعملية السابع من أكتوبر، بالرغم من شحنة العنف والقسوة الباردة فيها، ولم يكن مفاجئا لي أن هذه التسمية بدت في نظر بعض الكتاب بلا معنى وبلا دلالة حتى وصفها تقرير في إحدى القنوات العربية (اسكاي انيوز عربية) بأنها تسمية عبثية بل حتى غبية، وفي مقال منشور في الجزيرة نت توقف كاتبه فقط عند رمزية الاستعلاء والزهو المرتبطة بالسيوف، وربما يكون هذا عائد إلى مقارنتها بتسميات سابقة أكثر صخبا وأشد وقعا مثل الرصاص المسكوب والجرف الصامد ..
والواقع أن السيوف إذا وصفت في سرديات الحروب بالحديدية فهي إحالة مباشرة إلى غيرها من السيوف القديمة قبل العصر الحديدي، والأرجح في نظري أن هذه التسمية هي إحالة إلى ما جرى من إبادة لشعوب الحضارات البرونزية القديمة في الأناضول أو آسيا الصغرى ومصر وقبرص على يد "شعوب البحر" في أواخر القرن 11 ق.م. وهي الحروب التي دشنت نهاية العصر البرونزي وبداية العصر الحديدي ، فرمزية السيوف الحديدية بالغة فيما تعنيه -قصدا - من حسم في تكسير أي سلاح غير حديدي، برونزيا كان أو هجينا ، وهذا جزء من الشحنة الرمزية لهذه التسمية، غير أن الرسالة وراء ذلك -حسب هذه القراءة -هي القول بأن عصرا جديدا قد بدأ وأن عصرا آخر قد انقضى أو على وشك أن ينقضي.
إن الاحاديث الإسرائيلية الصريحة في الإعلام ومقابلات نتنياهو وتنادي الحلف الغربي التقليدي "المقدس" بكل عتاده وعدته، تؤكد كلها على أن عملية السيوف الحديدية لا تستهدف القضاء على حركة حماس فقط بل القضاء كذلك على ثقافة الجهاد والمقاومة وترسيخ ثقافة المسالمة والخضوع، و الاقبال على الحياة.
هذه هي لعبة نتانياهو التي يروج لها في وسائل الإعلام الغربية من أسابيع وهو يتطلع من وراء ما يقوم به من هدم وتخريب إلى ما يشبه نوعا جديدا من مشروع مارشال الذي مولته الولايات المتحدة لإعادة إعمار أوربا عقب الحرب العالمية الثانية واستفادت منه ألمانيا المنهزمة والمحطمة في إعادة بنائها على أسس تراعي ثقافة السلم ونبذ أي نزعة للحرب أو العنف، بمعنى أن هناك تصميما مبيتا الآن على القطيعة بين ما كان يجري من تمويل خليجي وقطري بالأساس لإعادة إعمار غزة بعد كل عدوان، وبالتالي لابد من إعمار يراعى تغيير العقليات ويراعي نوعية المناهج التعليمية لتي يجب أن تجنح إلى المسالمة والوداعة والعيش الهادئ لأن هذا الأسلوب قد جرب بنجاح مع الألمان كما يقول كثير من الساسة والاعلاميين ..
لقد تكرر استدعاء مشهد القضاء على النازية في أحاديث المسؤولين الإسرائيليين مؤخرا في تعاليقهم على عملية جيش العدو الإسرائيلي الجارية ضد سكان غزة، بل إن الاعلام روج كثيرا لمشاهد من عملية 7 أكتوبر حيث تمت مقارنتها بمشاهد مداهمات النازية لليهود في أوج الحرب العالمية الثانية وليس ذلك إلا مقدمة تمهيدية لهذا المشروع القديم المتجدد، وقد كتب "يورام دوري" أحد مستشاري رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق شيمون بيريز، كتب في 14 نفمبر الجاري مقالا في الجرزالم بوست بعنوان " بعد نهاية سيطرة حماس، يجب أ ن نمنح الغزاويين رؤية مختلفة للمستقبل" شرح فيه كيف أن "غزة تمتلك كل المقومات التي تؤهلها لأن تكون سنغافورة الشرق الأوسط" ...ثم قال : "وللمشككين أقول دعوني أقدم إليكم هذه الحقيقة التاريخية : هل كان أحد يتوقع في سنة 1945 ان ألمانيا النازية المسؤولة عن قتل 50 مليون إنسان من بينهم 6 ملايين يهودي ستكون دولة قيادية في أوربا تحارب من أجل حقوق الإنسان وتؤوي مئات الألاف من الأجانب ؟ إن هذه الدولة الخارجة من أحقاد قاتلة أصبحت حليفنا الثاني بعد الولايات المتحدة."
إن نقاش هذا الموضوع ليس بالجديد، حتى على المستوى العربي ومؤخرا تم تداول ما يبدو أنه صدى لهذا التصور في بعض وسائل التواصل العربية على أساس أن تغيير ثقافة الجهاد والمقاومة عند العرب والمسلمين أمر مستحيل وأن الامر إن كان قد نجح مع شعوب أخرى مثل الالمان واليابانيين ، فمن الصعب أن ينجح مع الفلسطينيين لأنهم ببساطة كما قال الأستاذ وضاح خنفرفي مقطع فيديو متداول، يحملون جينات المقاومة في نظامهم البيولوجي ..نعم، جينات المقاومة.
هل تستطيع السيوف الحديدية تغيير جينات المقاومة؟
لابد أولا من الإشارة إلى أن فكرة ارتباط السلوك بالجينات هو أمر موثق بشكل علمي في دراسات السلوك البيولوجي أو السلوك الوراثي وتحدث عنه "اي. و. ولسن" العالم المرجعية في هذا الشأن.. ومع ذلك فلابد من الإعتراف بحقيقة أن العمل البشري الواعي لمقاصده يختلف مثلا عن السلوك الموجه بيولوجيا مثلما هو حاصل مثلا عند الخادمات في مملكة النحل لان هناك حقائق خارجية قد تكون أحيانا أقوى من أي توجيهات أو "تطبيقات" ذاتية.
إن سلوك المقاومة بعد الحرب يعني فقطأن الهزيمة لم تكن كاملة ، فقد انهزم العرب المسلمون في الاندلس وانتهى أمرهم لأنه بخلاف الوضع في فلسطين أو أفغانستان لم يكن بجانبهم من يعيد إعمار مساكنهم ويمدهم بحبل تغذية يوقفهم على أرجلهم من جديد ليتذكروا ما جرى قبل أن ينفرط ناظمهم مع توالي الأجيال.
إن الإبقاء فقط على حسرة الهزيمة ورغبة الثأر حية ملتهبة، وهذا هو أقصى ما يستطيع أي دعم عربي رسمي أو شعبي أن يسهم به الآن، لا قيمة له في حسابات القوة على الارض ..فما قيمة أن تجدد جلدك دون تجديد عدتك ورؤاك ودون تجديد استراتيجياتك ؟
اليس الاحرى بالعرب إذن تطوير جينات ترتبط بالقدرة على تجديد الرؤى والإسترتيجيات؟فالظاهر، وهو مفهوم ضمنيا من خلال سرديات الامن العربي ودردشاته ان بقاء المقاومة في غزة هو جزء من ضمانات الامن العربي،بوصفهم "المرابطون على الثغور" و "المدافعون عن الأمة" كما يتردد دوما حتى على المستوى الشعبي ، وهو صحيح، لأن إسرائيل ببساطة إذا تغيرت حدود أمنها القومي ازداد خطرها وازداد خوفها لأنها تتقدم بالدوام في محيط معادي لها، فهي – رغما عنها – ستزداد توجسا وتحفزا، حتى ولو حولت غزة إلى سنغافورة أو هونغ كونغ ، والمصريون في المقابل حساسون من أي اقتراب او احتكاك بسيناء فهي قرن استشعارهم، وجرس إنذارهم و المعبر التاريخي القديم لكل الغزاة الذين احتلوا أرضهم.لهذا فإن سياسات الدفاع والتمترس بغزة واتخاذها درعا لا تزال إلى الان الاستراتيجية الوحيدة تفاوضيا - دون مقومات قوة ظاهرة - في ثقافة الامن العربي..
لقد أثبتت أحداث غزة الجارية اليوم فشل الدول العربية وهشاشتها وفداحة انكشافها إذا اخترق الدرع الغزاوي وليس أمامها إلا أن تحتاط جماعات وفرادى لأمرها ولرسم سياسات أمنها لأن إسرائيل خائفة وستظل خائفة لفترة قادمة طويلة،وهذا الخوف هو سر خطرها وشراستها تحديدا .
إن العظة الأخرى في هذه المأساة هو الانكشاف الأخلاقي للدول الغربية الضامنة أصلا لقدر من السلام والتوازن في المنطقة وهو ما يؤكد بل يزيد وهن الاحتياطات الأمنية العربية وضمانات بقائها وسلامها..
ومن المؤكد أن شيئا ما يجب أن يتغير على مستوى الاستراتيجيات وتحديدا على مستوى بناء التحالفات والشراكات وخصوصا مع الجنوب. إن الجنوب ينادي على العرب بقوة من خلال تعاطفه البادي شعبيا ورسميا ، ومن خلال مقاوماته وسياساته وتعاطف شعوبه وشجاعتهم في مواقفهم، من آسيا إلى أمريكا اللاتينية مرورا بإفريقيا.. لقد أثبتت الأيام فشل سياسات العرب في نبذ إيران ومحاربتها وضحالة نتائج كل ذلك وتهافته، وأثبتت الاحداث كذلك خطأ إعراض دول شمال إفريقيا، وخاصة الجزائر وموريتانيا عن عمقهما الافريقي وصلاتهما الجغرافية والتاريخية بغرب إفريقيا، وأثبت الحصاد المر للسنين فشل القطيعة النضالية والفكرية مع شعوب أمريكا الجنوبية، وقد آن الأوان للشروع في محاولات جادة لترميم عاجل فردي و جماعي لما يمكن ترميمه من تلك الروابط على أسس قوية وجريئة تضمن تكاملا اقتصاديا يفضي إلى شراكات أمنية تعيد بعض الشعور بالأمن والاطمئنان قبل فوت الأوان.