أظهرت معركة محكمة لاهاي التي قادتها جنوب إفريقيا أننا أمام أحوال جديدة وظروف عالمية جديدة تذكر بحقبة ما قبل التفرد الأمريكي وما قبل بروزها كراسم وحيد للأدوار ..وإلا فمن غير المنطقي أن تظهر دولة كجنوب لإفريقيا لها مصالحها وارتباطاتها في الغرب كل هذا القدر من الشراسة والجرأة في تحدي أمريكا ومحظيتها الرئيسية إسرائيل ..ويبدو أنما أقدمت عليه جنوب إفريقيا من جرجرة إسرائيل في محكمة لاهاي وتتابعت في دعمها فيه دول مهمة مثل بوليفيا وإندونوسيا و تركيا و ناميبيا وباكستان ودول أخرى هو أمر دبر بليل، وأن الصين تقف خلفه ؟ لأنه إذا أضفنا إلي هذه المحاكمة المذلة حرب الحوثيين في المضايق وسلوك إيران المتحدي فإننا نحتاج إلى شيء لتفسير هذه المواقف أكثر من يقظة ضمير او تراث مانديلي.. فليس ما نراه الان هو مجرد تعاطف، هذا حلف جديد تقف وراءه قوة تشعر بأنها أصبحت قادرة على التأثير وقادرة على القيام بدور وأنه آن الأوان للإعلان عن ذلك. إنها الحرب الباردة الثانية، وما أشبه الليلة بالبارحة حين سمحت الولايات المتحدة سنة 1956لابريطانيا وفرنسا بالتواطؤ مع إسرائيل والقيام بعدوانهما الثلاثي على مصر لتعريهتما أخلاقيا وقانونيا أمام عالم كانتا تتقاسمان حكمه لكي تزيحهما منه أو على الأقل تنتزع منهما أهم ما فيه ..هذا هو بالضبط ما تفعله الصين الآن بالولايات المتحدة ودول أوربا التابعة لها .. وهي تفعله أولا من منطلقات ذاتية في إطار صراعها على تايوان الذي تستخدم فيه الولايات المتحدة أعذار الديموقراطية وحقوق الانسان لإضعاف شعبية الصين في تايوان.. فهذه رسالة لشعب تايوان وغيره من شعوب أسيا أن انظروا إلى هولاء الذين يحدثونكم عن ديموقراطيتهم وعن دكتاتورية الصين. ثم هي رسالة للغرب أننا نستطيع هزيمتكم في ملعبكم وأمام جمهوركم فأحرى في ملاعبنا الخاصة.
إنما يجري الآن هو تحالف من نوع جديد ، ويجري في إطار خطة محكمة ومدروسة للصين ثم روسيا مصلحة كبيرة في مسارها الذي تسير فيه، هذا إن لم نستطع بعد لنقص الأدلة القول بأن الصين هي التي تحركها فعلا وإن كانت الشواهد على ذلك كثيرة فكل هذه الدول بدأ من جنوب إفريقيا وناميبيا إلى بوليفيا وأندنوسيا هي حلفاء وشركاء كبار للصين، فجنوب إفريفيا هي أكبر دولة إفريقية مستقبلة لاستثمارات الصين بما يقارب 15 مليار دولار إلى جانب كونها هي الاس في البريكس ..ثم إنها صاحبة أقوى ابروفايل أخلاقي ونضالي لمتابعة إسرائيل وجرها إلى المحاكم .. لا يوجد من هو أصلح منها إذن لهذا الدور .
هذه إذن بداية ربما لعالم جديد لا تتحكم فيه الولايات المتحدة وحدها وهو عالم فيه فرص كبيرة قادمة أمام العرب وأمام قضاياهم وعلى رأسها قضية الصراع في فلسطين ..
تحالف أم تعاطف ؟
الصراع العربي الإسرائيلي هو واحد من الصراعات النادرة في التاريخ التي ضلت طريقها وتعطلت بوصلتها، ولئن كان في جوهره ومادته الخام صراع على قطعة من الأرض إلا أنه مع ذلك بخلفياته وحمولته قابل لان يكون صراعا على كل شيء، وبين كل أحد، وقد كان يوما عنوانا للحرب بين الاستعمار والتحرر، والظلم والعدل، ثم أريد له أن يكون مواجهة بين الديموقراطية والشمولية ثم نفخت فيه أطراف عدة فأصبح حربا بين الإسلام والكفرـ وهو في كل مراحله لا يدري أنه يسير بلا بوصلة تهديه وبلا أحلاف تحميه .. وها هو اليوم وقد تبخر منه ما تبخر وتناثرت عناوينه وأغطيته يتحول إلى مجرد معركة، معركة على مدينة بلا سلاح يرد ولا ملاجيء تحمي ولا أحلاف تتحرك وبالتالي بلا أمل ربما سوى احتجاجات متعاطفة او دعوات باكية لشعوب بعيدة متناثرة في الأرض..
هل هناك ما هو أسوء وأكثر فداحة من أن يتحول صراع ضخم وشاق إلى معركة على مدينة بلا دعم ولا حلفاء في عالم من 197دولة تدير أمورها وعلاقاتها كلها من خلال التحالفات، ماذا فعل هذا الصراع بنفسه .. وماذا فعل بأحلافه، واستراتيجياته ؟
هذا هو السؤال الذي أحببت أن أطرحه في هذا المقال، وهو على غرار مقال طلاسم معركة السيوف الحديدية ليس فيه تركيز كبير على مشهد المأساة المريرة القائمة، ربما لأني لا أتابع المعركة على التلفزيون بل فضلت أنى أتلقى الاخبار من خلال الاحاديث اليومية كما كان يفعل الناس في العصور السابقة دون أن يروا الغارات أو يشاهدوا مشاهد المأساة حية على الهواء فهو إذن ليس عن المأساة الجارية وإنما عن عثرة صراع طويل ليست هذه المأساة إلا حلقة عابرة من حلقاته المتتابعة..
لماذا تتعثر الصراعات؟
قارنت في عجالة الصراع العربي الإسرائيلي بمأساة إقليم البنجاب لكونه هو أيضا من مخلفات الاستعمار ولكونه أيضا هو الاخر مثل فلسطين بؤرة تلاقي بين أديان ثلاثة أخرى هي الهندوسية المسيطرة في الهند والإسلام المسيطر في باكستان والسيخية المسيطرة تقريبا في البنجاب او على الاصح في شماله، غير أن الصراع في إقليم البنجاب يفتقد أخطر وأهم ما في الصراع العربي الإسرائيلي وهو سمة الغزو الخارجي أي أن المعتدي هو طرف دخيل قادم من خارج الجغرافيا ويرفضه الوسط المحيط به، وبالتالي يصعب بل حتى يستحيل أن تستقيم الأمور في وجوده ، ومع ذلك فلو أن هذا الصراع في البنجاب تم حله لربما على هدي ذلك أمكن الحديث عن الخلل الذي قاد الصراع العربي الإسرائيلي إلى هذا التردي المأساوي ..
غير أن هناك صراعان آخران كبيران يشبهان الصراع العربي الإسرائيلي في هذه النقطة التي يفتقدها الصراع في البنجاب وهي أن المعتدي طرف غريب يعاند الجغرافيا والتاريخ والتضاريس الديموغرافية .. وهما صراعان تم حلهما وانتهت قضيتهما، أولهما الصراع في جنوب إفريقيا، و الحقيقة أن انتصار شعب جنوب إفريقيا تم بالتحالفات الواعية فقد كان التعاطف الشعبي مع السود في جنوب إفريقي على أشده منذو مذبحة شاربفيل سنة 1960 عندما أقدمت الشرطة على قتل أكثر من 200 شخص بضربهم بالرصاص في ظهورهم وهم في حالة فرار ...إلا أن النصر لم يتحقق إلا بعد ذلك بثلاثين سنة .
لم يكن التعاطف مع السود في جنوب إفريقيا حاسما في إنهاء تلك الحقبة المريرة، بل إن التحالف من قبل كتلة كبيرة من الدول دعمت بالسلاح والتكوين والديبلوماسية والإعلام كان هو العامل الفيصل فيما جرى من إبراز للقضية ومن فرضها على كل أجندات العمل الدولي، وعندما صادق الكونغرس الامريكي سنة 1986 على قانون مكافحة لابارتايد في جنوب إفريقيا بدأت الشركات الامريكية والعالمية تنسحب تباعا من جنوب إفريقيا، وقبل أن ينتهي عقد الثمانينات كان الاقتصاد الجنوب إفريقي المعزول يترنح كريشة في مهب الريح.
وكان التحالف وليس التعاطف هو الفيصل في نصر الثوار الفيتناميين سنة 1973 فقد قدمت الصين وقدم الاتحاد السوفياتي وكوبا ورومانيا وبلغاريا وغيرهم المال والسلاح والغذاء والدواء ..فضلا عن الديبلوماسية النشطة والاعلام القوي الشرس .
لا يوجد اليوم لدى الفلسطينيين أي نوع من هذه التحالفات تقريبا ففيما عدى إيران واليمنيون في صعدة وحزب الله في جنوب البنان ، فليس في العالم لهم إلا الشعوب وليس لدى الشعوب إلا الدموع .
التعاطف قد يوقف غارة ليل أو يفتح طريق شاحنات إغاثة، أو يحسن عبارة متحامل متواطئ ولكنه لا يحسم صراعا أبدا وهناك فرق شاسع بين ما يتطلبه الصراع من أدوات وبينما تثيره الحرب من عواطف، وأسوء صفقة تتم في أي صراع هي أن تتبخر التحالفات الواعية لتحل محلها مشاعر دامعة متعاطفة وهذا هو ما حدث للصراع العربي الإسرائيلي حين استبدل التحالف بالتعاطف ظنا أن هذا قد يكون بداية إعادة النظر، وظنا أن هذا هو ما انتصر به السود في جنوب إفريقيا .
مبدأ أبوبكر، قصة لها دلالة
كان لنا صديق اسمه أبو بكر، شاب نحيف ضعيف البنية ولكنه صارم وأبي لا يستسلم للظلم مهما كان ، وذات يوم وهو في إحدى المدن في غرب إفريقيا في محطة حافلات يريد أ يسافر، أحاطت به فجأة مجموعة من اللصوص وبدأوا في محاولة سلبه مما يحمل فانتفض وهاج وقاتلهم بشراسة وثبات دون أن يبدو عليه خوف او يظهر أي علامة على الاستسلام أو الفرار ، فهرع إليه بعض أصحاب محلات من مجموعة الفلان المحيطين بالمحطة وقد رأوا كلما حدث فخلصوه من اللصوص وذهبوا به معهم وقدموا له مقعد وماء ليغسل وجهه، ثم قال له أحدهم هل تعرف لماذا ساعدناك ؟ إننا كل يوم نرى اللصوص يعتدون على المسافرين ولكننا لا نتدخل وحتى إخوتك من الموريتانيين وغيرهم يهاجمهم اللصوص هنا في المحطة فيعطونهم ما عندهم ولا يقاومونهم وأحيانا يفرون ، ونحن والله نحب أن نساعدكم ولكن إخوتك لا يقاومون ، إنهم يسلمون ما عندهم وأحيانا يفرون ،إنهم لا يعطون الفرصة لأحد لكي يساعدهم ، أنت أعطيتنا فرصة لدعمك، أنت شجاع تستحق العون.. فلا تخف بعد اليوم في هذه المحطة ستجدنا دوما بجانبك.
هذا هو مبدأ أبوبكر، وهو مبدأ مهم جدا في أي سياسة لبناء التحالفات ، وياليت الدول العربية تتعلم منه وتدرك أن هناك في المحطة الان أطراف تراقب وتبحث عن شجاع يمنحها فرصة تقديم الدعم المطلوب .