![](https://elfikr.net/sites/default/files/4693792381432258322-%D9%85%D8%A7%D9%84%D9%8A_1_2_0.jpg)
أخيرا وصلت العلاقات بين الجزائر ومالي إلى مرحلة القطيعة، عندما أعلنت باماكو انسحابها من اتفاقية الجزائر، مفيضة بذلك كأس العلاقة المضطربة بين الطرفين.
ولم يكن الإقدام على هذه الخطوة مجرد قرار مرتجل، بقدر ما كان تحولا مهما في مسار من التأزم تصاعدت مراحله وخطواته خلال السنوات الثلاث المنصرمة، خصوصا بعد أن ظهرت الجزائر داعما أساسيا أو " محتفيا" على الأقل أكثر من المتوقع بالشخصية المعارضة الإمام محمود ديكو المعروف بأنه " خصم لقائد المرحلة الانتقالية في باماكو العقيد عاصيمي كويتا.
وطالما نظر المحللون في المنطقة إلى أن الجزائريين أولوا سرعة في اتخاذ القرار وحسم في السلام والقطيعة، لكن كويتا – على ما يبدو- بات أكثر حسما من الجزائريين، وأكثر قدرة على خلط الأوراق التي كانوا يعملون بها في تدبير علاقتهم مع مالي التي يربطهم بها أكثر من التاريخ والجغرافيا.
الجزائر ومالي.. مسار طويل من العلاقات الودية
تمتد العلاقات المعاصرة بين مالي والجزائر على مدى النضال والاستقلال، وقد كان للمعلمين الجزائريين العاملين تحت الإدارة الفرنسية دور أساسي في إطلاق المسار التعليمي المعاصر في مالي، وخصوصا في الشمال، ويذكر سكان الشمال المالي المدرس عبد الرحمن النقلي الذي كان معلما للغة العربية في تمبكتو، كما كان أول سفير لبلاده في مالي.
كما أن الرئيس الجزائري السابق عبد العزيز بوتفليقه، كان هو الآخر ضمن المقيمين في الشمال عندما كان مسؤولا عن الدعم اللوجستي لجبهة التحرير الجزائري، حيث وجد في الشمال الجزائري محضنا لا بأس به.
كما أن باماكو استضافت جلسات الحوار والسلام بين الحكومتين الجزائرية والمغربية، والتي انتهت بتوقيع اتفاق سلام، أنهى حرب الرمال المؤلمة.
وخلال فترات الحرب والسلام بين الحكومة المالية والقوى المسلحة في أزواد، كانت الجزائر قبلة للاجئين الذين تدفقوا في الشتات والفيافي والمنافي، كما كانت أيضا قبلة للقوى المتحاربة التي اجتمعت في العاصمة الجزائر، ووقعت اتفاق سلام أنهى عدة سنوات من الحرب الدامية ومكن بعض العناصر الفعالة في أزواد من الدخول في الحكومة والسياق الرسمي المالي، ومن أبرز تلك العناصر قائد تنظيم نصرة الإسلام والمسلمين إياد أغ غالي، الذي عين حينها قنصلا لمالي في المملكة العربية السعودية.
وقد ظلت الجزائر تمارس كل أدوارها من أجل توقيع كل الفصائل الأزوادية على الاتفاقية ليتم لها ذلك في آخر مراحله سنة 1996.
وقد منحت هذه الاتفاقية الجزائر جزء من شرعية الوصاية والتأثير في المشهد المالي، كما منحتها أيضا أوراق قوة وعلاقات لا متناهية مع كل الأطراف المتصارعة، وخصوصا في الشمال، حيث التداخل العرقي بين سكان أزواد وجيرانهم الجزائريين.
وقد أعادت الجزائر الوساطة من جديد سنة 2015 بتوقيع اتفاقية المصالحة والسلام، وكانت الأطراف المعنية بها هي حكومة مالي المركزية والحركة العربية لأزواد، و التنسيقية من أجل شعب الأزواد، وتنسيقية الحركات والجبهات القومية للمقاومة، الحركة الوطنية لتحرير الأزواد، و المجلس الأعلى لتوحيد الأزواد.
وتضمنت الاتفاقية ما يلي:
- احترام الوحدة الوطنية.
- إلغاء العنف.
- احترام حقوق الإنسان.
- تعزيز سيادة القانون.
- تمثيل جميع مكونات الشعب المالي في المؤسسات.
- إعادة تنظيم القوات المسلحة والأمن.
- إلتزام الأطراف بمكافحة الإرهاب.
- تسهيل عودة وإدماج اللاجئين
بين تبون وكويتا.. صراع على من يملك الساحل
تكشف الأزمة السياسية بين الطرفين الأوراق المخفية في التوتر بين الطرفين، ومن أبرزها:
- محاولة فرض الأمر الواقع في أزواد، وهو المسار الذي ظلت الجزائر تتصدى له بشكل دائم، شأنها في ذلك شأن التعامل مع حالة الصحراء الغربية، ويذهب المراقبون الأزواديون إلى أن للجزائر يدا فاعلة في منع قيام دولتهم المستقلة، رغم أنها تصر على قبول الصحراويين لأقل من الاستقلال، في المقابل لا تحبذ الجزائر قيام تلك الدولة المستقلة النائمة على بحار من الثروات الغازية والنفطية، والتي ستكون عنصر ضغط ومنافسة قوية للجزائر، وعنصر تأثير قوي في التركيبة العرقية المشتركة بين الطرفين، وفي مقابل ذلك تسعى الجزائر دائما إلى وضع اليد على الشمال وعلى أن تكون شريكا أساسيا في السلم والحرب هنالك، وهو ما لا يروق الآن للحكام العسكريين الجدد، الذين يمنون أنفسهم بسيطرة – صعبة للغاية – على كامل الشمال.
- موقع النفوذ الروسي: رغم أن روسيا صديق وحليف قوي للجزائر، إلا أن جنرالات تبون ورفاقه باتوا مستائين جدا من تصاعد النفوذ الروسي في المنطقة، وانتقد الرئيس تبون ما تنفقه الحكومة المالية على كتائب فاغنير، معتبرا أن هذه المبالغ الكبيرة التي تدفعها باماكو للمرتزقة الروس، بإمكانها تنمية الشمال، وهو الموقف الذي أثار غضب باماكو بشكل متصاعد.
التدخل في الشأن المالي.. هكذا توترت العلاقة
وصفت مالي التصرفات الجزائرية باستقبال قادة الحركات الأزوادية المناوئة لحكومة باماكو واستضافة شخصيات معارضة أخرى مثل الفقيه محمود ديكو بالتصرفات المعادية والتدخل المتصاعد في الشأن الجزائري، فيما كانت الجزائر تنتقد بشكل متواصل " تحبيذ مالي للحل العسكري بدل الحوار والتفاهم"
وأدى استقبال قادة هذه الحركات في الجزائر إلى سحب باماكو سفيرها، وهو الموقف الذي ردت عليه الجزائر، لينتهي الأمر بشكل صارم بخروج باماكو من اتفاقية الجزائر.
ولا يمثل هذا الخروج حالة استثنائية في تصرفات الحكومة المالية، التي تحررت لحد الآن من كثير من العلاقات والمواثيق والاتفاقيات الدولية والإقليمية التي يرى فيها أنصار العقيد عاصيمي كويتا أغلالا في عنق باماكو ومنها على سبيل المثال:
- مراجعة الاتفاقيات الأمنية مع فرنسا وطرد قواتها من مالي
- إنهاء مهام البعثة الأممية في مالي وطرد قواتها من مالي
- الانسحاب من مجموعة دول الساحل
- الانسحاب من مجموعة الإيكواس
- وأخيرا الخروج من اتفاقية الجزائر
ويعني ذلك أن باماكو تشعر بقدرتها على ملأ الفراغ الهائل في السياسة والأمن في شمالها الملتهب، وأن سندها الروسي قادر على بسط النفوذ على كامل الأراضي المالية
أوراق كثيرة بيد الجزائر
لا يمارس الجزائريون السياسة والعلاقات الدبلوماسية غالبا بكثير من الهدوء والصمت، وغالبا ما تكون الأزمات بينهم وبقية العالم صارمة وكثيرة الصخب، إلا أن الأزمة مع مالي تأخذ أكثر من بعد خطير بسبب التداخل الحدودي والعرقي، ويمكن أن يكون هذا التداخل ورقة قوة ونقطة ضعف للجزائر في وقت واحد، ومن أبرز تلك الأوراق:
- ورقة القوى المسلحة: في الشمال حيث ترتبط مختلف هذه الحركات بغض النظر عن انتماءاتها بمستوى من العلاقات مع الجزائر ذات النفوذ القوي في المنطقة، والدور الاستخباراتي الفعال، ولطالما نظرت بعض القوى السياسية في المنطقة إلى أن حركة السلاح والعنف في المنطقة، قد تتحول مع الزمن إلى زناد بيد الجزائر تعاقب بها من تشاء من أنظمة المنطقة، بعد كانت لهبا يحرق الأرض الجزائرية.
- ورقة التنسيق مع القوى المناوئة لباماكو: والتي كانت علاقتها متعثرة جدا خلال السنوات الماضية مع الجزائر، و كانت تعارض بقوة الاستراتيجية الفرنسية والأممية تجاه منطقة الساحل، وسيؤدي توتر العلاقة بين الجزائر وباماكو إلى تعزيز فرص التقارب بين مختلف خصوم " كويتا"
وبين تلك الأزمات المختلفة، يبدو في الأفق صديق مشترك يمكن أن يضيق شقة الخلاف بين الطرفين وهو روسيا التي تعتبرها الجزائر الآن "صديقا منحازا" إلى خصم متقلب المزاج.