مثلما احتل خطاب التأمين الصحي نصيب الأسد من وعود وتصريحات الرئيس الغزواني في حملته في العام 2019، يظهر اليوم خطاب محاربة الفساد محورا أساسيا في حملة الرجل الساعي لمأموريته الثانية والأخيرة في حكم البلاد.
قفز هذا الخطاب بقوة وعلى غير المتوقع ليعانق خطاب مأمورية الشباب، وليكونا الرهانين الأكثر صعوبة بالنسبة لنظام يتهمه خصومه بأنه المتسبب في هجرة أكثر من 50.000 شاب، وأنه مكن للمفسدين، وانتشرت ممارسات الفساد في فترته.
وككل التهم التي توجه للنظام، فإن السياسة الإعلامية بشكل عام للدولة، تركز على إظهار المنجزات دون الردود على التهم التي مكنها انتشارها وتكرارها، وكثرة المنابر والشخصيات التي ترددها في أن تتحول إلى ما يشبه المسلمة عند كثير من الموريتانيين، الذين يجزمون بأن الفساد متجذر جدا في عمق الدولة الموريتانية، وإلا لماذا ما زالوا يعيشون في عمق الفقر والضعف التنموي وتردي الخدمات وانعدامها.
هل يعترف الرئيس باستحكام الفساد..
يستبطن إعلان الرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني نيته محاربة الفساد، وإغلاق الأبواب أمام المفسدين اعترافا ضمنيا بأن الفساد قد انتشر، وأنه قد أطل برأسه من مختلف الإدارات الحكومية.
وهنا يتناغم الرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني مجددا مع معارضته، في انتقاد الوضع العام للحكامة، لكنه يختلف معهم مجددا أيضا عندما يرون أن محاربة الفساد غير ممكنة، بحكم انتظام المفسدين وعقليات الفساد في الصف الداعم للرئيس الغزواني.
فيما يؤكد الرجل أنه سيبدأ خلال السنوات القادمة حربا مفتوحة على الفساد، وسوء التسيير ولكن كيف؟
يجزم العارفون بولد الشيخ الغزواني أنه سيحارب الفساد، ولكن بمستويات تناسب شخصيته وحرصه على التهدئة، وهو ما يعني أن محاربة الفساد قد تكون محدودة، فيما يذهب عارفون آخرون بأن الرجل بالفعل لم يعلن موقفه من الفساد إلا بعد أن استبطن الإجراءات والآليات الكفيلة بتنفيذ وعيده.
آليات قانونية ومؤسسات جديدة
أعاد ولد الشيخ الغزواني ترتيب الأجهزة المكلفة بالرقابة والتفتيش، حيث تم ترفيع مفتشية الدولة الموريتانية إلى جهاز تابع للرئاسة، كما تم اكتتاب عدد كبير من المفتشين، رغم ما يشوب تعيينهم من انتقادات لاذعة، باعتبارهم أبناء نافذين ووزراء سابقين.
ويتولى المستشار الاقتصادي السابق للرئيس السيد الحسن ولد زين منصب المفتش العام للدولة، ويؤكد بين الحين والآخر أن استئصال الفساد قرار رسمي وثابت لدى الرئيس الغزواني، إلا أن انخراط ولد زين وبقوة في المشهد السياسي، وترأسه لأحد الأحلاف السياسية في واد الناقة، يدفع الى التساؤل عن قدرته على الفصل بين المهني والسياسي في أدائه على رأس أهم ذراع تواجه به الدولة الموريتانية أذرع الفساد المتشابكة.
وفي مقابلة سابقة، يعتبر ولد الشيخ الغزواني أن ما تكشفه مفتشية الدولة من حالات فساد ينبغي أن يحسب للنظام لا عليه، ويقول ولد الغزواني إن إجمالي النفقات التي خضعت للتفتيش منذ إلحاق المفتشية العامة للدولة بالرئاسة بلغ 81.338.865 أوقية جديدة، من بينها 2.569.094.307 أوقية جديدة لوحظت أخطاء تسييرية في تنفيذها، أي نسبة 10,6%، أما الأخطاء التسييرية التي شكلت أضرارا مالية على حساب الدولة فمثلت 35% من الأخطاء التسييرية المكتشفة أي مبلغ 907.210.877 أوقية جديدة، ويؤكد ولد الشيخ الغزواني أنه تم علاج هذه الوضعية، كما أحيل عدد من المسؤولين إلى القضاء، وأقيل آخرون، من بينهم مديرون وأمناء عامون، وشخصيات أخرى، ولكن بعيدا عن الإعلام والتشهير.
لكن الإعلام لم يترك الأمر كذلك، حيث يتم الكشف بين الحين والآخر عن تهم متعددة لعناصر قوية في النظام بالفساد، رغم أن وسائل الإثبات لم تتوفر كثيرا لدى الإعلام الموريتاني رغم كثرة ما يتحدث عنه من فساد.
ويتحدث مراقبون للمشهد السياسي عن فساد رهيب خلال السنوات المنصرمة، وخصوصا في قطاع الإنشاءات والبنى التحتية، وفي المشاريع المنفذة لصالح الفئات الهشة، إضافة إلى الطرق، ومن أبرز المنافذ التي يتحدث عنها هؤلاء
- مسار منح الصفقات من خلال العلاقات الخاصة والزبونية.
- تضخيم المبالغ المخصصة للإنجاز مقارنة مع مثيلاتها قبل سنوات قليلة
- عدم مراعاة المعايير الفنية في كثير من المنشآت التي تم تشييدها لحد الآن.
ويبرهن هؤلاء على حجم الفساد الحاصل، بما يتم تداوله بين الحين والآخر من ارتفاع هائل للودائع البنكية والقروض، وحركة المال، إضافة إلى ما يمكن اعتباره تبييضا للأموال، من خلال الارتفاع المتواصل لأسعار الأراضي والعقارات، وظهور عدد من الأثرياء الجدد.
استعادة أكبر مبلغ في تاريخ محاربة الفساد في موريتانيا
تمكن نظام ولد الشيخ الغزواني من وضع اليد على أكبر مبالغ استعادته جهود محاربة الفساد، وهي ما تم الوصول إليه من الأموال المنسوبة للرئيس السابق محمد ولد عبد العزيز وأفراد من أسرته وشخصيات مقربة منه، ويصل الأمر إلى 41 مليار أوقية قديمة، من بينها 29 مليار تنسب إلى الرئيس السابق نفسه.
ويتوزع الرقم بين أرصدة مجمدة وعقارات وسيارات، وقطعان من المواشى
غير أن محاكمة الرئيس السابق أظهرت نية النظام حصر الملف في أشخاص محدودين، لينال أغلب المتهمين البراءة، وينطلق بعضهم بقوة في اتهاماتها للنظام بأن متابعة واستهداف ولد عبد العزيز كان لبعد سياسي.
وبين الاتهامات لا يمكن بحال من الأحوال نفي أو تجاهل أن هذا المبلغ المجمد، أعلى ما وصلته يد محاربة الفساد في تاريخ البلاد.
ويمكن هنا الاستدلال بأن تقارير الرقابة المالية نشرت لمرة واحدة في أيام الرئيس الحالي، وكانت حصيلتها محدودة، ولئن أقيل البعض فإن بعضهم مازال يتربع على أعلى المناصب.
وفي موضوع التقارير الأولى التي نشرت بعد وصول الرئيس الحالي للسلطة، نسبت مصادر صحفية للرئيس تشكيكه في صحتها وموثوقيتها.
وبالتالي عرفت تلك التقارير سبيلها للطي والنسيان.
ويؤكد القيادي في الحملة الإعلامية للرئيس الغزواني الأستاذ محمد الأمين ولد الفاظل أن شعار محاربة الفساد هو شعار جدي، قد يكون أكثر أهمية وعمقا مما كان عليه في الفترة الماضية، التي واكبها تأمين انتقال السلطة، ومواجهة التحديات المتعددة، التي عانت منها البلاد خلال هذه الفترة،
ومع ذلك يضيف ولد الفاظل فإن الرئيس الموريتاني قد اتخذ إجراءات نوعية منها تطوير موقع المفتشية تبعا للرئاسة، وتهيئة المؤسسات الرقابية المختلفة، ونشر محكمة الحسابات لتقاريرها.
ويرى ولد الفاظل أن وتيرة محاربة الفساد، ستتطور وتزداد وتيرتها، وفق قراءتي للمشهد.
ويعترف ولد فاظل بأن هنالك إشكاليات متعددة ستواجه الحرب على الفساد من أبرزها:
- تذمر الأغلبية من محاربة الفساد.
- سلبية المعارضة التي ستعتبر أي محاربة للفساد تصفية حسابات وانتقائية
- وجود المجتمع التقليدي من قبائل ومجموعات ضغط، لن تتقبل بسرعة متابعة أفراد منها بتهمة الفساد
ومع ذلك يؤكد ولد الفاظل أن محاربة الفساد ستكون ذات مساحة كبيرة في أولويات المرحلة القادمة، استنادا على تعهدات الرجل التي نفذ عددا منها، وخصوصا المحاور الكبيرة لخطابات حملته في 2019
مفتش الدولة الأٍسبق: حديث الغزواني عن محاربة الفساد غير منطقي
أما مفتش الدولة الأسبق سيدي ولد أحمد ديه، فيشكك في قدرة الرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني على محاربة الفساد، مؤكدا أن الموريتانيين ليسوا أغبياء عندما يتوقعون منه محاربة الفساد، وهم ينظرون إلى طاقم حملته والمحيطين به، هل سيصرف هؤلاء أموالهم وجهودهم لمن يتوقعون منه أن يحاربهم"
مضيفا " أين كان هو قبل الآن، ألم يكن في عمق منظومة الفساد، ويرأس الجمهورية منذ خمس سنوات، ووجد فرصة كبيرة من أجل إبراز نموذج حكم جديد، وراهنت عليه موريتانيا كلها، لكنه اختار الأِشخاص واللوبيات التي لا يمكن أن تنجز غير الفساد، فيما أصر على إبعاد غيرهم:
ويضيف ولد أحمد ديه " إنه وعيد متأخر جدا للغاية، ومن الصعب أن ينقلب الشخص على أًصدقائه وجماعته، خصوصا إن المفسدين متمكنون جدا، ولن يسمحوا بمحاربتهم، وهذه تجربتهم المكررة، حيث أسقطت لوبيات الفساد المختار ولد داداه، عندما بدأ في محاربة الفساد، كما فعلوا الأمر نفسه مع ولد هيدالة، ولاحقا مع معاوية ولد الطايع الذي اختار ركوب موجة الفساد، بدل مواجهته"
ويضيف ولد أحمد ديه " لا يتوقع لغريق في الفساد أن يحاربه، الفساد في موريتانيا عميق وصعب، ويتجاوز الفساد المالي إلى الفساد في تسيير المصادر البشرية، وفي الإجراءات، وسبل التسيير العام للدولة، وهذا هو أول مسار في محاربة الفساد، وعندما يستمر تعيين الأشخاص على أساس زبوني وانتقائي ومصلحي، فلا يمكن الحديث عن محاربة الفساد المالي"
وبين الرأيين المتناقضين، ينتظر الموريتانيون، فوز ولد الشيخ الغزواني ليبدأ تنفيذ وعوده، وليعرفوا ما إذا كان سيتراجع عنها أو سيشرع في تصفية مقربيه وداعميه وفق من يرون أن المفسدين أكثر داعمي مرشح الخيار الآمن.