،
يجيءُ هذا المقال نتيجةَ محادثة هاتفية أجريتها الليلة الماضية مع صديق. اتصلت به سائلا عن خبر الأمطار والكميات المسجلة في نواكشوط والداخل عموما.
ولا أخفي عليكم أنني أذهلت تماما من رده. قال: سُجلت أمطار غزيرة بين الشارقة والكويت في الوادي الأبيض باتجاه البطحاء. وأمطار متوسطة على دمشق أهل فلان وقرية جدّة، وسقطت أمطار خفيفة على لعظم وسالت بطحاء الطائف و لكراع الأصفر. وفي مگطع لحجار 3 مم من "البصرة" إلى "الرافدين". وفي نواكشوط، سجلت كميات معتبرة في الرياض وعرفات والميناء وحي بغداد، وكميات خفيفة على مدريد ودار النعيم ولاس بلماس..
لوهلة حسبتُ ما قاله أمرًا عاديا، إلا أنني سرعان ما تبيّنتُ أن هذا الرد يثير أموراً أكبر مما يبدو على سطح الكلمات.
لماذا كل هذه الأسماء الجديدة؟ وما العيب في الأسماء القديمة؟ ومن قرّر تغييرها؟ ومتى ولماذا؟ طرحت هذه الأسئلة على أكثر من شخص، ولا أحد يعرف. تأكد عندي أن لا علاقة للأجهزة الرسمية بالموضوع، ولا وجود لأي جهة تسعى لإعادة رسم خريطة المدن والقرى بأسماء جديدة حتى ولو كان بعضها يلامس الروح والوجدان.
شخصيا، أستغرب إزالة أو استبدال اسم أصيل لمكان ورثناه عن آبائنا وأجدادنا باسم وافد . ولا أدري ما الفائدة في أن يصير سكان "شلخت أسدر" مثلا من سَكَنة "القاهرة". إذا استمر الحال، أخشى ما أخشاه أن نرى جزءا من تاريخنا يضيع بعد أن كان يختزنه المكان الذي تغير أسمه. ويضيع معه مخزون ثقافي زاخر من غزل ووصف ومدح وهجاء ورثاء، تختزنه أسماء أمكنة، مثلا:
كافِ من بعد أهل انوَين
حد إراعي فاملايَن
لمّاريد و عرف أيگنين
وصدر امّات إسلّايَن
و:
اصبر يا جملِ هاك واك
طول المشي وُ حمّانُ
امّردَه بانت هاك واك
ررايْ اگرونُ بانُ
و:
گلب انگادي وانواودار
دارُ في الگلب الّي اندار
و:
ذوك اكدَ لجواد اظواوْ
يا عيشَ عاگب ذو لنواو
سيضيع هذا التراث بالكامل إذا اندثرت أسماء الأمكنة، أو استبدلت، أو أزيلت من خريطة الوطن.
أرى في المسألة خطرا على حاضر ومستقبل البلاد لجهة التفريط أو التقصير أو التهاون مع ذاكرة الوطن. كلنا نعلم ما للذاكرة الجمعية من أهمية مصيرية في بقاء الأمم. ونعلم أيضا أن هذه الذاكرة ليست محصورة فيما يختزنه الأفراد، بل إن القسم الأهم منها هو ما تختزنه الأمكنة. وهنا أستحضر أبو العلاء المعري حين ناشدنا أن نخفف الوَطْءَ، وأستحضر وقوف امرؤ القيس يبكي بسقْط اللِّوى بين الدخول فحَومل، و العلامة القاضي لمهابه ولد الطالب إميجن حين يقول:
بسقط اللوى من لمَّ عودُ عهود
على مثلها العين الجمود تجود
والولي الصالح امحمد ولد أحمد يورَه يقف ويقول:
على الربـعِ بالـمـدرومِ أيِّـهْ وحـيِّـهِ
وإن كـان لا يـدري جـوابَ المـؤيِّهِ
ماذا لو تحولت "لمْ عودُ" دون سابق إنذار وصارت أسمها "شرم الشيخ"، وتحولت "المدروم" إلى "نيس"؟
هؤلاء الفلاسفة والشعراء قالوا بالضبط ما قاله قبلهم علماء الاجتماع عن قدسية المكان. قالوا كلهم، من ابن خلدون إلى دوركهايم، بأن ذاكرة الأفراد معرضة لخطر التآكل والتلف، وذاكرة الأمكنة هي الحافظة الأبدية للهوية والتراث. فالمكان هو الذي يحفظ الذاكرة الجمعية وأحد معالمها ورموزها في الآن نفسه. وقد يكون بقعة أرض أو بئرا أو واديا أو بحيرة أو غابة أو ساحة ملحمة (أم التونسي مثلا). وقد يكون مسجداً أو مقبرة أو طَلَلاً. فللأمكنة كلها، صغيرها وكبيرها، مواقعها الخاصة بها في سجل ذاكرة الوطن. وحين يختفى مكانٌ أو يُزال يبدأ اندثار كل ما يرتبط به من أحداث وأدب وغناء. قيل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما وصف له أصحابه الشام وجمالها، إنه قال: "اللهم اجعل كل أرض لأهلها شام".