الكل يرى أن التعليم فاشل، وكل يرى سببا لفشله من زاويته، وهذا التصور الحاصل عند المواطنين من أن التعليم فاشل ليس بالأمر الجديد ولم يزل يتنامى في أذهان الناس، وعندما تسألهم عن المعايير التي بنوا عليها هذا التصور، ترى أن المعيار المشترك لديهم والذي لا يكلف الدليل عليه جهدا هو أن خريجي الجامعة لا يمكن لأحدهم كتابة اسمه بطريقة صحيحة، وهذا يكفي مؤشرا على تدني المستوى؛ وأسباب فشل التعليم متعددة فلا يمكن حصرها في سبب واحد ولا في أسباب محدودة العدد، غير أن المحللين وخصوصا من الشباب يرجعونها إلى أسباب قد لا تكون موضوعية وهم معذورون في ذلك لأنهم لم يشاهدوه عن قرب، أو شاهدوه في ظروف محدودة لا تؤدي إلى نتائج ذات مصداقية، ولكن من شاهد التعليم في ظروفه المتعددة بما يمكنه من المقارنة بينها وما نحن عليه الآن مع اعتبار الزمان والمكان يعطي رأيا أقرب ما يكون للواقعية، فالدراسات التربوية ترجع فشل التعليم إلى عوامل عدة من بينها: البرامج، والكتب المدرسية، والمدرس، والوسائل الديداكتيكية، فلكل جزء مما ذكر تأثيره على النظام التعليمي ، هذا بالإضافة إلى لائحة طويلة من الأسباب لا يمكن حصرها يذكرها الخبراء في التعليم وغير الخبراء، ولكن الأكثر خطرا من هذا وذاك هو أن نظامنا التربوي يًسير من الخارج بلغة أجنبية ومخططات استعمارية لا تريد الخير لموريتانيا ولا تسعى إلى تقدمها، وذلك ما برهنت عليه الأحداث من خلال إصلاحات التعليم المتكررة ولاسيما ما تم سنة: 1999 والذي كان هو أسوء وأكثر ضررا لما قيم به في التعليم تجاه موريتانيا، كانت نتائجه في غاية السوء فهو الذي مازلنا نعيش مرارته حتى الآن وعلى مدى عشرين سنة؛ وذلك نتيجة للإختلالات التي ولد بها وظلت تصاحبه حتى اليوم؛ أذكر منها على سبيل المثال لاالحصر ما سوف أذكر هنا مما تم لي مع وزير التعليم، حين كنت ضمن الوفد الذي رافقه في مسعاه إلى إقناع الشعب بهذا الإصلاح الذي لم يؤخذ رأيهم فيه مسبقا، ففي إحدى الجلسات عندما جاء دوري في الكلام بصفتي ممثلا للمعهد التربوي الوطني المنتظر منه أن يوفر الكتب، طلبوا مني الكلام فلم أستجب، ولسوء حظي أن الوزير كان يعرفني، فأصر على تدخلي، فما كان لي إلا أن أعتذر له بحجة تكون مقنعة ترفع عني الحرج، فكان مسوغي هو أني لا يمكن أن أتدخل فيما لم أكن مقتنعا به أصلا، لماذا؟ ذلك لأنكم ذكرتم أنكم قمتم بإعداد خطة نظرية وبالطبع تكون محتاجة إلى أداة تنفيذ، لكنكم لم تذكروا ما ذا أعددتم لتنفيذها، حيث إن أداة التنفيذ الأوحد هي المدرس، ماذا قمتم به في هذا الاتجاه؟من أجل أن يقوم المدرس بهذا العمل لا بد أن تتوفر فيه ثلاثة شروط لا يمكن الاستغناء عن أي منها:
-أن يكون مقتنعا، وخائفا، وطامعا،
- فهو ليس مقتنعا لأن المبررات المقدمة لهذا الإصلاح ليست مقنعة ولم يؤخذ رأيه مسبقا فيها؛
- والطمع مفقود لغياب المحفزات وضعف الراتب، الأمر الذي لا يدعوه إلى بذل جهد مضاف وحتى إلى تأدية الواجب؛
- والخوف معدوم بموجب انعدام مبدأ المكافأة والعقوبة أصلا في نظامنا التسييري للموظفين؛ وذلك رغما عن إدراكنا بأن الله تبارك وتعالى أعلم بالبشر، خلقه وخط له الطريقة التي فيها صلاحه في الدنيا والآخرة، فمن مشمولات تلك الخطة مبدأ الثواب والعقاب، حين خاطب الله النبي صلى الله عليه وسلم قائلا:{وإنه لذكر لك ولقومك وسوف تسألون}، وقال{فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره}، فمن لم يستعمل جانبي الخوف والطمع في التعامل مع الإنسان لن يفلح في مسعاه، فالناس قد مات فيها الضمير المهني، وليست كلها مقتنعة ولا كلها وطنية. عندما كانت المكافأة والعقوبة موجودتان كانت مستويات التعليم أحسن من الآن بكثير، مع ضعف الوسائل الديداكتيكية في ذلك الوقت؛ غير أن الضمير المهني كان حاضرا وبقوة لدى المعلمين؛ على سبيل المثال عندما كنت مفتشا في الثمانينات أثناء زياراتي لبعض المدارس وجدت بعض المعلمين يدرسون أقسامهم تحت الأشجار، كما وجدت مدرسة من أربعة فصول في حي كل بناياته أعرشة، وعندما سقطت مدرستهم التزم الحي بتوفير الأعرشة التي يسكنون فيها بالتناوب يوميا ليتعلم فيها الأطفال، وبما أن العريش غير جاهز لاستيعاب المدرس والسبورة مع التلاميذ تبقى السبورة والمدرس في الخارج، والمعلم يمارس عمله من هناك في ظروف بالغة الصعوبة، ومع ذلك كانت مخرجات هذه المدرسة جيدة كما شاهدت. إن ضعف مستويات التعليم عندنا اليوم يعززها ضعف الحكامة بحيث إن الوزارة عاجزة عن توفير معلم لكل قسم، مع وجود المعلمين متكدسين في الإدارات الجهوية وفي المفتشيات وفي بعض المدارس.
مع وجود مدارس مكتملة الأقسام لا يوجد فيها إلا مديرها، وأخرى تبقى مغلقة أكثرية العام بدون مدرس، ولهذه الظاهرة بعض الأسباب:
- ضعف الرقابة على الموظفين من طرف الدولة؛
- عدم كفاية المديرين الجهويين لتسيير الأشخاص، وذلك لعدم اختصاصهم في المجال، وذلك لأن أغلبيتهم من أساتذة التعليم الثانوي الذين لا خبرة لهم بشؤون التعليم الأساسي بما يضعف أداءهم، لاتوجيها ولا تكوينا ولا تسييرا للأشخاص، وذلك لأن خبرة الأستاذ لا تتجاوز اختصاصه الذي تم تكوينه من أجله، ليكون أستاذا لمادته: رياضيات أو علوم أو لغة، فتعيينه مديرا للتعليم الأساسي يعتبر ظلما بحقه، وبموجب ذلك يظل يشعر بعدم كفايته لهذه المهمة المكلف بها، ولذلك فهو لا يريد أن يتخذ قرارا خارج ما تأمره به الوزارة، ينفذ ما أمكنه منه على استحياء، لا يريد أن ينتبه إليه أحد مخافة أن يظهرفشله؛ وهذا مخالف لما يمكن أن يقوم به المدير الذي هو في الأصل من قطاع التعليم الأساسي.
نرى أنه في الأسابيع الماضية قام المدير الجهوي في ولاية الترارزة بإجراء بالغ الأهمية تم بموجبه خلق توازن في المعلمين بين المدارس مكن من توفير المدرسين للمدارس بعضها من بعض، قامت عليه الدنيا بالاحتجاجات ، غير أنه لم يعبأ بذلك ولم يثنه عن قراره، وذلك لأنه كان على دراية كاملة بما يفعل،
لأنه يتصرف بموجب تخصصه كمفتش مدير جهوي للتعليم الأساسي؛ وذلك ما عجز عنه المديرون من الأساتذة بل استنكره بعضهم، كما أن الوزارة لا يمكنها أن تبرر عدم التغطية من المعلمين بالعجز في عددهم، إذ يوجد الآن 3.400 معلما قد تم تكوينهم في مدارس المعملين يعملون الآن مراقبين في المدارس، هؤلاء لو تم ضخهم في المدارس لتمت تغطية العجز فيها، على أن يقع تعويضهم في الرقابة بمقدمي الخدمة الذين لم يتكونوا بعد على التعليم بالقدر الكافي؛ ولكننا نحتاج إلى إرادة وطنية صادقة تضمن لنا تعزيز الحكامة الضرورية لعمل يؤدي إلى نتيجة مؤكدة.