جوابي على رسالة المستشرق الألماني:
6/1/1416 هـ
4/5/1995 م
أخي الكريم الأستاذ م. فاندلين فانزل تيوبر حفظه الله
(Wendelin wenzel - teuber,M.A)
ألمانيا - فروث 90763
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وأنا أرد تحيتكم بأحسن منها، وفق ما وجهنا القرآن: {وَإِذَا حُيِّيتُم بِتَحِيَّةٖ فَحَيُّواْ بِأَحۡسَنَ مِنۡهَآ أَوۡ رُدُّوهَآ} [النساء: 86]، وأنا أختار الأحسن، شأن المسلم الذي أرشده القرآن إلى ذلك: {ٱلَّذِينَ يَسۡتَمِعُونَ ٱلۡقَوۡلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحۡسَنَهُۥٓ} [الزمر: 18].
وأود أن أعتذر عن تأخري في الرد على رسالتك الكريمة، فقد وصلتني متأخرة، ثم سافرت بعدها في رحلة طويلة إلى الكويت، ثم موسكو ثم إستانبول.
كما أحب أن أعرب لك عن سروري برسالتك؛ فقد لمست فيها الإخلاص في طلب الحقيقة، والبحث الدؤوب عنها، كما لمست فيها روح الاعتدال والإنصاف، وهو ما نفتقده لدى كثيرين، ممن يبحثون من الغربيين في الشأن الإسلامي فيُحرِّفون الكلم عن مواضعه، متَّبعين هوى أنفسهم أو أهواء غيرهم؛ لذا أحيِّي فيك هذه الروح، وأدعو الله تعالى أن يسدِّد خطاك وأن يجزيك عني وعن العلم خيرًا.
اهتمامي بما يكتب عني في الغرب:
واعتقادك أني قد أهتم بما يكتب عني في الغرب اعتقاد في محله، وإشراكي في ذلك عن طريق السؤال والحوار أمر يسعدني كثيرًا بلا ريب. وهذا التوجه يعتبر تطورًا له قيمته من قبل الاستشراق والفكر الغربي عمومًا، فقد كان المستشرقون قديمًا يكتبون عن الإسلام والمسلمين، وينقل بعضهم عن بعض، ولا يكاد يرى المسلمون هذه الكتابات إلا في النادر. ثم تطور الأمر فإذا المسلمون يقرءون ما يكتبه المستشرقون ويناقشونهم فيه، فبدأ نوع من المشاركة والحوار. أما توجهك الآن فهو خطوة جديدة؛ لأنها تقوم على التعرف والاستشفاف قبل الكتابة. وخصوصًا ممن يُكتَب عنه، فهذا مما يُحمد لك ويحسب في ميزانك.
وقد فهمت من رسالتك أنك تجيد العربية، وأنك قرأت كتبي بها، وهذا شيء رائع حقًّا، فقراءة النص بلغته الأصلية أدل عليه من قراءته مترجمًا. وإذا كانت رسالتك إليَّ بلغتك وأسلوبك فهي لغة راقية حقًّا، وأهنئك عليها.
سعادتي باهتمام المستشرق بتيار الوسطية:
ولقد سعدت كثيرًا باهتمامكم البالغ بـ «تيار الوسطية الإسلامية»، الذي أتبنَّاه وأدعو إليه بقلمي ولساني وفكري وجهدي منذ سنين طويلة، والذي أعتبره هو المعبِّر الحقيقي عن روح الإسلام، ومنهج أمته التي سمَّاها القرآن: {أُمَّةٗ وَسَطٗا} [البقرة: 143]. وإن كان هناك أناس في الغرب قد طفقوا يحذِّرون من هذا التيار. ويقولون صراحة: احذروا الإسلام المعتدل، فهو أشد خطرًا وأطول عمرًا، وأوسع قاعدة. وهذا ما أعجب له يا أخي كل العجب، فإذا كان التطرف مرفوضًا، والاعتدال مخوفًا، فماذا يصنع المسلم الملتزم؟
إن الأمل قد أصبح معقودًا بالباحثين المنصفين ذوي الأفق الواسع، والنية الصادقة، من أمثالك، فهم الذين ينيرون الطريق - ببحوثهم الموضوعية، ونظراتهم العلمية - لأقوامهم، ويهدونهم سواء السبيل.
تأثر المجتهد بزمانه ومكانه:
أما سؤالك الأساسي حول توجُّهك في الكتابة عن فكري في موضوع «الإسلام والسياسة»، فأنا معك في أن المفكر - أو «المجتهد» بلغة الفقه الإسلامي - لا يستطيع أن ينفصل عن زمانه ومكانه، أو عن عصره وبيئته، وهذا ما جعل المحققين من فقهائنا يقولون من قديم: إن الفتوى تتغيَّر بتغيُّر الزمان والمكان والعرف والحال.
والمجتهد المسلم الذي يعيش في القرن الخامس عشر الهجري، غير المجتهد الذي عاش في القرن العاشر، غير المجتهد الذي عاش في القرن الثاني أو الثالث؛ ومن هنا كان لا بد لنا أن نتأثر بعصرنا وتوجهاته الثقافية والحضارية، شئنا أم أبينا، إن كنا نعيش في هذا العصر حقًّا، ولم نفرض على أنفسنا عزلة مصنوعة.
كيفية قراءتي للتراث:
وسيتجلَّى أثر هذا في قراءتنا للتراث، وفي فهمنا للنصوص، سنجد في التراث أقوالًا مهجورة، وآراء مطمورة، تتوافق مع العصر، تحتاج إلى أن تُتبنى وتشهر، وسنجد نصوصًا مهمة لم تأخذ حقها في الظهور يجب أن تظهر، ونجد نصوصًا أخرى فهمت في ضوء زمن معيَّن ينبغي أن تعاد قراءتها.
كل ما في الأمر أن هناك قومًا يغلب عليهم العصر حتى يذوبوا فيه، وينسوا أصالتهم وهُويتهم، ويُبرِّروا ذلك بتأويل النصوص تأويلًا متعسِّفًا يقنعهم بسداد طريقهم... وقومًا آخرين يأخذون من إيجابيات العصر ما يتلاءم مع أصالتهم، ويشد أزرها في الوقت نفسه، موازنين بين الثوابت والمتغيِّرات، مقتبسين من الأساليب والآليات والضمانات ما يقوِّي الثوابت، مُحوّرين فيما نأخذه ونقتبسه، بحيث يصبح جزءًا منا، ويفقد جنسيته الأولى.
موقفي من الحضارة الغربية:
ليس الغرب كله مرفوضًا، ولا الغرب كله مقبولًا؛ هناك قضايا مسلَّمة في الغرب، لا يقبلها منطق المفكر أو المجتهد المسلم الملتزم، مثل: قضية الربا في المجال الاقتصادي، وقضية التبرج في المجال الاجتماعي، وقضية العِلمانية في المجال السياسي، ومثل: النزعة المادية في المجال الفكري، والنفعية «المطلقة» في المجال الأخلاقي، ونحو ذلك مما لا يسوغه الإسلام بحال في ضوء قرآنه وسُنته.
وما عدا ذلك فهو مجال رَحْب للاقتباس، حتى ذكرت في بعض كتبي أننا وإن كنا نرفض الفلسفة الكلية لـ «ماركس» أو «فرويد» أو «دوركايم» أو «داروين»، فإن هذا لا يمنعنا أن نأخذ من نظرياتهم ما لا يخالفنا، فليس كل ما قالوه خطأ، بل فيه الصواب والخطأ، شأن البشر غير المعصومين.
وأعتقد أنكم وجدتم - وستجدون - في كتبي ما يلقي الضوء على هذه القضايا، وخصوصًا في كتبي: «فتاوى معاصرة» الجزء الثاني، و«أولويات الحركة الإسلامية»، و«الإسلام والعِلمانية وجهًا لوجه»، و«الصحوة الإسلامية بين الجحود والتطرف»، و«الصحوة الإسلامية وهموم الوطن العربي والإسلامي»، و«أين الخلل؟»، و«الثقافة العربية الإسلامية بين الأصالة والمعاصرة»، وسلسلة «حتمية الحل الإسلامي»، و«الاجتهاد في الشريعة الإسلامية»، و«ملامح المجتمع المسلم»، و«فقه الأولويات» وغيرها.
أعود إلى أسئلتك الفرعية في رسالتك.
مستقبل تيار الوسطية الإسلامية:
أما سؤالك الأول، المتعلق بالمستقبل: مستقبل «تيار الوسطية الإسلامية»، فنحن المسلمين عادة نقول بمنطق الإيمان: المستقبل بيد الله وحده، ولا يمنعنا هذا أن نقول في ضوء المنظور من الأسباب: إن هذا التيار هو صاحب المستقبل، وهو الذي سيرجع إليه كثير من الغلاة بعد أن تبينوا أن التطرف لا يفيد، والعنف لا يُجدي، كما سيحاول كثير من المقصِّرين أن يلحقوا به، واللحاق به مستطاع وميسور؛ فإنه لا يطلب من الناس ما يعنتهم في دينهم، أو يحرجهم في دنياهم.
وأملي أن الشعوب ستعي قيمة هذا التيار وتتبنّاه، حين تملك أمر نفسها حقيقة. أما الحكام فالغالب أنه لا أمل فيهم، فهم لا يعملون من أجل أمتهم، وتحقيق مشروعها الحضاري، بل يعملون لصالح أنفسهم، أو لصالح من يدينون له بالولاء.
ولا أرى العنف وسيلة مجدية بحال من الأحوال في التغيير والإصلاح، وهو محظور أبدًا، إلا في حالة الضرورات التي تبيح المحظورات، وللضرورات في الشريعة الإسلامية أحكامها. ولكن حتى هذه لها ضوابطها المعروفة في الشرع، إن ما أبيح للضرورة يقدَّر بقدرها، وبضوابها، {غَيۡرَ بَاغٖ وَلَا عَادٖ} [البقرة: 173]، كما قال القرآن.
والخلاصة: إن تيار الوسطية هو تيار المستقبل، {وَلَتَعۡلَمُنَّ نَبَأَهُۥ بَعۡدَ حِينِۢ} [ص: 88].
أثر الوسطية عند الجماهير المسلمة:
وأما السؤال الثاني، المتعلق بالحاضر، ومدى نفوذ دعاة الوسطية عند الجماهير، وعند الشباب الإسلامي في بلد كمصر، ونفوذ فكري وتأثيري أنا خاصَّة، وإن كان شائكًا، فأقول بصراحة: إن هذا التيار هو أوسع التيارات نفوذًا، وأكثرها جمهورًا، وأعرضها قاعدة، يتبين ذلك عندما تتاح فرصة ليعبِّر هذا التيار عن نفسه بحرية، فيختار دعاته وممثلوه كما في أندية هيئات التدريس، واتحادات الطلاب بالجامعات، ونقابات الأطباء والصيادلة والمهندسين والمحامين وغيرهم من أصحاب المهن المختلفة، الذين يمثلون مثقفي الأمة.
وأنا وإن كانت إقامتي في قطر كما تعلم، ولا أذهب إلى مصر إلا في إجازة الصيف، فإنك تستطيع أن تحكم مدى نفوذ تيار الوسطية من خلال أمرين:
1 - انتشار كتبي بحمد الله انتشارًا لا نظير له، حتى إن عددًا منها طبع عشرات المرات.
2 - الحضور المكثف لما أُدعى إليه من محاضرات، سواء في القاهرة أم في مدن الأقاليم. ويوم كنت أخطب العيد في ميدان عابدين، كان يحضر مئات الآلاف. ومن المعلوم: أن الشباب الذين لا يدينون بفكري يحترمونه؛ لأنه مؤصَّل تأصيلًا شرعيًّا.
وهذا قد عايشته ولمسته في أقطار عربية وإسلامية كثيرة زرتها، ورأيت فيها هذا التجاوب الهائل، الذي يتمثَّل في الإقبال على محاضراتي، وفي اقتناء كتبي، ولله وحده الفضل والمنة.
وإن أنس لا أنسى تلك الجملة التي يبدأ بها كثير من الأوراق التي تردني بعد إلقاء المحاضرات، وهي تقول: نحبك في الله!
التطور في تفكيري بين الماضي والحاضر:
وأما السؤال الثالث، المتعلق بالماضي، وهو عن التطور في تفكيري بين الماضي والحاضر، بين الأربعينيات والتسعينيات، من أقوال الشاب الطالب إلى أقوال الشيخ الناضج، فلا شك في أن الإنسان الحي يتطور بتطوَّر ما حوله، ويتغيَّر بتغيُّر زمانه ومكانه، فليس الإنسان آلة صماء، بل هو فكر وشعور وإرادة. ولا سيما إذا لم يكن إنسانًا جامدًا ولا مقلدًا.
لقد كان يغلب عليَّ في الأربعينيات حماسُ الشباب، وخيالُ الشاعر، وأسلوبُ الواعظ، ولكني - طوال حياتي - لم أكن جامدًا ولا مقلدًا تقليدًا مطلقًا، فكنت منذ المرحلة الابتدائية أناقش شيوخي، وأقبل منهم وأدع، وكنت وأنا في المرحلة الثانوية أدرّس الفقه في قريتي متخَيِّرًا من المذاهب، كما حكيت ذلك في مقدمة كتابي: «فتاوى معاصرة». كما لم أجنح إلى الغلو ولا إلى التسيُّب في أيِّ فترة من عمري؛ كانت الوسطية كأنما هي جزء من كياني، فطرة فطرني الله عليها. يتبين ذلك في أول مؤلَّف حقيقي أدخل به ميدان التأليف، وهو كتاب: «الحلال والحرام في الإسلام»، الذي كتبته في سنة (1959م)؛ بناءً على تكليف من مشيخة الأزهر، وفيه يتجلى منهج الاعتدال والتيسير، كما يتجلى روح الاجتهاد والتجديد، في الفكرة والأسلوب. وقد كان الكتاب موضع اهتمام من الإخوة في جامعات باكستان، بوصفه نهجًا جديدًا في كتابة الفقه المعاصر. وقد وَصَل إليهم الكتاب مبكرًا «أوائل الستينيات»، فقدَّمت فيه طالبةٌ في جامعة البنجاب بحثًا حصلت به على درجة الماجستير، وآخر في جامعة كراتشي.
خطُّ الوسطيةِ الإيجابيةِ:
خطِّي الأساسي - وهو خطُّ الوسطية الإيجابية - لم يتغير، بل زاد تأكُّدًا وتعمقًا ووضوحًا... وربما حدث تغير ما أو تطور ما، في بعض القضايا، وهو تغيُّر في الدرجة لا في النوع، مثل الموقف من القومية ومن الديمقراطية. فأنا الآن أكثر تسامحًا في هذه القضايا مني في عصر الشباب، كما أني الآن أكثر انفتاحًا ومَيْلًا إلى الحوار مع المخالفين، وأحاول تأصيل هذه القضايا من الوجهة الشرعية؛ بعد أن اتسعت المعرفة، ونضج الفكر، وازدادت الخبرة بالدين وبالحياة معًا.
أخي، أرجو أن تكون هذه الإجابات السريعة كافية ومقنعة لك، كما أرجو ألا تتردَّد في طلب ما يعنُّ لك من أسئلة تراها لبحثك، وأن تطلب ما تحتاجه من كتبي، لأجتهد في إرساله إليك، وحبذا لو طلبت ذلك من مدير جامعة قطر «د. إبراهيم صالح النعيمي» ليتولى هو إرسال هذه الكتب إليك.
أخيرًا، أرجو أن تقبل خالص تحياتي، وأطيب تمنياتي، وأخلص دعائي لك بالتوفيق والسداد.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
مدير مركز بحوث السنة والسيرة
أ. د. يوسف القرضاوي