نسائم الإشراق، الحلقة رقم (1793) 16 يناير2022م، 13جمادى الآخر 1443هـ، فقه الوسطية الإسلامية والتجديد، معالم ومنارات، الشيخ يوسف القرضاوي، الحلقة رقم (67)

4 - التيسير فيما تعم به البلوى: 

ومن أهم ما ينبغي التيسير فيه ما تعم به البلوى من أمور العبادات والمعاملات. فإن ما عمّت به البلوى يدل كثرة وقوعه والابتلاء به على شدة حاجة الناس. وهذا يقتضي أن ييسّر عليهم فيه، فإن الشرع قد جاء لتحقيق لهم مصالحهم ويدرأ المفاسد عنهم بقدر الإمكان.

فإذا كان هناك بعض المذاهب شدد في شئون الطهارة مثلا، كمذهب الإمام الشافعي – رضي الله عنه – فليس هناك موجب لإلزام الناس به، لما قد يترتب عليه الحرج عند جماهير المسلمين وخصوصاً في الريف والقرى.

فلا غرو أن يتجه الفقيه إلى مذهب مالك ومن وافقه في القول بأن كل ما يُؤكل لحمه فبوله وروثه طاهر، وأن الماء لا ينجّس إلا بالتغيّر، وهذا ما ر جّحه وأفتى به شيخ الإسلام ابن تيمية، وعضّده بالأدلة وهو ما نعلمه ونفتي به الناس.

وقد قال الإمام الغزالي، في كتاب "الطهارة" من "الإحياء" عن الشافعي: كنت أود أن يكون مذهبه في المياه كمذهب مالك، وساق سبعة أوجه لتأييد مالك هذا وهو شافعي المذهب، رضي الله عن الجميع.

بل نجد الإمام الشوكاني في "السيل الجرار" ضيق في "النجاسات" إلى أبعد حد، وهذا هو الأليق بالتيسير .

ومثل ذلك ما قاله الغزالي عن البيع بالمعاطاة أي بغير لفظ الإيجاب والقبول، وهو ما يجري عليه عمل المسلمين في كل مكان، وفي سائر العصور وقول الشافعي فيه شديد، والبلوى به عامة. 

فعلى الفقيه أن يعمل على تصحيح معاملات المسلمين من داخل الفقه ومصادر الشريعة وقواعدها ما وجد إلى ذلك سبيلاً، وهذا ما يلمسه الدارس لدى كثير من علماء الفقه في المذاهب المختلفة، ولاسيما في الأعصر الأخيرة، فهم يحاولون أن يلتمسوا مخرج اً لتصحيح التعامل، إما بتكييفه تكييفاً يجعل له مستنداً من الشرع، أو بحيلة فقهية، أو باللجوء إلى قول مهجور أو ضعيف في المذهب، أو بإجازة تقليد مذهب آخر.

وكثيراً ما يكون الضيق والحرج ناشئاً من التقيّد بمذهب معين، ولو تحرّروا منه إلى باحة المذاهب الأخرى المتبوعة وغير المتبوعة، وأقوال الصحابة والسلف، والى النصوص والقواعد العامة لوجدوا في باحتها الفسيحة ما يخرجهم من الضيق إلى السعة، ومن العسر إلى اليسر. 

ومن الكلمات التي لها دلالتها: ما أثر عن السابقين – في ترجيح العمل ببعض الأقوال – قولهم: هذا أرفق بالناس.

 ومن جوانب التيسير – فيما تعمّ به البلوى –: الإشارة إلى الرأي المخالف الذي لم يأخذ به العالم في درسه إذا درّس، أو المؤلف في كتابه إذا كتب، ولو في الحاشية، وإن كان في نظره ضعيفاً، فقد يكون قويّاً في نظر غيره، ويتعين هذا إذا اختار هو القول الأحوط، أو الأشد، فيلزم الإشارة إلى الرأي الأيسر.

ومن فوائد هذا التعريف بأن المسألة فيها أكثر من أري أو وجهة نظر، فالمختلف فيه غير المجمع عليه، و ذكر هذا في هذا المقام خاصة من الأمانة العلمية .

ومن ناحية ثانية، فالأمور الاجتهادية القابلة لتعدد الأنظار، واختلاف الاجتهادات، لا يجوز أن يعتبر من أخذ بوجهة منها مرتكباً لإثم يُنكر على صاحبه، ولهذا قالوا: لا إنكار في المسائل الاجتهادية .

وأمر ثالث، وهو الإبقاء على الضمير الديني، عند من يعملون على خلاف الرأي الأحوط أو الأشد أو المشهور، وهو ما لاحظه الأستاذ الأكبر، شيخ الأزهر الأسبق، الشيخ محمد مصطفى المراغي – رحمه الله – حين تبنى أقوال الإمام ابن تيمية وبعض السلف في قضايا الطلاق وغيرها من الأحوال الشخصية، فإن الناس يحلفون بالطلاق كل يوم، وخصوصاً  الباعة والعامة، ويحنثون، ويظنون أن طلاقهم واقع، وأنهم يعيشون مع نسائهم في حرام، وأن ذريتهم منهن أولاد حرام، ومثل هذا الاعتقاد يفسد ضمائرهم الدينية، ويجرئهم على الحارم الصرف المقطوع به. فلماذا لا نفتيهم بالمذهب الميسّر عليهم، وبذلك نبقي عليهم ضمائرهم واعتقادهم أنهم لم يخرجوا عن دائرة الإسلام؟ 

ومثله ما يقال فيمن يفتي بتحريم حلق اللحية، تحريمًا قاطع اً، بل يحرّم أخذ أي شيء منها، وجماهير المسلمين تفعل ذلك، في المشارق والمغارب. 

وكذلك من يفتي: بتحريم إطالة الثوب إلى أسفل من الكعبين، واعتبار فاعله في النار، وجماهير الأمة الإسلامية واقعة في ذلك، كما هو مشاهد .

فإذا افترضنا أن الفقيه اختار الرأي الأثقل، فينبغي في رأيي أن يشير إلى الرأي الآخر. ولا يحمل الناس على رأي واحد. فتكون فتنة، كما قال الإمام مالك – رضي الله عنه – معللاً رفضه: حمل الناس على "الموطأ". 

ولا يعني التيسير فيما تعم به البلوى: أن نُحل المحرمات المقطوع بها، مثل الربا، أو الخمر، أو المخدرات، ونحوها، مما جاءت به نصوص محكمات، لا يجوز إهمالها أو التلاعب بها، اتباعاً لأهواء الناس. فقد قال تعالى: {ثمَّ جَعلَناَكَ عَلَى شَرِيعةٍ مِنَ الْأمْرِ فاَتبِّعْهَا وَلا تتَبِّعْ أهْوَاءَ الذِّينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّهُمْ لَنْ يغُنوُا عَنْكَ مِنَ اللَّه شَيْئا  وَإِنَّ الظلِمِينَ بَعْضُهُمْ أوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَاللَّه وَلِيُّ الْمُتقِّينَ}. [الجاثية:18-19].