شهادتي على عصر الرئيسين (رمضان 1981 وما بعده)/ المفتش عبد الله السالم اللوه

لا أتذكر من رمضان ما قبل 1981 إلا ومضات خافتة، فعامل السن يمنع أكثر من ذلك، لهذا كان رمضان 1981 أول رمضان أتذكر بعض التفاصيل المهمة التي تجري في بيئتي الخاصة. ففي تلك السنة لاحظت الكبار يستمعون للإذاعة ليلة الثلاثين شعبان ينتظرون بيان اللجنة الوطنية للأهلة التي كان يترأسها القاضي عبد الله بن اعل سالم وضمت في الثمانينات قضاة وأئمة وفقهاء، كان بث الإذاعة يتوقف عند منتصف الليل، توقف واللجنة ما زالت مجتمعة، ثم ثبتت لديها رؤية الهلال فما علم الناس بذلك إلا عند السابعة صباحا عند ما عاد البث وقدم البيان ، فأمسك الناس ومنهم من لم يذق شيئا، وصاروا ملزمين شرعا بقضاء ذلك اليوم؛ ولا أدري هل ثبت هلال شوال تلك السنة بالرؤية أم بكمال رمضان ثلاثين يوما. كانت لجنة الأهلة تعلن عبر الإعلام قبل ليلة ترائي الهلال بأيام تحديد ليلة الترائي وتدعو الناس لمراقبته وموافاتها بالنتائج، وكان لها في كل مقاطعة لجنة فرعية ترفع إليها ما وصلها. كانت الاتصالات ضعيفة، فكانت اللجنة تجتمع في مباني وزارة الداخلية وذلك للاستفادة من شبكة الاتصال التي تربط الوزارة بحكام المقاطعات، وطبيعي أن يرى قوم الهلال وهم في بيداء معزولة فلا يتيسر لهم التبليغ إلا بعد أيام، ولهذا كانت بيانات اللجنة بيانات مؤقتة، فقد تصدر اللجنة في وقت من الليل بيانا يفيد أنها لم تتوصل إلى ما يثبت رؤية الهلال وعليه فإن يوم كذا هو فاتح رمضان أو عيد الفطر، ثم يتبين أن هناك من رأى الهلال تلك الليلة فتجتمع اللجنة اجتماعا طارئا فتدرس تلك الرؤية وتلغي قرارها الأول وحين يتعلق الأمر برمضان تطلب من الناس قضاء يوم، وفي أحيان يصوم الناس 28 يوما لأن اللجنة لم تتوصل لما يثبت الهلال ثم بعد ذلك (أحيانا ضحى اليوم الموالي أو حتى عند العصر أو بعد مرور أيام) تعلن ثبوت الهلال ليلة الترائي ومن هنا تتغير الليلة المحددة لرؤية هلال شوال فلا تأتي العاشرة من تلك الليلة حتى يتدفق الراؤون على اللجنة فتثبت الهلال. ومن أمثلة ما يجري بشأن رؤية الهلال أنه في ليلة ترائي هلال رمضان 1404 (1984) ـ على غالب ظني ـ توقف البث ليلا قبل انتهاء اجتماع اللجنة ثم توصلت تلك الليلة إلى ما يثبت الرؤية، فتم بث الخبر في وقت متأخر من الليل في العاصمة عبر مكبرات الصوت فنجا سكان العاصمة من قضاء يوم، وكان الله في عون من لم يعلم بالخبر قبل السابعة صباحا. وفي رمضان 1405 (وهو أول تجربة صيام بالنسبة لي) أعلنت اللجنة ليلة الترائي أنه لم يثبت لديها الهلال رغم أنه ثبت في السعودية وعدة بلدان وكنت يومها في الريف وعلمت بعد أيام أن سيدة من أقاربي رأته تلك الليلة وأصبحت صائمة، وبعد أيام أعلنت اللجنة أنه ثبتت لديها رؤية الهلال وعلى الناس قضاء يوم وبناء عليه حددت ليلة ترائي شوال، وكان من قضاء الله أن شوال ثبت تلك الليلة التي حددتها اللجنة في عدة دول وبثت ذلك الإذاعة الوطنية في نشرة الثامنة ليلا وذكرت أن بابا الكنيسة الكاتوليكية يوحنا بولس الثاني بعث رسالة تهنئة للمسلمين وهو أمر استغربته يومها وبعد انتهاء النشرة بساعة أو اثنتين بثت الإذاعة بيان اللجنة وفيه ثبوت شوال. وفي إحدى سنوات الثمانينات اللاحقة حدثت ضجة كادت تعصف باللجنة فقد دعت اللجنة لرؤية هلال رمضان في ليلة معينة واجتمعت تلك الليلة ثم أصدرت بيانا أنها لم تتوصل لما يثبت الرؤية، لكن يبدو أن قرية معزولة في ريف بتلميت الشمالي رأت الهلال ولكن العزلة جعلت الخبر يتأخر عن تلك الليلة، لكنه ذاع وانتشر بعد أيام، مما جعل اللجنة تبعث فقيهين منها (أحتفظ باسمهما) وبعد ذلك أصدرت بيانا أكدت أن الحال باق على ما كان عليه، وأنها بعثت عضوين منها للقرية وتبين أنهما لم يتوصلا لما يثبت الرؤية، وبشكل مفاجئ دعت اللجنة بعد أيام من هذا البيان إلى مراقبة هلال شوال في ليلة كان يفترض أنها ليلة 29 مما يعني تلميحا أنها اعتمدت الرؤية التي سبق أن رفضتها، وفي صباح تلك الليلة أصدرت بيانا أعلنت فيه أنها اجتمعت لدراسة رؤية هلال رمضان ورؤية هلال شوال وأنه ثبتت لديها رؤية هلال رمضان في الليلة المحددة برؤية عدول القرية المرفوضة وثبت لديها هلال شوال وعليه يلزم الناس قضاء يوم؟ أثار هذا الحدث وأمثاله شك الكثيرين، ونسجت قصص حول السبب الحقيقي لرفض الرؤية ثم اعتمادها، ومن طرائف ذلك ما ذاع بين الناس أن أحد الفقيهين الذين ابتعثا للقرية كان لا يرى في التدخين بأسا وأنه حين جاء القرية وكان مفطرا (لعامل السفر وربما لسبب صحي) مارس حقه فيما يراه حلالا زلالا فناقشه شيخ من أهل القرية نقاشا حادا حول ذلك فحدث نوع من عدم التعاون (إما شيخ القرية رفض التعاون مع الفقيه أو الفقيه انصرف مغضبا) فأثر الخلاف على مزاج الفقيه وعاد للجنة بتقرير سلبي، وسواء صحت الحكاية (وما ينبغي لها ذلك) أم لم تصح فقد كان موقف اللجنة وتراجعها مثارا للشك عند بعض الناس و لهذا فإن عددا من الفقهاء التقليديين ـ ظل يتزايد لمدة ـ أصبح لا يعتمد على اللجنة بل يسأل بوسائله الخاصة عن رؤية الهلال ويراقبه بنفسه، في حين أن آخرين صاروا يميلون لمشهور المذهب المالكي فيعتمدون رؤية الهلال في أي بلد، ولم يكن للسلطات من تدخل سوى منع إقامة شعائر العيد في غير اليوم الرسمي. لكن جمهور الناس ظل يعتمد قرارات اللجنة وكان أكثر هذا الجمهور يستند في ذلك إلى ثقته في اللجنة بحكم تركيبتها، ومنهم من لم يكن يخفي تشكيكه في اللجنة لكنه يعمل بقراراتها وفق مبدإ (ديرها اعل رقبة عالم تمرقها سالم) ومن قصص الرؤية ما حدث عام 1994 أن اللجنة حددت ليلة لترائي هلال رمضان، وكان من قضاء الله أنه لم يثبت خارج موريتانيا في أي بلد وأثبتته اللجنة تلك الليلة برؤية عدلين في إحدى المدن وسط تشكيك كثيرين وبعد سنتين لقيت شخصيا أحد الرجلين فسألته عما رأى فأكد لي أنه كان متأكدا من رؤية الهلال ولم يكن في حال شك أو توهم. وعلى كل فقد تحسن أداء اللجنة وخاصة مع تحسن وسائل الاتصال فأصبح من يرى الهلال في أشد نقطة من البلد عزلة قادرا على أن يصل في ظرف ساعتين على ظهر سفينة الصحراء (الجمل) إلى أقرب نقطة فيها الهاتف، ولذلك صارت اللجنة تصدر بيانها بعد ساعات من غروب الشمس وصارت تتعامل مع ما يردها بعد ذلك من الرؤية على أنه كتم للشهادة آثم من يفعله فلا تقبل تغيير موقفها وهو أمر يشكر فيذكر، كما صارت اللجنة تطلب مراقبة جميع الأهلة وتجتمع بوزارة الشؤون الإسلامية وبذلك لم يعد الشك واردا نحوها فلم يعد من الموضوعي توجيه النقد إليها إلا في كونها لا تعتمد رؤية الهلال خارج الحدود السياسية لموريتانيا وهي مسألة عمت بها البلوى نتيجة كون النخب التي استلمت الحكم من الاستعمار في الدول الإسلامية تطبق نظرية السيادة الوطنية حتى على الهلال.

ولم تكن المشكلات في الثمانينات تقتصر على رؤية هلالي رمضان وشوال بل تسري لهلال ذي الحجة. وما زلت أذكر أنه في بعض سنوات النصف الثاني من الثمانينات رأى هلال ذي الحجة في نواكشوط ثلاثة عدول من أهل قريتنا هم الفقيه العلامة متالي بن سيدي والعدل الثقة اباه بن الديدة رحمهما الله ونسيت الثالث فاتصلوا باللجنة فلم تعتمد رؤيتهم (لا أدري السبب) فبلغ ذلك الأهل في القرية فقرروا اعتماد الرؤية، فلقد رأيتنا ونحن نضحي في يوم حسبته لجنة الأهلة يوم عرفة، وصلينا فيه صلاة العيد، وفي الغد تابعنا في الإذاعة صلاة العيد في المسجد الجامع يؤمها العلامة بداه بن البوصيري رحمه الله.

لم تكن هذه الأطعمة والعصائر معروفة لدينا في تلك الفترة فلا بسبوسة ولا كريب ولا كباب ولا بطاطس مقلية، الأمر أبسط من ذلك، فحين يقترب وقت الغروب يوضع أمام كل صائم إناء فيه تمر وآخر فيه زريق وربما آخر فيه حساء (النشا) وتفتح الإذاعة حيث يتم الاستماع للقارئ محمود خليل الحصري رحمه الله (في أواخر الثمانينات محمد الأغظف بن محمد سيدي) حتى إذا حان الغروب بثت الإذاعة أذان المغرب (ولعله مسجل عندها) فيأكل كل واحد تمرات ويشرب الزريق والحساء وإن كان من أهل التدخين تجده عبأ "عظمه" بمسحوق التبغ فبمجرد أكل تمرات وشربة زريق أشعل النار في العظم واستنشق الدخان (وخلى شيئا يفوت) وإن كان من أهل السيجار أشعل سيجارته. وبعد انتهاء صلاة المغرب يدعى الصائمون في المنزل إلى "أطاجين" وهو عبارة عن بطاطا مطبوخة بلحم وبصل فيأكلون منها مغمسين قطع الخبز في مرقها، وذلك مع شرب الشاي، فإذا صلوا العشاء والتراويح ومضى هزيع طويل من الليل وضعت وجبة العشاء والغالب في رمضان أن تكون ثريدة قمح مكللة باللحم، وكان الغالب علينا شراء الثريدة من بائعة الثريد السيدة دادو رحمها الله إن كانت ماتت وأطال بقاءها إن كانت حية وكان محلها قرب وقفة البيس (أرابيس حاليا) فإذا لم يبق من الليل إلا قليل تسحر الناس بشيء خفيف إما قليل أرز صب عليه لبن أو قليل عصيد ذرة بلبن ومنهم من يكتفي بشرب اللبن وكان اللبن الوحيد المتوفر في العاصمة هو حليب الوردة (روز) المستورد من ألمانيا الغربية. كان كل أحد يقضي ليالي رمضان حسب طبيعته فكانت فرصة لقراءة القرآن وتدارسه، وكان الغالب على الشباب النوم معظم النهار.

أما الإذاعة فكانت تبث لمدة أظنها قد تصل نصف ساعة تلاوة قرآنية تنتهي عند الغروب فتبث الأذان يعقبه دعاء يقرؤه فضيلة الشيخ محمد المحفوظ بن محمد الأمين المرشد الديني للإذاعة رحمه الله (اللهم لك صمت ..... وخير أيامي يوم ألقاك فيه) وما زالت الإذاعة إلى الآن تبث هذا الدعاء كل غروب من رمضان ولعله أقدم فقرة إذاعية ما زالت تبث. بعد دعاء الإفطار يأتي برنامج "أحاديث الإفطار" يقدمه في الغالب الشيخ محمد محفوظ ويتناول إشكالات تتعلق برمضان وصيامه وقيامه، وأظن أن الإذاعة كان لها برنامج ديني آخر في كل ليلة ومثله كل نهار ولها مسلسلات خاصة برمضان تتعلق بالسيرة النبوية أو سير الخلفاء الراشدين. ولم تتوسع الإذاعة في البرامج الدينية الرمضانية إلا مع نهاية الثمانينات وبداية التسعينات حيث صارت لها سهرة دينية مباشرة يتصل فيها المستمعون بالفقهاء والأطباء وصارت تنقل صلاة العشاء وصلاة التراويح وتنقل كل ظهر محاضرة من الجامع المركزي.