انتخابات 2023 الثلاثية: الطريق نحو الرئاسيات- محمد أحمد عبدو (مجدي)

انتهى الشوط الأول من الانتخابات التشريعية والجهوية والبلدية 2023، فيما بدأت ملامح الخريطة السياسية تتشكل في أول انتخابات تشهدها البلاد منذ وصول الرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني إلى السلطة. 

وقبل الخوض في تحليل واستقراء نتائج هذه الانتخابات، لا بد من الإشارة إلى خصوصيتها، ففضلا عن كونها أول انتخابات تجرى منذ استلام ولد الغزواني مقاليد السلطة، فإنها أيضا أول انتخابات تتفق كل القوى السياسية على التحضير لها والمشاركة فيها، خلافا لكل الاستحقاقات التي عرفتها البلاد خلال السنوات الفارطة.

فقبل أشهر دخلت كل القوى السياسية في جولة مفاوضات مع الحكومة أشرفت عليها وزارة الداخلية وانتهت بتوقيع اتفاق تاريخي تمحورت بنوده حول النسبية في الانتخابات الجهوية والبلدية، والنسبية في الانتخابات التشريعية واستحداث اللائحة الوطنية للشباب، ووضعية مدينة نواكشوط، واللجنة الوطنية المستقلة للانتخابات والآجال الانتخابية، والإحصاء الإداري ذي الطابع الانتخابي والمساهمة في تمويل الحملات الانتخابية.
ولا يمكنُ عزل هذا التوافق الذي تحقق بين القوى السياسية عن مسار «التهدئة السياسة» التي انتهجها الرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني منذ بداية تسلمه للسلطة حتى الآن، إذ يبدو أنها كانت خيارا استراتيجيا للرجل ولم يكن صدفة أنه افتتح بها برنامجه الانتخابي خلال الحملة الرئاسية 2019. 

ومما لا شك فيه أن هذه «التهدئة السياسية» جاءت في سياق إقليمي مضطرب، فمنطقة الساحل الأفريقي تعيش حالة غير مسبوقة من الانفلات الأمني، كما أن الحدود الشمالية للبلاد لا تعيش أحسن فتراتها، ناهيك عما خلفته عشرية الرئيس السابق من حالة استقطاب حاد بين مختلف القوى السياسية. 

راهن ولد الغزواني على التهدئة وغلّب سنة الحوار بين الأطراف السياسية، فالتقى بشكل دوري بكل رؤساء الأحزاب تقريبا وخاصة الممثلة منها في البرلمان، كما دعاهم إلى الاحتفالات الوطنية والأنشطة الرسمية، ولم يسجل له طيلة السنوات السابقة أي نقد علني لهم، هذا بالإضافة إلى أن حكومته تجنبت توجيه أي انتقادات واضحة لهم، وارتكز الصراع بين الأغلبية والمعارضة داخل قبة البرلمان. 

انتظر المراقبون بشدة نتائج هذه الانتخابات التي يرى الكثير من الناس أنها اختبار جدي للانتخابات الرئاسية القادمة، كما أنها استفتاء لشعبية ولد الغزواني وقياس شبه رسمي لمدى نجاح برنامجه الانتخابي، فضلا عن كونها اختبارا حقيقيا لحزب الإنصاف (الحاكم) في ثوبه الجديد بعد الإصلاحات التي شهدها مؤخرًا. 

من الواضح أن رئيس الجمهورية محمد ولد الشيخ الغزواني نجح بتفوق في هذا الاختبار، وتجسد ذلك أولا في نأيه بنفسه عن التجاذبات السياسية طيلة الحملة الانتخابية، واكتفائه بتوجيه رسالة عشية انطلاقها دعا فيها الساسة إلى «التنافس بقوة ولكن بشرف»، وفي يوم الاقتراع وبعد إدلائه بصوته الانتخابي دعا إلى «الاستماع إلى الناخبين بعد سماع صوت السياسيين».

فماذا قال الناخبون؟ 
أولاً، نسبة الإقبال كانت كبيرة، فقد بلغت 71,8% وهذا دليل ساطع على اهتمام الموريتانيين بهذه العملية رغم طبيعتها المعقدة نتيجة لتزامن الاقتراعات الثلاثة وتعدد بطاقات التصويت. 
فاز حزب الإنصاف بالمجالس الجهوية الـ 13 وتقدم في 165 بلدية من أصل 238 وحصد 80 مقعدا برلمانيا، وينافس في الشوط الثاني على 34 مقعد، ويبدو الطريق ممهدا أمامه للحصول على أغلبية مريحة داخل الجمعية الوطنية، دون الحاجة إلى تحالفات وحتى من داخل الأغلبية الرئاسية، إذ حصد 80 مقعدا برلمانيا، وينافس في جولة الإعادة على 34. 
كما حقق الحزب نتائج غير مسبوقة في اللوائح الوطنية الثلاثة وكذلك اللوائح النيابية على مستوى ولايات نواكشوط. 
لقد خسر الإنصاف على الصعيد الوطني 73 بلدية من بينها 5 بلديات رئيسية في عواصم ولايات و14 مقاطعة، ولم تحصل المعارضة من بين هذه البلديات إلا على سبع بلديات حسمها حزب التجمع الوطني من أجل الإصلاح والتنمية (تواصل)، فيما تقاسمت أحزاب الأغلبية الرئاسية بقية البلديات بمرشحين رفض حزب الإنصاف ترشيح أغلبهم فترشحوا من هذه الأحزاب في اللحظات الأخيرة من الآجال القانونية للترشح.
حصلت أحزاب الأغلبية الرئاسية -بدون الإنصاف- على 34 مقعدا في البرلمان فيما حصلت أحزاب المعارضة مجتمعة على 24 مقعدا فقط خلال الشوط الأول. 
استطاع حزب الإنصاف في الانتخابات المحلية اقتلاع مراكز تقليدية للمعارضة أبرزها بلدية عرفات، بالإضافة إلى حسمه لجهة نواكشوط التي كان يتوقع أنها ستشهد تنافسا حادا. 

شهدت الحملة الانتخابية تنافساً قوياً بين حزب الإنصاف وأحزاب الأغلبية الأخرى، لكن كل هذه الأحزاب كانت مجمعة على الرئيس وعلى برنامجه الانتخابي، وركز المتابعون على الخلافات بين هذه الأحزاب، فيما بدا خطاب المعارضة خارج دائرة الاهتمام. 

انصبت كل هذه النتائج في صالح الرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني وحكمه دون أن يكون ظاهرا في المشهد الانتخابي في خطوة جريئة منه، فقد راهن بقوة على الناخب الموريتاني دون الضغط للتأثير عليه. 

عوامل النجاح 

التهدئة وتطبيع المشهد السياسي: 
خلال السنوات الماضية وبسبب استراتيجية التهدئة والتشاور، جرد ولد الغزواني المعارضة من سرديتها التقليدية المتمثلة في مظلومية الإقصاء، فحزب تواصل الذي يتزعم المعارضة مثلا خاض آخر انتخابات محلية وبرلمانية سنة 2018 وهو يتعرض لحرب ضروس من النظام تمثلت في إغلاق جمعياته وشيطنته. 

كما أن رئيس حركة إيرا خاض تلك الانتخابات من داخل السجن، وأحزاب المعارضة الأخرى دخلت المعركة الانتخابية وهي غير ممثلة في لجنة الانتخابات وغير مشركة فيها، وقررت المشاركة في اللحظات الأخيرة بعد مقاطعة اقتراع 2013.

أما الانتخابات الحالية فإن كل هذه الأحزاب خاضتها وهي شريكة في الإعداد لها، بل حصلت على تمويل حكومي بغلاف مالي وصل مليار أوقية قديمة وزع بينها بالتساوي. 

حضور المشروع الاجتماعي: 

كان واضحاً خلال السنوات الماضية أن الرئيس يولي أهمية كبرى للجانب الاجتماعي، فقد أطلق في الأشهر الأولى من حكمه المندوبية العامة للتضامن الوطني ومكافحة الإقصاء التي وزعت عشرات مليارات الأوقية على الأسر المتعففة، وحفرت عشرات الآبار، وشيدت مئات المدارس والوحدات السكنية الاجتماعية، ووزعت آلاف التأمينات الصحية.
وفي الوقت الذي كان فيه ساسة نواكشوط يتساءلون عن جدوى التوزيعات، كانت التآزر تتجول في القرى والأرياف.
التقطت وكالات الأنباء الدولية في تغطيتها للاقتراع الثلاثي الذي شهدته البلاد نقطة القوة هذه، فقد كتبت وكالة الأنباء الفرنسية هذه الفقرة «وبعد التباطؤ الاقتصادي بسبب جائحة كوفيد ثم الحرب في أوكرانيا، وضع ولد الغزواني مكافحة الفقر بين أولوياته. وقد نفّذ برنامجًا اجتماعيًا طموحًا تضمن توزيع المواد الغذائية والنقدية على الفئات الأكثر فقرًا».

فعلا لقد راهن الرئيس خلال ما مضى من مأموريته على الفقراء بشكل أكبر، فرغم الظروف الاقتصادية الناجمة عن جائحة كورونا وكذا الحرب الروسية، لم تتخل الدولة عن الفقراء، بل نفذت الحكومة مشاريع اجتماعية بارزة سواء كانت مشاريع صغيرة مدرة للدخل أو تأمينات صحية أو برامج دعم اجتماعية أو دعم للزراعة أو دعم للمتقاعدين وزيادة تعويضاتهم وزيادة رواتب عمال الدولة بل مضاعفتها أحيانا. 

شخص الرئيس: 
هناك عوامل أخرى لهذا النجاح من بينها شخص الرئيس، فقد أظهر خلال السنوات الماضية بأنه رجل لا يخلق العدوات، ولا ينافس رجال الأعمال، ولا يخوض حروبا ضد خصومه، بل أظهر قدرة على احتواء مخالفيه، فظهر رئيسا للجميع، وكان محل ثقة أغلب الفرقاء السياسيين.

كما أنه لم يتورط بملفات فساد تستخدم ضده في الحملات الانتخابية، وأبان عن قدرة على استعداد للنقد الذاتي لحكومته ولإدارته الإقليمية، ولتباطؤ تقدم بعض مشاريع التنمية.

المعارضة.. الفناء والبقاء. 

وجهت الانتخابات التشريعية والمحلية والجهوية درسًا قاسيا للمعارضة التقليدية بعد عقود كانت حاضرة فيها بقوة في المجال التداولي الموريتاني فلم تستطع الأحزاب السياسية الكلاسيكية (التكتل، قوى التقدم، التحالف الشعبي) كسب أي مقعد في الجمعية الوطنية.  

ودفعت هذه الأحزاب ثمن عدم تجديد الخطاب والدماء والهيئات، كما أنها دفعت ثمن عدم تحليل الإخفاقات السياسية التي تعرضت لها خلال الاستحقاقات الماضية، وراهنت على خطابها التقليدي في ظل عالم متسارع. 

لكن هذا التحلل الذي أصاب المعارضة التقليدية استفادت منه أحزاب جديدة، فمن الواضح أن حزب الجبهة الجمهورية للوحدة والديمقراطية (جود) + تحالف أمل موريتانيا يتجه لخلافة هذه الأحزاب، فقد استفاد الحزب من نائبين سبق أن نشطا في أحزاب المعارضة الكلاسيكية (العيد محمدن و كاديتا مالك جالو)، كما أظهرت ترشيحاته للانتخابات وجود عدد من نشطاء الأحزاب التقليدية والحركات السياسية في صفوفه.

استطاع «جود» إدخال رؤوس قوية إلى قبة البرلمان، ثلاثة منهم شكلوا وجها معارضا خلال البرلمان الماضي (العيد، كاديتا، محمد الأمين سيدي مولود) وثلاثة آخرين هم: 

آمادو تيجاني جيوب: المحاسب صاحب الخبرة الطويلة في السياسة الذي كان اليد اليمني لإبراهيم صار قبل أن ينشط في حركة إيرا ويتقلد فيها مناصب كبيرة من بينها نائب الرئيس.

بالا توريه: نشط في حركة ضمير ومقاومة التي ناهضت حكم الرئيس الأسبق معاوية ولد سيد أحمد ولد الطائع، وشغل مناصب قيادية في إيرا قبل أن ينشق عنها في فترة هدنة بيرام والسلطة. 

خليل ديالو: من أبزر نشطاء المجتمع المدني الموريتاني، وصاحب حضور قوي في وسائل التواصل الاجتماعي، اشتهر برئاسته لجمعية «مرجل للتقاسم» الخيرية. 

التحديات: 

كسب رئيس الجمهورية محمد ولد الشيخ الغزواني «فارق توقيت» عن المعارضة خلال هذه الانتخابات، وبدا أن رهاناته كانت ناجحة، لكن المعارضة الموريتانية تحاول الآن استدراج النظام إلى فخ «اللاشرعية» و«التأزيم» عبر ادعائها أن الانتخابات «شهدت تزويرا»!

فهل تنجح المعارضة في إفشال «التهدئة» التي تعتبر من أقوى أوراق الرئيس في إدارة خيوط المشهد السياسي وبالتالي إرباك الساحة السياسية وإعادة ترتيب الأوراق؟ ذلك ما ستجيب عنه مقبلات الأيام.