قراءة_في_كتاب "المعين في علم المقاصد الشرعية"/ الرئيس جميل منصور

"المعين في علم المقاصد الشرعية"

لمؤلفه الأستاذ: محمد الأمين ولد الطالب

قد يكون من المجازفة التأكيد أنني قرأت قراءة فهم واستيعاب كتاب "المعين في علم المقاصد الشرعية" لمؤلفه الأستاذ الشيخ محمد الأمين ولد الطالب، والمجازفة أكبر إذا تصورت أنني سألاحظ عليه أو أستدرك ...

فالكتاب كنز علمي ومعرفي تضمن علما غزيرا وجمعاً واسعا وترتيباً متماسكا كاد يحوي الموضوع من جميع أطرافه ومختلف جوانبه، وليس في الأمر مبالغة ولا زيادة فالذي يقرأ الكتاب سيجد علما غزيرا جمع بين التأصيل في نصوص الوحي والتأسيس على مادة معتبرة من الفقه وأصول الفقه وأمثلة التنزيل وأسرار ذلك وحكمه وعلله، والذي لاحظ على امتداد الكتاب سرد المؤلف لتطور علم المقاصد وتتبعه لمقولات الترمذي والسرخسي والماتريدي والقفال الشاشي وأبي الحسن العامري والجويني والغزالي وابن بشير وابن العربي والآمدي والعز بن عبد السلام والقرافي والزركشي والطوفي وابن دقيق العيد والسبكي والمقري وابن تيمية وابن القيم وابن حزم والشوكاني وسيد عبد الله ولد الحاج ابراهيم.. ثم انتقاله من بعد إلى أبي إسحاق الشاطبي أبرز اسم في تاريخ علم المقاصد، ثم انتقاله بعد ذلك إلى المعاصرين في المرحلة الأولى التي مثلها محمد الطاهر بن عاشور وعلال الفاسي ثم المرحلة الأكثر حداثة ومعاصرة مع د. جمال الدين عطية و د. أحمد الريسوني والشيخ عبد الله بن بيه ود. يوسف القرضاوي وإسماعيل الحسني وغيرهم، الذي يلاحظ كل هذا يدرك كم جمع جمعا واسعا أعطى للكتاب طابعا موسوعيا استوعب أهم ما كتب في هذا الفن، والذي يريد أن يفهم المقاصد سيجد ترتيبا فريدا جميلا انتقل صاحبه من مفهوم المقاصد الشرعية إلى ضوابط الاجتهاد المقاصدي إلى أقسام المقاصد الشرعية إلى مقاصد الشارع في التشريع بأقسامه الأربعة، وإلى مقاصد المكلف في التكليف، إلى الكليات الكبرى إلى المقاصد الأصلية والمقاصد التبعية إلى مسالك المقاصد إلى القواعد المقاصدية.

ومع ما يمكن أن يثيره سؤال تأخر القواعد المقاصدية في الترتيب والقواعد كما المنطلقات تكون في المبتدأ عادة، فإن القواعد هنا بمثابة خلاصات انتهى إليها العقل المقاصدي من جولته بين التأصيل والتأريخ والتنظير؛ فهي القواعد المخرجات المستخلصة.

الكتاب ـ مع ذلك ـ لم يكن كتاب جمع فقط بل أورد صاحبُه آراء واستدرك عليها وجاء باستشهادات لاحظ عليها وعلق على أصحابها ...

كان حضور المؤلف ـ رغم اتساع ما جمع وما رجع إليه ـ واضحا في الاختيارات والخلاصات والاستدراكات ..

لم يسلم قدماءُ الأصوليين وأئمةُ الصنعة الأصولية والأسماءُ البارزةُ في هذا المجال من ملاحظات الشيخ ومآخذه، لم يجد حرجا في القول إن أبا حامد الغزالي تجاوز شيخه أبا المعالي الجويني "يمكن الجزم بتقدمه على شيخه مكانة وشهرة في مسيرة مقاصد الشريعة". ص/ 30.

وفي تعليقه على نجم الدين الطوفي قال متحدثا عن رأيه في المصالح: "وهو موقف مقاصدي مبالغ فيه جرّ إلى صاحبه كثيرا من الطعن واستعدى عليه كثيرا من الخصوم" ص/ 34.

وعن ابن القيم قال: "و بالنظر إلى مبالغة ابن القيم في التقصيد جعلت نتائج ما يقول لا تخلو من تكلف". ص/ 36.

و في الهامش رقم (3) من الصفحة 42 قال الأستاذ محمد الأمين:

"لهذا السبب لم يكن وصف الخضري لكتاب الموافقات بأنه سهل العبارة لا يجد الإنسان معه حاجة إلى غيره (كتاب أصول الفقه) لم يكن حقيقا لا في الوصف الأول ولا في الثاني، إذ أن ما في كتاب الموافقات لا يخلو من تعقيد في العبارة ولا يغني عن غيره من كتب الأصول ولا غيره يغني عنه" ص/ 42.

وفي تعليق المؤلف على كتاب ابن عاشور لا يخفى ملاحظته عليه: "وعلى كل فإن كتاب مقاصد الشريعة الاسلامية يأتي في مقدمة المؤلفات المقاصدية المعاصرة، ولا يُعَكّر صفوَ تبوّئِه هذه المكانة عدم إحكام منهجه وقلة سلاسة تعبيره، وضعف استقرائه للأحكام الشرعية" ص/ 42.

وفي تعليقه على موقف الجويني من تقديم الكلي على الجزئي واعتباره ترك القياس الجلي للقاعدة الكلية من مظاهر ذلك يقول المؤلف: "وهذا النوع ضرب من ضروب الاستحسان شاء ذلك الجويني أم أبى" ص 98.

ويقول أيضاً: "وبهذا التفريق يكون ابن القيم في فصل خطابه هذا لم يضف جديدا يُذكر". ص/ 151 معلقا بذلك على رأيه في تمحض المصالح.

وفي استدراكه على موقف ابن رشد الحفيد من الفلسفة يؤكد الأستاذ محمد الأمين: "وفيه زج بالدين في متاهات بعيدة تطرح من الأسئلة أكثر مما تعطي من الأجوبة، ناهيك عما فيه من مغايرة لمقتضى كمال الدين". ص/ 199

وحتى عن الشاطبي يقول الأستاذ محمد الأمين أثناء نقاشه لقبول النيابة في الحج والصوم: "وقد عرض الشاطبي ـ رحمه الله ـ أجوبة على هذا السؤال وهي لا تخلو من تكلف". ص/ 231.

وفي استدراكه على المقري عند قوله (أجمعت الشرائع على تحريم الكليات الخمس: العقول والدماء والأنساب والأعراض والأموال، وزاد بعضهم الأديان)، قال المؤلف:

"ولا يخفى ما في هذا الكلام من بُعد عن الصواب، حيث لم يسلك ذلك المنهج الشاذ المقدم للكليات الأربع على الدين فحسب، وإنما أدخل حفظ الدين ضمن المختلف فيه الذي يطبقه بعض الأصوليين دون بعض". ص/ 282.

وفي نقد منهجي للشوكاني أورد المؤلف: "ونقل الشوكاني في الإرشاد هذا لكلام بلفظه دون عزو على عادته في ذلك". ص/ 286.

ثم جمع معه الزركشي: "وفي هذا الاستدلال الذي ذكره وتبعه الشوكاني فيه ضعف". ص/ 286.

ثم يعود الشيخ محمد الأمين للشاطبي أثناء الحديث عن مسالك المقاصد: "رغم كون الشاطبي يعد ـ حسب علمنا ـ أول من اعتنى بالحديث عن مسالك المقاصد، إلا أن ما ذكر من المسالك فيه ما يقال". ص/ 332.

ولأن المؤلف استدرك ولاحظ على كل هؤلاء من الأسماء المعروفة في تاريخ النظر الأصولي فإنه كان أقوى وأشد مع المعاصرين بمرحلتيهم المشار إليهما آنفا .. بل إن حساسية ـ حتى لا أصف بوصف آخر ـ تظهر أثناء مناقشة الشيخ للأصوليين والمقاصديين المعاصرين، ظهر ذلك مع أغلبهم وأبرزهم وكانت خلاصته في نهاية الكتاب تعبر عن مقارنة فيها بعض المبالغة، قال وهو يتحدث عن القواعد المقاصدية المستخرجة: "أوردنا فيه من القواعد المقاصدية عددا غير يسير تم استخراجه من مصادر هذه المادة ومراجعها قديما وهو الأوفر والأعمق والأكثر عطاء، وحديثها وهو الأسهل والأقرب والأقل غناء".

مع كل هذا فإن الأستاذ محمد الأمين قد حفظ للمتقدمين مكانتهم ومنزلتهم وسابقيتهم واعترف لعدد من المعاصرين بإضافاتهم وإبداعاتهم، ولكنه العقل النقدي الذي يستلزمه ويشجعه علم المقاصد الشرعية.

• قراءة الكتاب تتحول مع الوقت والانتقال بين صفحاته من مسؤولية المناقشة المقررة إلى متعة علمية تنساب مع فقرات كتاب يستحق أن يكون في مقدمة عناوين التأليف المعاصر في علم المقاصد الشرعية.

• لم يكن غريبا أن يعتمد الشيخ محمد الأمين على الإمام الشاطبي أكثر من غيره وعلى كتابه "الموافقات" على وجه الخصوص و قد صرح بذلك، و لن يطالبه أحد ممن له إلمام بهذا الفن بتبرير ذلك وتسويغه.

وعل نحو يؤكد استيعابه للشاطبي و موافقاته ومقاصده يقول المؤلف: "أما الشاطبي فقد خصص قسما كبيرا من أقسام كتابه الخمسة لمقاصد الشريعة، يوجد بالجزء الثاني من كتاب الموافقات في طبعاته المتداولة اليوم، وكتب ما كتبه في بقية الكتاب، وفي كتاب الاعتصام أيضا، وعينه على مقاصد الشريعة الإسلامية، من هناك يمكن القول إن الشاطبي كتب جزءاً من موافقاته في المقاصد، وكتب بقية الأجزاء بالمقاصد". ص/ 37.

ويواصل المؤلف في وصف الشاطبي وخصوصيته في هذا الميدان مستعينا هذه المرة بالشيخ عبد الله دراز:

” هكذا بدا جليا ما حبا اللهُ به الشاطبي في علم أصول الفقه عموما ومقاصد الشرع خصوصا، و لم أعثر على وصف لعمل الشاطبي في الموافقات أبلغ وأدق من ذلك الذي وصفه به عبد الله دراز من "أنك تشعر وأنت تقرأ في الكتاب كأنك تراه وقد تسنم ذروة طود شامخ يشرف منه على موارد الشريعة ومصادرها، يحيط بمسالكها، و يبصر بشعابها، فيصف عن حس، ويبني قواعده عن خبرة “. ص/ 44.

• وبِحَذر الفقيه ونفس الداعية الخائف من التوسع الزائد، وبعد التقدم في البحث في المقاصد الشرعية يذكر الأستاذ بقاعدة جليلة:

"وهكذا فإن الأخذ بمقاصد الشريعة دون ضوابط تضبطه و قواعد تحكم مسالكه يشكل منزلقا خطيرا ومنزعا آئلا إلى محاصرة نصوص الشرع و قواعده و تعطيل أحكامه بحجة مراعاة المقاصد الشرعية". ص/ 77.

ويستنصر المؤلف هنا بالنابغة في نقد ظاهرة الاستعجال والخفة التي تجعل البعض متصدرا دون الأخذ بأسباب ذلك وبضاعته:

فصارَ كلّ واحدٍ مجتهداً * لعَجْزِهِ عن كونه مُقلِّدا

• وفي تتبعه لجوانب الإبداع و التميز عند أبي إسحاق الشاطبي يتوقف المؤلف عند ربطه الاجتهاد بالمقاصد،

و يورد كلامه المعروف هنا: "إنما تحصل درجة الاجتهاد لمن اتصف بوصفين: أحدهما فهم مقاصد الشريعة على كمالها، والثاني التمكن من الاستنباط بناء على فهمه فيها"، ويعلق الأستاذ محمد الأمين:

"وتبوأ المقاصد هذه المكانة في فكر الشاطبي يجعله مبدعا مجددا في هذا المجال بلا منازع".

وبعد نقاش مستفيض لإضافة بعض العلماء للعرض ضمن الضروري في إطار التقسيم المستقر للمقاصد من ضروري إلى حاجي إلى تحسيني، والتوقف عند إشكالية المفهوم وأنها تكاد تكون رافعة للخلاف عند تحديدها وضبطها يلخص الشيخ محمد الأمين: "وبتحرير موضع النزاع وإدراك مفهوم العرض لغة واصطلاحا يصح كون العرض ضروريا وحاجيا بل تحسينيا أيضا لكن باعتبارات مختلفة كما سلف، وهذا المسلك يترجح بمنطقيته كما رأيت، وبكونه يأتي جامعا بين اتجاهين، والجمع أولى من الإهمال".

وتكاد تكون هذه المقاربة المهتمة بتحديد المفاهيم حاكمة عند الأستاذ محمد الأمين فها هو ـ عند نقاش ما اعتبره شيخ الإسلام ابن تيمية ومعاصرون مقاصد شرعية كالعدل والحرية والمساواة (ابن تيمية تناول العدل فقط) ـ يعود إلى سؤال المفهوم و في فقرة محكمة بين نقاشه للعدل من ناحية و الحرية من ناحية أخرى يقرر المؤلف:

"وهذا أمر بدهي، لكن اقتضى التنبيه عليه عدم عناية كثير من الباحثين بتحرير المفاهيم قبل الحكم عليها، فيبقى الأمر ملتبسا قد يختلف الناس بشأنه، وخلافهم في الحقيقة خلاف مركب يرجع في جانب منه إلى عدم اتخاذ التصور، و في جانبه الآخر في الحكم على حقائق مختلفة، مما يتعذر معه الحسم في مثل هذه القضايا، إذ الخلاف فيها ليس خلافا علميا راجعا إلى معنى "التباين بعد التوارد" الذي هو حقيقة الخلاف كما يقول الغزالي فما لا توارد فيه على محل واحد لا يعتبر التباين بشأنه خلافا". ص/ 296.

ويتحفنا الأستاذ محمد الأمين ـ وهو يناقش اعتبار الحرية مقصدا ـ بقوله: "وينبه الفاسي هنا إلى نكتة بديعة حول موقف الإسلام من الرق وكونه قاصدا إلى التخلص منه تدريجيا، يقول رحمه الله: (أول ما عمله في هذا الباب أن القرآن لم يتحدث عن ملك اليمين إلا بصيغة الماضي، الأمر الذي يدل على عدم إرادة القرآن وقوع استرقاق في الحاضر أو المستقبل". ص/ 297.

ويؤكد المؤلف ـ في أسلوب جديد على بعض المتخصصين في العلوم الشرعية ـ فيقول: "ولعل مرد تكييف إمام المقاصد درجة مقصد الحرية هو النظر إلى كون العتق من مكارم الأخلاق و محاسن العادات، فهو بهذا الاعتبار تحسيني لكن النظر إلى ما تسلبه العبودية من المرء وما فيها من ضيق وحرج ومشقة في غالب حالها وما تمنحه الحرية من استقلال القرار، و كمال الأهلية، ونفوذ التصرف، و حرية الاختيار، وتقليل الالتزامات يقتضي اعتبارها مقصدا حاجيا إن لم يكن ضروريا، واحتمال ضروريتها تسوغه ظروف العصر وضرورات المرحلة". ص/ 298.

وفي تفريق بين الحرية مفهوما إيجابيا واتباع الهوى سلوكا منفلتا يستعين المؤلف بمقولة الشاطبي الدقيقة:

” المقصد الشرعي من وضع الشريعة إخراج المكلف من داعية هواه حتى يكونَ عبداً لله اختيارا، كما هو عبد الله اضطرارا “ ص/ 300.

ودائما في نقاشه للأطروحات الجديدة و بالذات عند الحديث عن مقصد المساواة يفرق بين الداخل في حدود الشرع والخارج عليها أو غير الملتزم بها فيورد مساواة الرجل و المرأة في حق و واجب التعلم، ويستعين بالإمام القرافي: "ومنه أيضا المساواة بين الرجل و المرأة في حق وواجب التعلم، وهنا ينبه القرافي إلى خطإ القول بأن العلم غير مطلوب من المرأة لافتاً الانتباه إلى أنّ مرد هذا القول هو أن التقصير عن رتبة العلم ظهر في النساء أكثر و هذا لا يبعث على القول بعدم طلب العلم منهن فهو واقع زمان لا حكم شرع". ص/ 303.

وبنفسٍ واقعي يتخذ من الإمكان مقاربةً أو قاعدةً خصوصا في مسائل التنزيل يورد الأستاذ محمد الأمين:

"ويَنسب القرافي لابن أبي زيد القيرواني قولَه: (إذا لم نجد في جهة إلا غيرَ العدول أقمنا أصلحَهم وأقلهم فجورا للشهادة عليهم، ويلزم مثل ذلك في القضاء وغيره لئلا تضيع المصالح). وقد استحسن القرافي هذا الموقف المقاصدي قائلاً: (وما أظنه يخالفه أحد في هذا فإن التكليف مشروط بالإمكان". ص/328.

ولعل موضوع "الإمكان" هذا قد أخذ اهتمام باحثين معاصرين بل وكتب الباحث المميز ماهر بن محمد القرشي كتابه "الإسلام الممكن" دراسة تأصيلية في فقه المسافة بين فهم النص وتطبيقه.

• وفي نقاشه لطرق المقاصد تناول المؤلف أربعة مذاهب:

1: مذهب لا مقصد إلا بنص، 2: ومذهب لا مقصد من الظاهر بل المقصد أمر يُستنتج من وراء الأدلة، 3: ومذهب لزوم أن تشهد المعاني المستنبطة لظواهر النصوص، 4: ومذهبٌ يعتبر الأمرين على وجه لا يُخِلُ فيه المعنى بالنص ولا النص بالمعنى ... وينتهى قائلاً: "وهذا المذهب هو الذي أمه أكثر العلماء الراسخين فعليه الاعتماد في الضابط الذي به يعرف مقصد الشارع". ص/332

ورحم الله الدكتور حسن الترابي وهو من المهتمين بالأصول والمقاصد رغم تخصصه القانوني وانشغاله السياسي حين اعتبر أن الأمر من أعسر قضايا الفقه في الدين، قال رحمه الله:

”ومِن أعسرِ قضايا فقه الدين إدراك ما هو مقصود بغايته وصورته أيضا ـ بالنية والشكل معا ـ من مظاهر التدين التي جاء بها النموذج الشرعي عهد نزول القرآن وحياة الرسول صلّى الله عليه وسلّم، و ما جاءت فيه الصورة عرضا غير مشروطة بذاتها على التأبيد بل لكونها وسيلة التعبير المتاحة في تلك البيئة الأولى عن مقصود الشرع".

• وعند حديثه عن سكوت الشارع ومعالجة الاجتهاد لذلك، يورد المؤلف تعريفا دقيقا للبدعة نسبه للشيخ عبد الله ولد الإمام في الهامش الثاني (ص 344) وهو أنها "ما تركه النبيّ صلّى الله عليه وسلّم مع قيام سببه".

• وفي عمل متكامل في نهاية الكتاب قبل خاتمته يعطينا الأستاذ محمد الأمين إحصاء للقواعد المقاصدية أوصلها بموجبه إلى 139 قاعدة مقاصدية نسَب كلا منها لقائلها ومرجعِها وعلق عليها من بعد:

"ونظرا إلى أن القواعد الجامعة في أي علم من العلوم هي ـ كما يقول أحمد الريسوني ـ (الركائز التي يقوم عليه وينضبط بها وفي إطارها تنتظم جزئياته وتنمو نظرياته) ختمنا مباحث هذا الكتاب بها".

• الكتاب إضافة للمكتبتين (المكتبة الشرعية ـ وخصوصا الأصولية منها ـ والمكتبة الوطنية وخصوصا الدراسات الشرعية فيها) لا يغني عنه غيره ..

فهو إضافة من حيث الجمع والبحث والترتيب والمقارنة، وهو إضافةٌ من حيث التحليل والمناقشة والاستدراك. نحن مع كتاب "المعين في علم المقاصد الشرعية" أمام عمل علمي بامتياز، لنا أن نفخر به والراجح عندي ـ والعلم عند الله ـ أن هذا الحكم وهذا التقدير سيكون عند كبار المهتمين بهذا المجال إن هم رَأوه. سواء في ذلك الشيخ العلامة يوسف القرضاوي والشيخ العلامة عبد الله بن بيه وهم من كبار علماء الأمة المهتمين بعلم الأصول وفن المقاصد، وسواء في ذلك د. أحمد الريسوني مقاصدي هذا العصر وغيره من الدكاترة والباحثين.

ولأن المؤلف أورد في آخر كتابه خلاصة قال فيها: "وقد تكون فرصة إعادة طبع الكتاب ـ بعد طبعته الأولى المرجوة قريبا ـ مناسبة تتجدد لمراجعة بعض ما فيه استدراكا لنقص أو حذفا لمذكور أو تصحيحا لخطإ أو توضيحا لمشكل أو إعادة لترتيب، ولله درّ أستاذ البلغاء عبد الرحيم البيساني حينما قال:

” إني رأيت أنه لا يكتب إنسان من كتاب في يوم إلا قال في غده لو غُيّر هذا لكان أحسن، ولو زيد هذا لكان يُستحسن، ولو قدم هذا لكان أفضل، ولو ترك هذا لكان أجمل، وهذا من أعظم العبر وهو دليل على استيلاء النقص على جملة البشر“. ". ص/ 368.

لأن المؤلف أورد هذا كتشجيع على إيراد بعض الملاحظات لا هي من جنس التصحيح والتصويب لأنني لست لذلك بأهل، خصوصا في حق مؤلَّف كالمعين ومؤلِّف كالشيخ محمد الأمين ولد الطالب، ولكنها من جنس المساءلة والمناقشة والاستدراك التي يشجع عليها الأستاذ ويطلبها ..

* لعل أولى الملاحظات شكلية وتتعلق بالهوامش والمراجع، فقد درجت العادة العلمية و المنهجية أن المرجع عند أول ذكر له يُذكر مكتمل الأوصاف والخصائص اسماً ومؤلفا وطابعا وتاريخ طبع، وقد اضطرد خلاف ذلك في معظم المراجع أو كلها فلا يذكر الطابع ولا التاريخ، ومع أن المؤلف في الختام ذكر المصادر والمراجع مكتملة الأوصاف غالبا مستدركا بذلك، فإنه حتى في هذه الحالة بقيت نواقص تاريخ الطبع في 27 مرجعا من أصل 128.

* في التحقيق التاريخي لتطور فقه المقاصد واعتبارها ـ وبعد مرحلة سلطان العلماء العزّ بن عبد السلام ـ ذكر المؤلف تلميذه شهاب الدين القرافي صاحب "الفروق" وأعطاه بعض حقه ولكنه لم يُشر إلى مؤلف متميز للقرافي استلهم فيه معاني شيخه في الحديث عن المصالح والتفريق بين الديني والدنيوي منها ـ وذلك من فضاءات المجال المقاصدي ـ وهو كتاب "الإحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام وتصرفات القاضي والإمام" والذي اعتنى به وأخرجه في طبعة مناسبة د. عبد الفتاح أبو غده رحمه الله تعالى.

* ولم يكن مناسبا ـ فيما أرى الحديث المقتضب عن شيخ الإسلام ابن تيمية وهو من هو في استحضار المقاصد واعتبارها وقد أحسن باحثان معاصران حين كتب أحدهما وهو د. يوسف القرضاوي عن "مقاصد الشريعة عند ابن تيمية".

* أما الملاحظة الأبرز على التحقيب التاريخي فتتعلق بما أورده المؤلف عن الأصولي الحنبلي المعروف نجم الدين الطوفي حين قال عنه:

"ومبالغته الشديدة في إعمال المصالح حتى حكم بتقديمها على النص وذلك في شرحه للأربعين النووية عند قوله صلى الله عليه وسلّم: ”لا ضَررَ و لا ضِرار“ وهو موقف مقاصدي مبالغ فيه". ص/ 34.

والمدققون في كلام الطوفي لا يسلمون بهذا الحكم الذي استسهله كثيرون، و لعل نجم الدين الطوفي يعطي لهؤلاء المدققين بعض الحق؛ يقول في التعيين في شرح الأربعين:

”من المحال أن يراعي الله عزّ وجلّ مصلحة خلقه في مبدئهم و معادهم و معاشهم، ثم يهمل مصلحتهم في الأحكام الشرعية، إذ هي أهم وكانت بالمراعاة أولى، ولأنها أيضا من مصلحة معاشهم إذ بها صيانة أموالهم ودمائهم وأعرضهم ولا معاش بدونها، فوجب القول إنه رعاها لهم وإذا ثبتت رعايته إياها لم يجُز إهمالها بوجه من الوجوه، فإن وافقها النص والإجماع وغيرهما من أدلة الشرع فلا كلام، وإن خالفها دليل شرعي وفق بينه وبينها بما ذكرناه من تخصيصه بها وتقديمها بطريق البيان .“

وهو هنا يجمع عند إمكان الجمع ويخصص بالمصلحة ويفسر النص الشرعي وهذا ليس صريح تقديم المصلحة على النص.

* مع أن الموضوع موضوع علمي و شرعي عام (أي موضوع الكتاب) ولا وجه فيه للخصوصيات المحلية إلا أنه ـ مع ذلك ـ والمؤلف موريتاني ـ كان حريا بالشيخ محمد الأمين أن يورد من التراث الشنقيطي ذي الصلة بالموضوع أكثر مما أورد، فباستثناء وصف أحمد باب التـنبكتي ـ وهو من الفضاء الأوسع من حولنا ـ للشاطبي، والرجوع في مرات إلى العلاّمة الأصولي سيدي عبد الله ولد الحاج ابراهيم وإيراد بيت للنابغة وإحالة لمؤلَّف مرقون للأستاذ نفسه، باستثناء هذه الحالات لم ترد إحالة إلى مؤلَّف أصولي شنقيطي و لا إلى مؤلف تناول الموضوع في سياق غيره.

* كان حضور التراث الواسع للعلاّمة د. يوسف القرضاوي ضعيفا في عموم الكتاب رغم تعينه في محطتين بارزتين الأولى في الصفحات 81، 82، 83 عند الحديث عن المدارس الثلاث (المبالغة في إهمال الظاهر، والمبالغة في إهمال المقصد، والمتوسطة بين الاثنين). والثانية بدءً من ص/ 213 عند الحديث عن وسطية أحكام الشريعة.

* لقد عاد المؤلف إلى عدد من المصادر المعتبرة و رجع إلى عدد من المراجع المتنوعة و لكنه فاته مع ذلك ـ خصوصا في الدراسات المعاصرة ـ بعض من المراجع تصنف أساسا في مجال المقاصد ولعل من أهمها:

كتابي د. جاسر عودة:

 فقه المقاصد،

 مقاصد الشريعة كفلسفة للتشريع الإسلامي: رؤية منظومية.

كتابي د. عبد المجيد النجار:

 فقه التدين فهما وتنزيلا،

 مقاصد الشريعة بأبعاد جديدة.

كتاب د. يوسف القرضاوي: (دراسة في فقه مقاصد الشريعة)؛

كتاب د. عبد الله الزبير: (فقه المقاصد)؛

كتاب (التجديد الأصولي) وهو إعداد جماعي بإشراف د. أحمد الريسوني.

* من المسائل الملاحظة على الشيخ محمد الأمين حسمه في إمكان الاستفادة من المنطق وعلم الكلام ومن باب أولى الفلسفة في النظر الأصولي والمقاصدي باعتبار ذلك خلاف قصد الشارع.

ولعله من المناسب هنا الإشارة إلى أنه تاريخيا تداخل علم الكلام مع علم الأصول وكان ذلك محدودا مع رؤوس المعتزلة وخصوصا الجبائي الأب و الجبائي الابن (أبو علي و أبو هاشم) ثم تعزز مع أبي الحسن الأشعري وأبي الهذيل العلاف وإبراهيم النظام.

أما المرحلة الثانية من هذا التداخل فكانت مع القاضي عبد الجبار والقاضي الباقلاني، وقد وصف بدر الدين الزركشي ذلك في البحر المحيط حين قال:

” جاء القاضيان قاضي السنة أبو بكر الطيب وقاضي المعتزلة عبد الجبار، فوسعا العبارات وفكّا الإشارات وبيّنا الإجمال، ورفَعا الإشكال واقتفى الناس بآثارهما وساروا على لاحب نارهم، فحرّروا وقرّروا وصوّروا “.

وقد تابع هذا المنهج كل من ابن فورك و الاسفراييني و الجويني و الغزالي ...

هذا من ناحية التأريخ، أما من ناحية الموضوع فمعروفة هي فائدة الاستفادة من العلوم الأخرى ذات الطابع المنطقي والتأويلي، فالعقل الأصولي بطبعه عقل منطقي ويستفيد ـ منضبطا في ذلك بالثوابت ـ من كل ما من شأنه زيادة أدوات المقارنة والتأويل والاستدراك.

ولعل اعتماد المؤلف للخلاصة المتحفظة على المنطق وعلم الكلام حرم الكتاب من تناول إضافات الفرق الأخرى وخصوصا المعتزلة في الموضوع المناقش.

* استغربت حين وصل المؤلف إلى المواقع الأربعة في نقاشه للمساواة وقال عن المانع السياسي: "وهو ذلك المؤثر في سياسة الأمة وقد يكون دائما كما في إمامة قريش خاصة أو غير دائم كما في التفريق بين دار أبي سفيان وغيره في حديث ”من دخل دار أبي سفيان فهو آمن“، ومحل الاستغراب هو التمثيل على الدوام بقرشية الإمام أو الخليفة خصوصا أننا في حديث المقاصد و رحابها ونحن نعلم أن هذا الموضوع أثار قدرا من الجدل والنقاش قديما وحديثا وأن التفسير الذي أعطاه العلاّمة عبد الرحمن بن خلدون كان أكثر انسجاما مع أدلة وقرائن أخرى:

(نقاش السقيفة، موقف عمر من كل من سالم و معاذ بن جبل والأول مولى والثاني أنصاري لا نسب له في قريش).

• إن كتاب "المعين في علم المقاصد الشرعية" مع غيره من المؤلفات الرصينة يفتح آفاقا للبحث والدراسة والتوسع في هذا الموضوع و ما تعلق به ..

لقد آن الأوان أن نعتبر علم المقاصد الشرعية علما بذاته يسمح بذلك بناؤه وحجم المكتوب فيه اليوم، ولعل هذا يفتح الباب أمام ما يمكن أن نسميه علوم المنهجية الإسلامية التي تتكامل لتعطينا نظرية متكاملة تضبط الفهم و تجَود الصياغة و تفتح الأفق أمام أحسن تنزيل على الواقع نعم أعني:

أصول الفقه،

القواعد الفقهية،

علم المقاصد الشرعية.

وقد وفق الأستاذ الشيخ محمد الأمين ولد الطالب حين صدّرَ كتابَه القيم بمقولتين أصيلتين محبوكتين دالتين لكل من أبي المعالي الجويني وأبي إسحاق الشاطبي، حين قال الأول :

”من لم يتفطن لوقوع المقاصد في الأوامر والنواهي فليس على بصيرة في وضع الشريعة“.

وقال الثاني: ”من لم يتفقه في مقاصد الشريعة فهمها على غير وجهها “.

فشكراً للأستاذ الشّيخ محمد الأمين بن أحمد طالب بن الطالب، وهنيئا للباحثين والطلبة والمهتمين فقد وجدوا ـ بفضل الله و عونه ـ معينا في علم بأهمية و مكانة وجوهرية المقاصد الشرعية.

-------------------------------

محمد جميل منصور

#تأصيل_و_تجديد