تتعدد الأسئلة الهامة في مجال التربية ، وتتزايد يومًا بعد يوم في ظل حجم التحديات الهائل الذي يواجهه المربون من إفرازات العولمة والرقمنة والانفتاح ، وتلاقي الثقافات بين الناس ، فضلًا عن تعدد مصادر التوجيه والتثقيف والمعرفة ، والتي لم تعد الأسرة تحتل المكانة الأولى فيها ،في ظل وجود محركات البحث التي تمثل مصباح علاء الدين لجيل أصبحت الرقمنة هوايته ولعبته وتسليته وتواصله .إضافة إلى الأقارب اللصيقين بالأبناء من أعمام وأخوال وأجداد، والذين يؤثرون بدرجات متفاوتة في بناء شخصية الناشئة سلبًا وإيجابًا، قوة وضعفًا.
وتزداد عملية التربية تعقيدًا -اليوم- بعد أن تراجعت مؤسستين تربويتين مؤثرتين في بناء الإنسان بصفة عامة والناشئة بشكل خاص، وهما المدرسة والمسجد،إذ تعاني المدارس اليوم من تراجع حاد بالاهتمام بالجانب التربوي القيمي، سواء على مستوى المنهاج المقدم، الذي في بعضه يصطدم مع هويتنا، أو على مستوى البرامج التربوية المصاحبة للعملية التعليمية، والتي تعد محضنًا تربويًا آمنًا للطلبة ومنفسًا للطاقة الكبيرة التي يتمتع بها الصغار والشباب،حتى أصبحت تلك المدارس معدودة ومحصورة، وحلت في كثير من المدارس أنشطة وبرامج مستوردة من الثقافة الغربية، تؤسس لجيل منسلخ عن هويته، مكتسب لعادات وسلوكيات يصعب تغيرها مع تقادم الزمن، وقد زاد الأمر سوءًا أن فئة المعلمين المربين-حملة الرسالة- هي في تراجع مستمر،حتى أصبحت مقولة : ما أكثر المعلمين وأقل المربين، تصدق على واقعنا بكل أسف.
أما المساجد فحالها لايخفى، فقد اقتصر دورها في العديد من الدول الإسلامية على إقامة الجمعة والجماعات، ومنعت كافة الأنشطة التربوية للناشئة تحت ذرائع متعددة، بعضها-لاشك حقيقي- وغالبها محض تخوفات.
وأمام كل هذا يبقى السؤال الأبرز من وجهة نظري هو كيف نربي ؟ وما هي الوسائل التي يجب أن يتمكن المربي منها حتى يتقن التربية ؟
لعل المكتبات وشبكات الإنترنت ، تعج بالكتب والنصائح والوسائل والألعاب ، التي ربما لا يصل إليها سوى نسبة قليلة من شريحة المربين الواسعة ،مما يتوجب علينا أن نكون عمليين ونحن نحاول أن نسهم في الإجابة على هذا السؤال الهام : كيف نربي ؟ آخذين بعين الاعتبار تفاوت المربين من حيث المكنة المعرفية، والخلفية العلمية،وضبابية المهمة عند نسبة ليست بالقليلة من المربين والمربيات.
إن قناعتي في هذا الموضوع الشائك أن وسيلة التربية الأنجح ، التي لا تحتاج لوسائل ولا لتفريغ أوقات، وتزيل كل الأعذار التي يفرشها المربون بين يديك،كالانشغال في العمل،وتبادل ترحيل المسؤولية بين الأب والأم، والخلط العجيب بين مفهومي التربية والرعاية، هي التربية الموقفية،و نعني بها الخطوات والوسائل والتوجيهات،التي يقوم بها المربي لتقويم السلوك وتعزيزه ، أو تنمية جوانب مضيئة في شخصية المتربي وصولًا للشخصية المتوازنة القوية، كمخرج نهائي لكل عمليات التربية التي يقوم بها الإنسان بدءًا من اختيار الزوجين لبعضهما كشركاء حياة-إذ مشوار التربية يبدأ من هناك- وصولًا إلى سن الرشد للأبناء وتحملهم بناء أسرة جديدة
تقوم هذه التربية على التقاط المربي لمواقف يومية لأبنائه، يقومون بها بشكل تلقائي ، سواء كانت إيجابية كالقراءة ، الصلاة ، الاحترام،التحلي بآداب الطعام، والاستئذان، ودخول الخلاء ….أو سلبية كالسهر، التأخر عن النوم ، إدمان الإنترنت، والإسراف، وسوء اختيار الصحبة ..إلخ
إن هذه المواقف التي تتكرر أمامنا عشرات المرات هي خير وسيلة للتوجيه والتقويم ، سيما وهي تحمل صفة الآنية واللحظية،فهو توجيه مرتبط بسلوك ،لم تفرغ له الأوقات، ولم تعد له الوسائل والأساليب بيد أنها تحتاج إلى مربٍ يقظ ،يجيد المراقبة الإيجابية، مربٍ يتحلى بالصفات الآتية:
- وضوح صعوبة التربية وضرورة الصبر الطويل، وأنه يستثمر بالبشر الذي هو أصعب أنواع الاستثمار.
- امتلاك الشغف وهو يسهم في تجهيز إنسان كلفه رب العزة بمهمة الإعمار في الأرض.
- هدوء الأعصاب والنفس الطويل
- يملك عين النحل فيحول السلوك الطيب إلى عسل يرتوي منه المتربي طوال حياته
- يملك مهارة صانع الفخار فيعيد تشكيل المتربين بسلاسة وصبر ، كلما صدر منهم ما يريب حسن صلة بأبنائه ، تقوم على الرحمة والحب .
أن يمتلك المربي هذه الصفات فإنه بالتوجيه عند كل موقف مهم سيصنع جيلًا سويًا نفسيًا ، واثقًا متوازنًا .