"أهلُ الكتاب" مصطلح أطلقه الله تعالى في كتابه الكريم على اليهود والنصارى، وقد تكرر هذا اللفظ في القرآن الكريم بصيغ شتى، وفي مواضع عديدة، وفي سياقات مختلفة، وسأحاول في هذه السطور أن أتتبع جوانب من ذلك الحديث الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد، في حدود ما يناسب المستوى، ويقتضيه المقام، فأقول وبالله التوفيق:
إن القرآن الكريم فرّق بين أهل الكتاب وبين غيرهم من أصناف الكفار تفريقا يقتضي المغايرة في الأسماء، وقد ورد هذا التفريق في مواضع عديدة، منها قوله تعالى "لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين منفكين حتى تأتيهم البينة"، ومنها قوله تعالى في نفس السورة " إن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين في نار جهنم خالدين فيها"، ومنها قوله تعالى "ما يود الذين كفروا من أهل الكتاب ولا المشركين أن ينزل عليكم من خير من ربكم"، ومنها قوله تعالى "إن الذين ءامنوا والذين هادوا والصابين والنصارى والمجوس والذين أشركوا إن الله يفصل بينهم يوم القيامة". فهذا العطف دليل على المغايرة في الصفات والأسماء وإن اجتمع الجميع في صفة الكفر بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم.
وقد تحدث القرآن عن أهل الكتاب بصيغ مختلفة، كل صيغة منها تأتي في سياق يختلف عن سياق الصيغة الأخرى، وأبرز تلك الصيغ ثلاثة:
الصيغة الأولى صيغة "الذين آتيناهم الكتاب" وهذه تأتي في سياق الثناء عليهم ومدحهم، فمن ذلك قوله تعالى "وكذلك أنزلنا إليك الكتاب فالذين آتيناهم الكتاب يؤمنون به"، وقوله تعالى "الذين آتيناهم الكتاب يتلونه حق تلاوته أولئك يؤمنون به"، وقوله تعالى "الذين آتيناهم الكتاب من قبله هم به يؤمنون وإذا يتلى عليهم قالوا آمنا به إنه الحق من ربنا"...
الصيغة الثانية صيغة "الذين أُوتوا الكتاب" التي جاءت مصدرة بفعل مبني للمجهول، وهذه قد تأتي في سياق الثناء عليهم، ولكنها لا تأتي في الغالب إلا في سياق ذمهم، ومن أمثلة مجيئها في سياق المدح قوله تعالى "ولقد وصينا الذين أوتوا الكتاب من قبلكم وإياكم أن اتقوا الله"، وقوله تعالى "وإن الذين أوتوا الكتاب ليعلمون أنه الحق من ربهم".
ومن أمثلة مجيئها في سياق الذم -وهو كثير- قوله تعالى "ولئن أتيت الذين أُوتوا الكتاب بكل آية ما تبعوا قبلتك"، وقوله تعالى "وما اختلف الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم"، وقوله تعالى "وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه فنبذوه وراء ظهورهم واشتروا به ثمنا قليلا"...
الصيغة الثالثة صيغة "الذين أُوتوا نصيبا من الكتاب" وهذه لم ترد إلا في سياق الذم، ومن أمثلة ذلك قوله تعالى "ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يشترون الضلالة ويريدون أن تضلوا السبيل"، وقوله تعالى "ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت ويقول للذين كفروا هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلا أولئك الذين لعنهم الله"...
وقد خاطب الله تعالى أهل الكتاب بهذا الاسم، وناداهم به نداءات كثيرة في القرآن الكريم، فتارة يناديهم ب "يا أهل الكتاب" وهذه هي الصيغة الأغلب استعمالا والأكثر ورودا، مثل قوله تعالى "يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم كثيرا مما كنتم تخفون من الكتاب"...
وأحيانا يأمر النبي صلى الله عليه وسلم بأن يناديهم بهذا الاسم، وقد تكرر ذلك في ستة مواضع من القرآن الكريم، ثلاثة منها في سورة آل عمران، وثلاث في سورة المائدة، فمن ذلك قوله تعالى "قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم" وقوله تعالى "قل يا أهل الكتاب لستم على شيء حتى تقيم التوراة والإنجيل وما أنزل إليكم من ربكم"...
وقد تأتي صيغة النداء بهذه الصيغة التي وردت في سورة النساء "يا أيها الذين أوتوا الكتاب آمنوا بما نزلنا مصدقا لما معكم..."
وقد أمر الله تعالى بمحاورة أهل الكتاب ومجادلتهم بالتي هي أحسن، وتذكيرهم بالقدر المشترك بيننا وبينهم، فقال تعالى "ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا منهم وقولوا آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم وإلهنا وإلهكم واحد ونحن له مسلمون"، وقال تعالى "قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله"، وأثنى القرآن على المؤمنين منهم بقوله تعالى "من أهل الكتاب أمة قائمة يتلون آيات الله آناء الليل وهم يسجدون يؤمنون بالله واليوم الآخر ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويسارعون في الخيرات وأولئك من الصالحين"، وبين أن من آمن منهم بالنبي صلى الله عليه وسلم سيؤتى أجره مرتين، فقال تعالى "الذين آتيناهم الكتاب من قبله هم به يؤمنون وإذا يتلى عليهم قالوا آمنا به إنه الحق من ربنا إنا كنا من قبله مسلمين أولئك يؤتون أجرهم مرتين بما صبروا..".
وقد أباح لنا القرآن أكل طعامهم والزواج بنسائهم، فقال تعالى "أحل لكم الطيبات وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم وطعامكم حل لهم والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم إذا آتيتموهن أجورهن محصنين غير مسافحين ولا متخذي أخدان".
ومن يتدبر آي القرآن يدرك أنه فرّق في الحديث عن أهل الكتاب بين اليهود والنصارى، فقد كان حديثه عن اليهود أكثر كَمًّا، وأشد قسوة، وأوسع بيانا وإيضاحا لصفاتهم من حديثه عن النصارى، ولذلك فقد أخذ الحديثُ عن بني إسرائيل نصيبا كبيرا من سورة البقرة أطولِ سورة في القرآن الكريم، والتي تحدث الله فيها عن تحريفهم لكلام الله، وتكذيبهم لفريق من الأنبياء وقتْلهم للفريق الآخر، وتحدّث عن سوء أدبهم مع الله، "وإذ قلتم يا موسى لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة" وذكر الله بعضا من سوء أدبهم في مواضع أخرى، فقال تعالى "لقد سمع الله قول الذين قالوا إن الله فقير ونحن أغنياء" وقال "وقالت اليهود يد الله مغلولة غُلّت أيديهم ولعنوا بما قالوا" وبين القرآن كذبهم على الله وتحريفهم لكلامه وأحكامه....
كما بين لنا القرآن أن القسوة والشدة من صفات اليهود، فقال تعالى "ثم قست قلوبكم من بعد ذلك فهي كالحجارة أو أشد قسوة"، وقال تعالى "فبما نقضهم ميثاقهم لعناهم وجعلنا قلوبهم قاسية" وهذه القسوة تقابلها رأفة ورحمة في قلوب النصارى، ولذلك قال سبحانه وتعالى عن النصارى "وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق" وقال تعالى حكاية عن عيسى بن مريم "وجعلنا في قلوب الذين اتبعوه رأفة ورحمة".
وبين القرآن أن النصارى أقرب مودة للمسلمين من اليهود، فقال تعالى" لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى"
ومع أن الفرق واضح في الأوصاف والنعوت وسعة الحديث بين اليهود والنصارى إلا أن الطائفتين اشتركتا في أمور: منها الكفر والشرك بالله، كما قال سبحانه وتعالى "وقالت اليهود عزير ابن الله وقالت النصارى المسيح ابن الله ذلك قولهم بأفواههم يضاهون قول الذين كفروا من قبل قاتلهم الله أنى يؤفكون" وكما قال عن اليهود "وبكفرهم وقولهم على مريم بهتانا عظيما"، وقال عن النصارى "لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم".
ومنها اشتراكهما في عدم الرضى عن المسلمين ما داموا لم يتركوا ملة أبيهم إبراهيم، كما قال سبحانه وتعالى "ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم".
ومنها اشتراكهما في الجزاء والمصير، كما قال سبحانه وتعالى "إن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين في نار جهنم خالدين فيها أولئك هم شر البريئة".
لذلك فإن هذا الحديث كان له تأثير في الأسماء والأوصاف، وفي المحاورة والمجادلة، وفي بعض الأحكام...
ولكن لم يكن له تأثير في جزاء ومصير من مات من أهل الكتاب على ملته، حيث سوّى القرآن بينه وبين غيره من الكفار والمشركين في الجزاء والمصير، الذي هو الخلود في نار جهنم، عائذا بالله...
ولا ريب في أن حديث القرآن الكريم عن أهل الكتاب حديث عريض مستفيض، وهذا ما سمح المقام به من استقراء وتتبُّع ذلك الحديث...