من مدرسة الروم ..إلى المدرسة الجمهورية التعليم في موريتانيا ..رحلة قرن وربع تحت سطوة الفرنكفونية( الجزء الأول)

مرت لحد الآن أزيد من 110 سنوات،  منذ أن انطلقت في موريتانيا أول محطات النظام التعليمي لتبدأ منافسة غير متوازنة بين التعليم المحظري الضارب في أعماق الهوية والتاريخ الموريتاني وبين "المدرسة " التي تمثل الرسول الحضاري للاستعمار الفرنسي، وكتاب الحداثة الذي يسعى به الفرنسيون إلى تنوير "الشعوب المتوحشة"

وقد بدأ مسار التعليم العصري باكرا، منذ العشرية الأخيرة من القرن التاسع عشر، ويؤكد الدكتور سيدي أحمد ولد الأمير أن أول تعليم نظامي موجه لموريتانيا بدأ في مدينة اندر السنغالية من خلال مدرسة الرهائن "Ecole des Otages" ومن بين طلابها الموريتانيين المشهورين المترجمان: أخيارهم بن المختار بن سيدي بن عبد الوهاب السباعي الدميسي (المتوفي 1907) الذي كان أول موريتاني ينال منحة خارجية لتعميق دراسته، وذلك في حدود 1853، إضافة إلى قريبه، محمد سالم بن محمد بن أعمر بن مينحنا، الذي تخرج في حدود 1861م،

- مدرسة أولاد الشيوخ ..صناعة النخبة

أنشأ الحاكم الفرنسي لغرب إفريقيا مدرسة أبناء الشيوخ والمترجمين، لتؤهل نخبة جديدة من التلاميذ والشباب الذين سيتولون مهام الترجمة والعون الإداري للقوة الاحتلالية، وفي حدود 1895م، تخرج من هذه المدرسة مترجمان موريتانيان هما أحمد ولد الكوري من مدينة بوتلميت، وانجاي كان، من مدينة "نتيكان"

ومع العشرية الأولى من القرن العشرين، بدأت مدرسة سان لويس" اندر" تستقطب الشباب الموريتانيين، ووصل عددهم حوالي 15 من  بين الطلاب الأفارقة في هذه المدرسة قبل أن يتضاءل العدد إلى 5 طلاب،  مع افتتاح مدرسة أبناء الشيوخ في مدينة بوتلميت، وذلك بعد افتتاح عدة مدارس في مناطق مختلفة من البلاد، وخصوصا في المذرذرة  وبوكي وكيهيدي وأطار وتمبدغة.

كانت مدرسة كيهيدي سنة 1905 أول مدرسة في موريتانيا بدأت بسبعة طلاب، قبل أن تلتحق بها مدرسة بوكي، وخلال العقود الأربعة اللاحقة وصلت المدارس الجهوية إلى 14 مدرسة في مناطق مختلفة من البلاد.

وقد زاوجت الإدارة الفرنسية بين مسارين للمدرسة، حيث أخذ منذ نهاية الربع الأولى من القرن المنصرم في إقامة مدارس شبة مزدوجة يدرس فيها أساتذة فرنسيون وجزائريون ومترجمون موريتانيون، إضافة إلى بعض العلماء الموريتانيين الذين درسوا مواد اللغة العربية والتشريع الإسلامي

وبين العامين 1950-1956 فتحت فرنسا حوالي 22 مدرسة بدوية متنقلة يرافق فيها المدرس- الذي يكون موريتانيا غالبا -الحي وينتجع معهم في رحلتهم طلبا للكلأ.

ومع العام 1957، بدأت السلطات الموريتانية فتح الإعداديات في مناطق مختلفة من البلاد، ومن أشهرها ثانوية "إكزافييه كبلاني"  في روصو، وثانوية كيهيدي، وثانوية أطار 

 

مقاومة المدرسة ..استعصاء ثقافي واجه الفرنسة

 

واجه الموريتانيون المدرسة الفرنسية بكثير من الرفض والتوجس، وحفلت مدونة الإفتاء الموريتاني بكثير من النصوص الرافضة للتمدرس رغم ما بذله الفرنسيون من جهد وما قدموا من تسهيلات وضمانات بأن دين الأطفال المتمدرسين لن يتضرر.

ومن بين النصوص الإفتائية التي تناولت قضية المدرسة قول العالم الشيخ محمدو حامد بن آلا:

والدين مبقاه أن تأتي الصغار به

وحيث لا فإذا لم يبق من دين

والناس إن تركوا دين الصغار رضوا

بالمحو للدين من كل الدواوين

وليس يرضى بمحو الدين غير عم

عن منهج الخير والإحسان مفتون

أما العلامة المفسر أحمدو بن أحمذيه فيحتفي بتراجع الفرنسيين عن فتح مدرسة في أحياء قبيلته: 

الحمد لله على ما نفسه 

من الكروب وسقوط المدرسة

مدرسة الروم عن أبناء الحسن

وقد رآها غيرهم أمرا حسنا

وهم يرونها بعين الأرمد

ليس بها هاد ولا من يهتدي

 

ويذهب الشيخ محمد حبيب الله بن مايابى إلى موقف أوضح وأكثر تصريحا"

ألا أيها الإخوان إن المدارسا

بعهد قديم كان أو كان دارسا

مكيدة أهل الدين للكفر بالدنا

غزوه بها غزوا قد أعيا الفوارسا

وعمت ببلواها ديانتنا التي 

نحج بها ذا الكفر روما وفارسا

ألم تنظروا هل هي من حرث دينكم

للأخرى فلا تألوا عليها منافسا

وهل للدنيا بمحض معيشة

تضرر للأخرى تجر الطنافسا

ففروا ففروا فالتقى خير زادكم

إذا ما نبذتم في سواه الوساوسا

ومن أشهر الفتاوي قول لمرابط محمدسالم بن ألما في حرمة المدرسة الفرنسية:

"لاأعلم أحدا عاقلا يرزقه الله ولدا بعد دعاء ورجاء يرجوا منفعته في الدنيا ودعائه في الآخرة، ثم يسلمه لمدارس النصارى، وقد علم  من حديث المصطفى عليه الصلاة والسلام أنه إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث، منها " ولد صالح يدعو له" ..."

وقد تميزت المجموعة الفلانية بمقاومتها للاستلاب الحضاري لفرنكفوني وكان لعلمائهم الممسكين بالاسلام جولات وصولات في هذا الشأن، ودفعت هذه المجموعة ثمن رفضها للمدرسة الاستعمارية.

الإصلاحات التعليمية ..سير متعثر في أشواك الفرنكفونية

ولم تزل المقاومة تترسخ والموريتانيون يرفضون المدرسة الحديثة، حتى بدأت رياح الاستقلال تهب على البلد ليبدأ بعد ذلك ما عرف لاحقا بمسار الإصلاحات التعليمية وهي على التوالي

– إصلاح 1959 الذي أضاف مساحة أكبر للغة العربية مقارنة مع النظام الفرنسي السابق، ولم تكن هذه التعديلات أكثر من رفع تدريس اللغة العربية إلى 10 ساعات من أصل 30 ساعة مقررة في المرحلة الابتدائية، مع بقاء المرحلة الإعدادية والثانوية مفرنسة بالكامل.

 

– إصلاح 1966: جاء هذا الإصلاح بعد الغضبة الزنجية التي أثارها بيان 19/19 الذي جاء بعد إقرار حزب الشعب في مؤتمر لعيون 1965 التوجه نحو التعريب، وقد قرر هذا الإصلاح السير قدما في التعريب وزيادة توقيت اللغة العربية ولكن بشكل خجول.

– إصلاح 1973: كان أول خطوة وطنية نحو التعريب، حيث رفع حصة المواد المدرسة بالعربية إلى 120 من أصل 180 ساعة أسبوعيا، وقد واكبت دول عربية متعددة هذا الإصلاح بالعون الأكاديمي حيث كان الأساتذة العراقيون والتونسيون والمصريون والسوريون اللبنات الأساسية التي بني عليها هذا الإصلاح.

 

 

– إصلاح 1979: جاء هذا الإصلاح عقب انقلاب 1978، وكان من أهدافه توقيف السجال السياسي في الملف التعليمي، حيث قضى بإنشاء شعبيتن  عربية ومفرنسة، وقد كان التوجه لهاتين الشعبتين عرقيا حيث يتم توجيه أبناء الزنوج إلى الشعبة المزودجة، وأبناء القومية العربية إلى الشعبة العربية.

وكان من نتائج هذا الاصلاح وجود شعبين  في دولة واحدة.

- إصلاح 1999: جاء هذا القانون لينتهي حالة الإزوداجية  حيث اكتفى بشعبة واحدة، لكنه حول تعليم المواد العلمية إلى اللغة الفرنسية وبعد 23 سنة من إقرار هذا القانون كانت النتيجة كارثية، فنشأت أجيال بلا لغة،  فهوت مستويات التعليم في الحضيض.

- القانون التوجيهي: 2022 : هو الطبعة الأخيرة من الإصلاحات وقد أقره البرلمان ويمكن اعتباره أهم خطوة باتجاه التعريب، ويتميز أيضا بشموليته، لكنه اعترف بمحورية الفرنسية في بناء الهوية الموريتانية، وهو ما لا يمثل الحد الأدنى لرضى النخب الفرانكفونية.

 

الهوية الحائرة ..هل تحمي الفرنسية حقوق ا لفرانكفونية

 

ظل سؤال الهوية عبر المدخل اللغوي الإشكال المسافر عبر الإصلاحات المتعددة، ليكون بذلك التعليم الموريتاني مقسما على غير عدالة بين محورين كبيرين هما

- استلهام قيم الإسلام ومرجعيته في توجيه الأهداف التربوية

- التبعية الفكرية واللغوية للنظام التعليمي الفرنسي في أغلب تفاصيله

وأمام هذا التشتت الحضاري وجد الموريتانيون أنفسهم أمام معضلة هوية كبيرة، فجزء من الموريتانيين وخصوصا النخب الفرنكفونية  ترى في اللغة الفرنسية حماية لامتيازاتها السياسية وفرصها الاقتصادية و ميولها الذاتية، وهي أفضال لايراها العالم في الفرنسية، بما في ذلك الفرنسيون الذين يحزنهم واقع لغتهم المأزوم في عقر منشئها الباريسي، خاصة مع اعتراف الحكومة الفرنسية بلغة "لبريتون"  و" كورسيكا".

 ويتأسس هذا الطرح على أبعاد منها:

- تركيز التعليم النظامي الفرنسي وتمدده  ف خلال فترة ما قبل الاستقلال وعشريته الأولى.

- التناغم مع المد الفكري  لفرنكفوني  الذي ساد المنطقة خلال النصف الأخير من القرن المنصرم، كحامل  لقيم الحداثة والليبرالية.

- الربط التعسفي بين المطالب السياسية لبعض الفئات وبين ترسيم الفرنسية

- القيمة التنافسية التي أعطتها الفرنسية لصالح لفرنكفونيين  باعتبارها  لغة لغة النخبة المتنفذة في موريتانيا خلال العقود المنصرمة.

 

- انتشار النفس  القومي  لدى البعض، واعتباره أ، اللغة العربية تخص بعرق أو جهة بدلا من كونها لغة الإسلام ولسان القرآن.

- التوجيه والدعم من  فرنسا و اللوبيات الفرنكفونية محليا ودوليا للغة الفرنسية، باعتبار ها جزء أساسيا من وسائل الضغط التي تستفيد منها فرنسا في التمكين لها في موريتانيا، والعالم المتخلف.

 

وبين هذا وذاك، تبقى الفرنسية العنصر الأكثر إنهاكا للتعليم في موريتانيا، التي يعاني تلاميذها الأمرين من أجل إتقان الفرنسية والعربية على حد سواء، ليعيشوا بذلك مقسمين بين لغة يرونها حمايتهم الخاصة، وأخرى يقدسونها دينيا وترفضوها بعض نخبهم المأدلجة سياسيا.