أولا من الناحية الشرعية اليوم 29 رمضان وواجب على لجنة الأهلة شرعا أن تأمر بالتماس الهلال الليلة، فإذا لم تفعل، وجب على المسلمين ترك الاعتماد عليها والتماس الهلال بأنفسهم، هذا هو الحكم الشرعي الواجب التمسك به من غير التفات إلى علم الفلك لأننا لسنا متعبدين بعلم الفلك بل بالرؤية البصرية، التي لخص العلامة عَبد المقصود شلتوت حكم الأخذ بالحساب الفلكي في مقابلها في ما حاصله ((أن فى الإعتماد على الحساب الفلكى لإثبات دخول الشهر القمرى خطأين جسيمين:
�أولهما : إسقاط العلة الشرعية الموجبة للصوم والإفطار وهى الرؤية البصرية .
�والثانى : إحداث علة للصوم والفطر لم يشرعها الله وهو الحساب الفلكى وإضفاء الححجية عليها .
أما الأول : فقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم " صوموا لرؤيته وأفطروا لؤيته ، فإن غُم عليكم فأقدروا له ثلاثين " وقال صلى الله عليه وآله وسلم : لا تقدموا الشهر حتى تروا الهلال أو تكملوا العدة ، ثم صوموا حتى تروا الهلال أو تكملوا العدة " وقال صلى الله عليه وآله وسلم " إذا رأيتم الهلال فصوموا ، وإذا رأيتموه فأفطروا ، فإن عم عليكم فصوموا ثلاثين يوماً " والأحاديث فى هذا كثيرة ، وهى تدل على أن المعتبر فى ذلك هو رؤية الهلال أو كمال العدة .
�وليس المقصود من هذه الأحاديث أن يرى كل واحد الهلال بنفسه ،وإنما المراد بذلك شهادة البينة العادلة ، فقد صح عن ابن عمر – رضى الله عنهما – قال : " ترءى الناس الهلال ، فأخبرت النبى صلى الله عليه وآله وسلم أنى رأيته ، فصام وأمر الناس بالصيام ".
�وفى الإعتماد على الحساب الفلكى إهدار للعلة الشرعية ، وإسقاط لحجية الرؤية الشرعية والحجية القضائية لحكم المحاكم الشرعية ، وإعتبار لما ألغاه الشرع وهو الحساب الفلكى ، وشذوذ عن إتفاق من يعتد به من أهل العلم وفقهاء المذاهب الذين حُكى عنهم الإجماع على عدم جواز العمل به ". ويترتب عليه عند معارضته مع الرؤية الشرعية :
�1- إعدام صوم أول رمضان إذا كانت المخالفة بدايته .
�2- إعدام فطر يوم العيد إذا كانت المخالفة فى نهايته .وبالتالى : إنتهاك حرمة النص القرآنى : فمن شهد منكم الشهر فليصمه " وحرمة نص السنة الشريفة :" صوموا لرؤيته ، وأفطروا لرؤيته " وإنتهاك حرمة الصوم بمنع الناس من صيام أول رمضان ، وإنتهاك حرمة العيد بمنعهم من إفطار يومه ، مما يؤدى إلى تعطيل أحكام الله ، وإثارة القلاقل والإضطراب ، وزيادة الفرقة والإنقسام بين المسلمين .
وأما بالنسبة للخطأ الثانى : فهو إحداث علة للصوم والفطر لم يشرعها الله سبحانه وهى الحساب الفلكى وإضفاء الحجية عليها ، وبيان ذلك :
أن الله سبحانه وتعالى ربط أحكامه بعلل وأسباب شرعية فإذا وجدت العلة الشرعية وجد حكم الله ، وإذا إنتفت إنتفى حكم الله ، ولا يملك أحد أن يغير هذه العلل ولأ أن يبدلها . وقد ثبت بالكتاب والسنة أن علة وجوب الصوم والفطر هى المشاهدة ورؤية الهلال بصرياً . وليست العلة مجرد وجوده علمياً ، فى السماء من غير رؤية حسية بالعين ، قال تعالى : (فمن شهد منكم الشهر فليصمه ) وقال صلى الله عليه وآله وسلم " صوموا لرؤيته ، وأفطروا لرؤيته " فرتب وجوب الصوم والفطر على رؤية الهلال بالعين ، لا على العلم بوجود الهلال فلكياً دون رؤية بصرية ، فالنبى صلى الله عليه وآله وسلم لم يقل " صوموا لوجود الهلال أو ثبوته " حتى يعم الوجود كلاً من الوجودين الفلكى والبصرى ، بل قال : " صوموا لرؤيته " والرؤية أخص من الوجود ، فقد يوجد الهلال فلكياً ولكن لا يُرى لأسباب كثيرة ، فلا يجب الصوم ، أضف إلى هذا أن الشق الأخير من الحديث يدل دلالة قاطعة على أن وجود الهلال ليس هو العلة ، وإنما العلة هى تحقق الرؤية الحسية الملموسة ، وذلك لأن قوله صلى الله عليه وآله وسلم " فإن غم عليكم " أو حال بينكم وبينه سحاب " كما فى بعض الروايات ، يفيد بأنه عند وجود الهلال وراء الغيم أو غيره يجب عدم الصوم ، وإكمال الشهر ثلاثين يوماً ، مما يقطع بأن العلة ليست هى مجرد وجود الهلال ، وإنما هى أخص من ذلك ، ألا وهى : تحقق الرؤية البصرية ، وبهذا ألغى الشارع الحكيم إعتبار الوجود العلمى للهلال علة للصوم أو الفطر ، وأكد على أن الوجود الحسى البصرى هو العلة ، وليس ذلك لأن قوة درجة الحساب الفلكى فى الإثبات أقل من درجة الشهادة على الرؤية ، أو لعدم صحة مقدمات ونظريات علم الفلك ولكن لأن رحة الله بعباده إقتضت أن يعلق أسباب عبادتهم وعللها بأمور حسية ملموسة لكل المكلفين ، دفعاً للحرج والمشقة على الناس ، وأن تكون علل الأحكام وأسبابها ثابتة وحسية وعامة يسهل إدراكها لجميع المكلفين دون مشقة ، وألا ترتبط هذه العبادات بأمور عقلية علمية معنوية لا يدركها كل الناس ، ولا كل من يريد أن يلتمسها حتى يتحقق عموم العلة مع عموم التكليف ، ويسر إدراكها مع يسر أدائه)).
ثانيا من الناحية الفلكية
الخلاف ليس على يقينية الحساب الفلكي المجرد بل على يقينية تطبيقاته على الواقع بخصوص الهلال وولادته، أولا من جهة أن عامة البرامج والمراكز التي تحسب مولد الهلال والتقاويم الهلالية كانت تعتمد على الاقتران المركزي وليس الاقتران السطحي كما نبه عليه الفلكي محمد شوكت عودة الذي قال ضمن مقالة له طويلة؛
((ساد الاعتقاد بأن لحظة الاقتران هي لحظة عالمية واحدة، إلا أن هذا الاعتقاد غير دقيق بعض الشيء، فهناك مصطلحان للاقتران، يطلق على الأول اسم (الاقتران المركزي (Moon (New Geocentric)والثاني (الاقتران السطحي (Moon (New Topocentric) المصطلح الأول يعتبر أن الأرض والشمس والقمر عبارة عن نقاط (وهي المراكز) تسير في الفضاء، فإذا ما التقت هذه المراكز على استقامة واحدة وكان القمر في المنتصف، حدث الاقتران، بالطبع فإن لحظة الاقتران في هذه الحالة هي لحظة عالمية واحدة. إلا أن عملية رصد الهلال تتم من على سطح الأرض وليس من مركزها! فما يهمنا معرفته هو وقت حدوث الاقتران من موقع رصدنا على سطح الأرض، وهذا ما يعالجه المصطلح الثاني (الاقتران السطحي)، إذ يعتبر هذا المصطلح أن الأرض والشمس والقمر كرات تسير في الفضاء، ويحدث الاقتران عندما يقع مركزا القمر والشمس على استقامة واحدة كما يرى من موقع الراصد على سطح الكرة الأرضية. بالطبع فإن لكل منطقة على سطح الأرض موعدها المختلف لحدوث الاقتران، وخير دليل على ذلك هو كسوف الشمس، فهو اقتران مرئي، ومن المعروف أن مواعيد الكسوف تختلف من منطقة لأخرى. ويبلغ أقصى فرق بين الاقتران المركزي والسطحي نحو ساعتين، في حين يبلغ أقصى فرق في الاقتران السطحي بين منطقتين مختلفتين للشهر نفسه نحو أربع ساعات.
إذاً حتى لو سلمنا بصحة قول من يدعو إلى اعتماد بداية الشهر الهجري إذا حدث المحاق قبل غروب الشمس، فإنه لا بد من استخدام موعد المحاق السطحي وليس المركزي. ويا للأسف فإن جميع معدي التقاويم في الدول الإسلامية يعتمدون الاقتران المركزي وليس السطحي)).
وأضاف غيره: ((إن لحظة تمام غروب قرص الشمس (والتي يجب تعيينها بدقة لأجل مقابلتها مع لحظة ميلاد القمر لمعرفة أي منهما حصل قبل الآخر) لا يمكن تحديدها نظرياً - أي بالحساب - إلا بخطأ في التقدير لا يقل عن بضع ثوان زمنية بسبب كون مسار الضوء الوارد من الشمس وهي قرب الأفق إلى الناظر ليس مستقيما وإنما يعاني انكسارات متتالية عبر طبقات الجو تجعل هذا المسار منحنياً وبشكل لا يمكن التنبؤ به بدقة تامة لأن هذه الانحرافات المتتالية تتعلق بضغط ودرجة حرارة الهواء في كل موضع من مسار الضوء عبر الغلاف الجوي إلى سطح الأرض واللتين تتغيران بشكل مستمر من لحظة لأخرى (يصل اختلاف موضع الشمس الظاهري أوالمرئي عن موضعها الحقيقي أو الفعلي عندما تكون قريبة من الأفق إلى حوالي 34 دقيقة قوسية أي أكبر من قطرها الزاوي البالغ حوالي 30 دقيقة قوسية, أي أن قرص الشمس يصبح بأكمله تحت الأفق في الوقت الذي يكون فيه مازال مرئيا فوق الأفق), أي أن المسار الفعلي لضوء الشمس الوارد إلى سطح الأرض متغير من لحظة لأخرى ولا يستطيع العلم أن يتنبأ مسبقاً كيف سيكون بالتمام خط مسار الأشعة الواردة من الشمس القريبة من الأفق لأن أحداً لا يستطيع أن يعرف بالدقة قيم ضغط ودرجة حرارة الغلاف الجوي في كل موضع منه وفي كل لحظة من اللحظات, وينتج عن ذلك أن تقدير لحظة غياب قرص الشمس حسابياً من أي موضع على سطح الأرض يلازمه دوماً وبشكل حتمي مجال من الخطأ (زائد - ناقص) لا يقل عن دقيقة قوسية إن لم يكن أكثر (والدقيقة القوسية الواحدة تقابل زمناً قدره 4 ثوان). أضف إلى ذلك أنه تلزم معرفة إحداثيات الموقع الجغرافي (زاوية خط الطول وزاوية خط العرض) بدقة كبيرة (بدقة بضع ثوان قوسية) لإدخالها في المعادلة الحسابية النظرية، وهذا ليس بالشيء الذي يسهل الوصول اليه في كل مكان على سطح الأرض، ويواكبه بشكل حتمي خطأ في دقة الحساب)).
ونظرا لهذه الأسباب وغيرها تضاربت اجتهادات الدول في أساليب حساباتها، واختلفت المراكز الفلكية والدول الإسلامية في طريقة إثبات الهلال فلكيا فالدول الإسلامية التي تأخذ بالرؤية الفلكية متباينة التقدير بخصوص هذه الرؤية وتتلخص تبايناتها في:
1- دول تتمسك بأنه إذا كان مكث الهلال بعد غروب شمس يوم 29 في الشهر الهجري ولو بدقيقة واحدة يصبح اليوم التالي هو بداية الشهر الهجري الجديد.
2- دول تأخذ بمقررات المؤتمر الإسلامي في أسطنبول عام 1978 وهو أنه لابد أن يكون ارتفاع القمر فوق الأفق بمقدار (5) درجات ويكون بعد القمر عن الشمس (الأستطالة) فوق (7) درجات أي أن مكث القمر بعد غروب شمس يوم 29 في الشهر الهجري يجب أن لا يقل عن 20دقيقة.
3- دول تأخذ بميلاد القمر الجديد New moon وتعتبر بداية الشهر الهجري بعد لحظة الاقتران.
4- دول تشترط أن يكون عمر الهلال أكثر من 8 ساعات وارتفاع القمر فوق الأفق أكبر من درجتين قوسية والبعد الزاوي أكبر من 3 درجات قوسية.
كما لم تتفق كلمة البلدان الإسلامية بعد على اعتماد منهج علمي موحد للتقويم الهلالي فهناك اقتراحات مختلفة تتدرج من أساس مفهوم "خط التاريخ القمري" Lunar Date Line (LDL) إلى التقاويم المبنية على الاقتران والتي تطورت مع الزمن في بعض البلدان حيث كان الشهر الهلالي يبدأ (في اليوم التالي) إذا كان الهلال الجديد مساء اليوم التاسع والعشرين فوق الأفق بأكثر من 9 درجات لحظة غروب الشمس في السعودية مثلا في فترة سابقة، ثم أضيف إليه اشتراط أن يحدث الاقتران قبل منتصف الليل بالتوقيت العالمي يوم التاسع والعشرين من الشهر القمري، علما أن الشهر الهجري يبدأ إذا زاد عمر الهلال وقت الفجر عن 12 ساعة، وفقاً لما قرره مجلس الإفتاء الأعلى في المملكة العربية السعودية. ثم أضيف إليه اشتراط أن يغرب القمر بعد الشمس مساء يوم التاسع والعشرين من الشهر القمري، بغض النظر عن لحظة حدوث الاقتران. ومنذ 1423هـ (2003م) تقرر أن يبدأ الشهر الهلالي في اليوم التالي إذا غرب القمر بعد الشمس وكان الاقتران قد حدث (ولو بدقيقة) مساء اليوم التاسع والعشرين.
وقد أدى الأخذ بهذه القواعد إلى تعارضات واضحة مع شهادات الرؤية البصرية في المملكة خلال السنوات الأخيرة.
وبناء على ما تقدم يمكن القول إنه بغض النظر عن يقينية الحساب الفلكي المجرد وقطعية ومأمونية نتائجه من الغلط في هذا العصر من حيث المبدأ، لكنها ما زالت تحتاج إلى الحسم والاتفاق بشأن ضوابط وقواعد موحدة لهذا الحساب بخصوص الهلال، وإنه لا مناص من البقاء على الرؤية البصرية التي هي الأصل، حتى وإن كانت هذه الرؤية معرضة للخطأ البشري كما يتحجج به البعض فنحن متعبدون بها، والخطأ فيها خير من الخطإ في الحساب الفلكي الذي لم نتعبد به أصلا.. والله الموفق.