لم يخف أن موسم النمجاط الأخير كان عنوانا لواحدة من أبرز الصراعات التي تكتسي لبوسا دينيا، حتى وإن كشف عن خلافات هي في عمقها شخصية مادية.
ذلك أن شأن الخلافة هو منصب صوفي عرفي استطاعت مختلف الأسر الصوفية في البلاد تدبيره بسهولة، إما بالتوافق على شخصية ذات رمزية علمية أو اجتماعية، أو باعتماد معيار الأقعدية إلى الجد ذي الرمزية.
ودون شك فإن إدارة هذه "الخلافات" وتدبير شؤون أولئك "الخلائف" في أي طريقة صوفية ماهي إلا محاولة لاستمرار واستمداد قيم جيل التأسيس.
ولقد تباينت مدارس التصوف وتوجهاتها، واستطاع عدد منها توجيه استثماراتها الروحية خارج البلاد، حيث كلفة الإقناع والانتشار أقل، وحيث قابلية "الإسلام الاحتفالي" واختراع وتنظيم الطقوس الدينية أكثر سهولة.
غير أن الكلفة الأمنية، لتنظيم هذا الموسم الأخير، أصبحت غالية وصعبة، ولولا القرار الحكيم الذي اتخذه حكماء المجموعات الثلاثة المتصارعة حول إرث الجد المؤسس، بإبعاد المسجد الجامع عن صلاة العيد، لكان الشجار وربما الاقتتال العنيف بين عشرات الآلاف من المريدين السنغاليين المفعمين بروح ثورية، ونفس عرفاني جامح قضية محسومة، وغمة " ليس لها من دون الله كاشف".
لقد كان الوصول إلى هذه الحالة الشديدة من التمزق، نتيجة لإدارة الجهات الرسمية الموريتانية للخلاف منذ بدايته، وبدلا من أن تتخذ آليات نوعية وفعالة لحسم الخلاف، وإلزام الأطراف بالوصول إلى حل توافقي، خاصة أن جميع الأطراف تجمعها الثقة في رئيس الجمهورية والاستعداد لرعايته لحوار مثمر بين أفراد البيت الواحد، وبدلا من ذلك عملت السلطات بخلاف ما آلت إليه نتائج لجنة الوساطة التي تشكلت من شخصيات علمية وإدارية.
وبدا أن لأطراف داخل السلطة رهانات أخرى وعلاقات ذات زبونية عالية، انتهت بالانحياز الرسمي إلى طرف، أظهرت أحداث يوم العيد أنه لا يستأثر بغير الزخم الإعلامي، وأنه في النهاية جزء من المشهد وليس نصفه ولا كله، لقد كانت مؤشرات الانحياز أكثر وضوحا مع بث التلفزيون الرسمي لتقرير وفعاليات وأنشطة خاصة بأحد الأطراف واستثناء الطرفين الآخرين، رغم أنهم جميعا موريتانيون، ولم يصدر حكم قضائي ملزم بخلافة أحد الأطراف دون غيره.
وإذا اعتبرنا في سياق آخر أن الأمر بات أكثر من الشأن المحلي، وأنه صراع إرادات وإدارات ورهانات موريتانية سنغالية، بل وربما رهانات أوسع، باعتبار العلاقات القوية للطرق والجماعات الصوفية بالجار المغربي، وكذا الرهانات الإيرانية الطائشة أيضا في هذا المجال، فإن كل ذلك لا يلغي أن النمجاط هي حاضرة موريتانية في عمق الأرض الموريتانية، وأن المتنازعين حول خلافتها هم مواطنون موريتانيون أبا عن جد، وحل مشاكلهم هو شـأن موريتاني صميم.
ينبغي أن تكون أحداث العيد رسالة مهمة للطيف الروحي في مويتانيا أن يكون رافعة نماء وسلام وتعاضد جالبا لموريتانيا ما يعزز ويعمق تأثيرها العلمي والروحي، لا أن يجلب لها وقود خلافات قد تحرق لا قدر الله.
وهي أيضا رسالة لتلك الأسرة العظيمة، ذات التاريخ النبيل في التأثير الروحي في ضفتي النهر، وما وراء النهر، وفي كل إفريقيا بشكل عام: إن تاريخكم الحافل بالإنجازات لا يتسع إلا للمزيد من الامتياز العلمي والنقاء الروحي وخدمة الإسلام، وإدخال الشعوب الوثنية في الإسلام، كما كان سلفكم، وما سوى ذلك لا يليق، كما لا يليق دون شك أن يشهد العالم على هذه الخلافات، التي ليست خلافات تنوع ولا ثراء، بقدر ما هي صراعات أشخاص.. لكم في ذاكرة التاريخ والأيام نفحات عاطرة، لا ينبغي أن تهب عليها عواصف الخلافات.