قال المفتش وأستاذ الفلسفة المصطفى بن اكليب إن نظرية الفيض ألغيت من برنامج الباكلوريا الشعبة الأصلية لأنها لا تمت لواقع الطلبة بصلة.
وأضاف ولد أكليب أن هذه النظرية أغضبت الدين ولم ترض الفلسفة.
وأشار ولد أكليب إلى أن الإمام أبا حامد الغزالي وصفها بأنها أضغاث أحلام كما أن ابن رشد وصفها بالتفاهة.
وقال ـ وهو عضو لجنة مراجعة البرامج وأستاذ لمادة الفلسفةـ إن المراجعة ما دامت قد تمت على أساس ما يلمس واقع المتعلم فلا ينبغي أن ندرسه ما لا يرتبط بواقعه ولا يفيده.
المفتش ولد اكليب تحدث لموقع الفكر عن واقع التعليم، وظروف المدرسين، وقال إن واقع البلد لا يغري بالثقافة ولا يشجع الابداع، ودعا إلى رعاية المبدعين محذرا من أن واقع البلد في الميدان الثقافي والفكري يحتاج إلى أن ينتشل قبل الانهيار، وأضاف المفتش ولد اكليب أنه رغم كل هذا ليس متشائما ولا يدعو إلى التشاؤم..
وهذا نص الحوار الشامل الذي أجراه موقع الفكر مع المفتش المصطفى ولد اكليب.
موقع الفكر: حبذا لو حدثتم المشاهد والقارئ عنكم؟
المصطفى ولد اكليب: أشكرك القائمين على موقع الفكر هذا الموقع الرائد الذي يقوم بإسهامات بارزة في مجالات الفكر والثقافة ومجالات أخرى متعددة.
أعتقد أن هذا السؤال غير ضروري لأنه لا يوجد شيء في مسيرتي الشخصية أو العامة يستدعي التوقف أو الذكر، ومع ذلك فإنني أدعى المصطفى بن أكليب، أستاذ تعليم ثانوي أدرس مادة الفلسفة والفكر الإسلامي، حاصل على الشهادات التي تقتضيها المهنة مثل شهادة المتريز والماجستير في الفلسفة الحديثة. وبدأت مسيرتي المهنية في التدريس منذ 1989 إلى اليوم ولله الحمد.
موقع الفكر: ما تقويمكم لواقع التعليم في موريتانيا؟
المصطفى ولد اكليب: إذا أردنا أن نشخص واقع التعليم في موريتانيا تشخيصا موضوعيا فيمكننا القول إن أغلب الفاعلين فيه والمراقبين له والمشاركين من الميدانيين المؤطرين يكادون يتفقون على أنه يعيش وضعية تحتاج إلى إنقاذ، وإلى إعادة استنطاق ومساءلة.
فإذا نظرنا على مستوى المنظومة التربوية بمناهجها وجدنا أن المنهج السائد فيها هو المنهج التلقيني القديم الذي يعتمد على التلقين ولا يعطي دورا كبيرا لمشاركة التلميذ بحيث يصبح دوره دورا سلبيا، تقدم له معلومات كثيرة دون أن يعي ارتباطها بالواقع الذي يعيشه، وعليه أن يحفظها، ويقاس نجاحه بمدى استعادتها كما هي في الامتحان ويقاس بذلك نجاح الأستاذ.
أما الأنشطة التفاعلية مع المحيط أو مساهمة التلميذ في خلق المعرفة وإنتاجها فهو أمر ما يزال بعيدا.
وعندما ننظر إلى البنية التحتية والوسائل التي من خلالها يتم تقديم العملية التربوية نجد نقصا ملحوظا ونجد أن الموجود منها ليس على أحسن حالا فهناك مدارس تنقصها الفصول الكثيرة وهنالك مدارس تحتاج إلى ترميم وهنالك مناطق تحتاج إلى مدارس، بمعنى أن البنية التحية إما أنها متهالكة أو ناقصة.
وظروف المدرسين ليست على ما يرام فالمعلم أو الأستاذ يذهب إلى الدرس مشغول البال بهم الأسرة وبقلة الراتب، وبالظروف السيئة التي يعيشها بحيث لا يستطيع تقديم عطاء، حتى أن الأهداف التي تسعى العملية التربوية لإنجازها ليست واضحة لدى المدرس، بمعنى أن المدرس لا يعرف ما الذي يسعى إليه من وراء هذا التعليم، فلكل تعليم أهداف محددة ولكل مادة هدف محدد ولكل مرحلة دراسية هدف وكل هذا ينبغي أن يحدد ويوضح، ويكون في ذهن المدرس قبل ممارسة التدريس.
لذلك تجد بعض النصوص تخالف القيم الإسلامية أو تنافي الوحدة الوطنية، فعندما تكون لديك أهداف محددة فإنك تختار المفردات والألفاظ التي تلائم تلك الأهداف وتضع الوسائل التي تمكن من تحقيق أهدافك.
موقع الفكر: هل من نموذج على النصوص المخالفة للوحدة الوطنية؟
المصطفى ولد اكليب: عندما تتحدث عن هدف من أهداف التعليم وهو خلق شخصية وطنية إيجابية قادرة على العطاء ينبغي أن تبعد كل ما يناقض هذه الأهداف. ولا أريد ذكر أمور محددة، لكن انطلاقا من الأهداف العامة ينبغي وضع النصوص والمفردات التعليمية في كل مادة.
وأعتقد أن المراجعة الأخيرة للبرامج، وهي المسماة بالرؤية الشمولية حاولت أن تتغلب على هذه النواقص خاصة بالنسبة للسنوات الأولى من خلال فتح مسارات بين المواد ومن خلال ما يسمى بالمعارف السياقية، حيث تم ربط المعارف الكونية التي يشترك فيها نظامنا التعليمي مع غيره بالسياقات المحلية وتمت " تبيئتها" إلى حد ما.
وتم التركيز على إبراز مهارات التلاميذ والطلبة لأن التعليم ليس حفظا للمعلومات بل هو كذلك اكتساب للمهارات.
وهذه الرؤية الشمولية الجديدة سيكون لها ما بعدها عندما يبدأ تطبيقها في جميع المراحل.
موقع الفكر: ما تقويمكم للإصلاحات التربوية التي قيم بها؟
المصطفى اكليب: بالنسبة للإصلاحات التربوية تعيدنا إلى المسار التاريخي الذي مر به تعليمنا، وأعتقد أن كثيرا منها ليس إصلاحات وإنما هو نوع من التنظيم لما كان موجودا، ومن المعلوم أنها بدأت سنة 1959 وآخرها كان سنة 1999م. وما يكمن أن يوصف بأنه إصلاح هو إصلاح 1973م. لأنه إصلاح شمولي، يحدد أهدافا عامة ويسعى إلى تكييف المدرسة الفرنسية ـ التي جاء المستعمر يحملها على أكتافه إلى هذا البلد ـ مع واقعنا الحضاري وواقعنا الاجتماعي، حيث نص هذا الإصلاح على أن اللغة العربية لغة وطنية، وأن اللغة الفرنسية لغة أجنبية، ولأول مرة يتم النص على هذا بشكل صريح، واعتبر إصلاح 73 19م. أن المنظومة التعليمية ينبغي ألا تخالف القيم الإسلامية، وأن تكون اللغة العربية هي اللغة الرسمية للبلد وأن الفرنسية أصبحت لغة أجنبية ابتداء من 1973م.
أعلم أنه قبل إصلاح 1973م. زيدت ساعات تدريس اللغة العربية لكن الهدف كان جلب الساكنة إلى هذا التعليم وإلى هذه المدرسة الوافدة التي كانت محل شبهة عند المواطنين؛ نظرا للمقاومة الثقافية التي كانت ضد الاستعماري لكن عند إضافة ساعات من اللغة العربية والتربية الإسلامية بدأت الساكنة تتعاطى مع التعليم الجديد.
وفي عام 1979 ظهر إصلاح آخر أفرز مدرستين متنافستين مدرسة عربية ومدرسة فرنسية وأصبحنا أمام جيلين مختلفي الثقافة والرؤية وهذا ما عمق الشرخ داخل المنظومة التعليمية.
وحاول إصلاح 1999 أن يتلافى ذلك من خلال توحيد اللغة بالنسبة للمتعلمين لكنه كرس نوعا من الازدواجية الجديدة إذ أصبحت المواد العلمية تدرس باللغة الفرنسية وأصبحت المواد الأدبية تدرس باللغة العربية. وعدنا إلى نوع من الازدواجية المسكوت عنها غير الصريحة.
والذي أدى إلى فشل هذه الإصلاحات هو عدم الاكتمال بمعنى أننا نبدأ في تطبيق إصلاح ثم يأتي إصلاح لاحق دون أن يكتمل الإصلاح السابق، أي أن هناك إيقافا للإصلاح قبل أن يكتمل. وكان ينبغي على القائمين على التعليم انتظار اكتمال الإصلاح حتى ينتهي ليقوموا بعد ذلك بتقويمه وتبيين الثغرات الموجودة فيه وهذا ما لا يتم عندنا فالارتجال والإيقاف وإحلال الإصلاح محل الإصلاح هو السائد عندنا.
وأعتقد أن العوامل السياسية تلعب دورا كبيرا في ذلك. فكلما تغير نظام حدث إصلاح. ومن أسباب فشل التعليم وإصلاحاته ربطهما بالسياسة.
وأعتقد أن فصل السياسة عن التعليم أمر لازم من أجل أن يظل هذا القطاع مجال اتفاق يشرف عليه خبراؤه، الفاعلون فيه، القادرون على تقديم شيء في هذا المجال ، وأن نبعده عن صراعات السياسة لأنها صراعات مستمرة وطارئة ومفاجئة أيضا.
موقع الفكر: ما الأسس الموضوعية والعناصر اللازم القيام بها لإصلاح جاد؟.
المصطفى اكليب: أعتقد أن أي إصلاح جاد في المستقبل ينبغي أن يختلف عن الطرق التي تم بها وضع الإصلاحات السابقة.
أولا تنبغي مشاركة الجميع في بلورة تصور عام وشامل لأن المنظومة التعليمية لا تعني القائمين عليها فحسب فهي تعني المجتمع كله ، فالمجتمع هو من سيدرس أبناؤه وستعود عليه هذه المنظومة التربوية بالفائدة بعد وصولها إلى مرحلة قطف الثمار.
وينبغي أن يشارك أهل الاختصاص وأن يشارك الميدانيون والنقابات وأن يشارك خبراء التعليم، وأن تشارك الأحزاب ومنظمات المجتمع المدني، و قد شكل مؤخرا مجلس للتعليم يضم وزراء سابقين وأصحاب خبرة ويجب أن يلتقي كل هؤلاء في لقاء موسع حول التعليم يبدأ بالتشخيص الصريح والحديث عن كل نقطة من نقاط منظومات التعليم التي تبدأ مما قبل النظام التعليمي (مرحلة الروضة) والتعليم النظامي الذي يبدأ بالمرحلة الابتدائية وينتهي بالتعليم الجامعي إضافة إلى التعليم الأهلي المحظري كل هذا التعليم ينبغي أن توضع له استراتيجيات وأن تكون هناك علاقات نسقية بنيوية فيما بين قطاعاته وأن نضع الأهداف ونحدد الوسائل ونطرح الحلول، كل هذا سيتم عندما يجتمع هؤلاء ويضعون تصورا، لكن الأهم هو تطبيق ذلك التصور فقد حدثت في الماضي أيام تشاورية ووصلت إلى نتائج لكنها لم تطبق وظلت حبرا على ورق. وهذه هي مأساة هذا البلد لأن كثيرا مما يكتب على الورق رائع وممتاز لكن نادرا ما يطبق منه شيء.
موقع الفكر: هل المشكل اللغوي مشكل تربوي أم مشكل سياسي؟؟
المصطفى اكليب: أعتقد أن مشكل اللغة في نظامنا التعليمي مشكل مضخم. في كل بلد هنالك لغة رسمية وهنالك لغات وطنية، وأعتقد أن هذا المشكل كان وراء صراعات دامية في تاريخنا السياسي وبالتالي لا يمكن إخفاء بعده السياسي، فهناك مجموعات وقوميات متعددة لها لهجاتها وهناك لغة رسمية جامعة هي اللغة العربية. واللغة الفرنسية ليست لغة من لغات أي من مكونات هذا البلد، لا علم لي بذلك، وهي لغة مستعمر جاء يحملها معه وقد أصبحت جزءا من تاريخنا السياسي، وتشكلت نخب وتكونت بها وأصبحت غير قابلة للعطاء إلا بهذه اللغة. وهذه النخب من كل الأعراق والقوميات. وإيجاد لغة جامعة يتم بها التدريس ـ وهي بنظري اللغة العربية ـ سيكون عامل وحدة للجميع، ولكن لا يعني هذا شطب اللغات الأخرى فينبغي رفع ضارب اللغة الفرنسية والإنكليزية وكل اللغات، لأن طلابنا عندما يتخرجون ويذهبون لمواصلة دراستهم في الخارج يجدون صعوبات نتيجة لضعف مستوياتهم اللغوية، فالتعلم بلغة واحدة والتدريس بها أصبح يرادف الأمية في هذا العصر، لابد من رفع مستويات اللغات في جميع الشعب، واعتبار ضاربها يقصي، فمن لا يتقن هذه اللغات لا يسمح له بالنجاح، لكن لابد أن تكون هناك لغة رسمية بها يتم التعليم وهي في نظري اللغة العربية، وأستغرب ممن يعتبر اللغة الفرنسية لغة موحدة! موحدة بين من ومن وهي لغة أجنبية! فإدخال الفرنسية واعتبارها حلا لأزمتنا اللغوية يدل على صعوبة التفاهم بين مكوناتنا الوطنية. بحيث أصبحنا نلجأ إلى لغة وافدة وهي لغة مستعمر باعتبارها حلا لإشكالنا اللغوي. وأعتقد أن العربية عندما لا تحمل أبعادا سياسية أخرى، فهي لغة درست بها جميع المحاظر الوطنية من كل المكونات الوطنية وكان فيها شعراء وأدباء وفقهاء كتبوا بهذه اللغة مؤلفاتهم ولم تبدأ فرنسة التعليم إلا مع مجيء المستعمر. كيف نعود بتعليمنا إلى الجادة وإلى لغته العربية هذا يحتاج إلى تدرج. ويحتاج إلى نوع من التفاهم ولا يقتضي إقصاء اللغة الفرنسية إطلاقا، وينبغي أن تبقى لغة علم ومعرفة ويبقى ضاربها كبيرا ولكن المشكل هو التعامل في الإدارة فينبغي أن نتعامل في الإدارة بلغة واحدة. والسؤال المطروح لماذا ينبغي الإبقاء على اللغة الفرنسية كحل لمشكلنا اللغوي وبإمكاننا أخذ اللغة العربية والتفاهم حولها إذا خلصناها من البعد السياسي الذي يوظفه البعض ضد بعض المكونات.
وفي المجتمع الديمقراطي تكون الأغلبية أغلبية انتخابية وليست أغلبية عرقية، بدليل أن بعضا ممن ينتمون للمكون العربي يفضلون اللغة الفرنسية؛ لأنهم تكونوا باللغة الفرنسية أو لأنهم يعيشون تغريبا ثقافيا فلا يعودون إلى تراثهم ولا يؤمنون به. وهذا المشكل يحتاج أولا إلى لقاء وتفاهم وحديث صريح بين كل مكونات المجتمع وأن يجتمع بعضنا مع بعض وأن نضع الحلول المناسبة وما اتفقنا عليه يكون هو الحل.
أما الإرغام والحل الفوري الذي يقلب الطاولة بشكل مفاجئ والمرتجل، لا أعتقد أنه حل لأنه سيولد من الأزمات أكثر مما يوفر من الحلول.
وإن كانت اللغة العربية لغة رسمية بنص الدستور، فالدستور ورقة ينبغي تطبيق ما فيها لكن كثيرا مما فيها غير مطبق. والدستور يحتاج تطبيقه إلى تهيئة، وينبغي أن ننتقل من قواعد قانونية ناظمة في الأوراق ولكنها غير موجودة عمليا إلى قواعد قانونية مطبقة على أرض الواقع، كيف نطبق ما في الدستور هل ينبغي أن نطبقه بشكل مباشر ودون تدرج وبالإرغام؟ أم ينبغي أن نهيئ النفوس، وأن نحاور من يعترضون وأن نعرف ما لديهم من بدائل، وأن نناقشهم في حلولهم؟ فإذا وصلنا إلى مرحلة توافق عن طريق الاقتناع أعتقد أن هذا هو الأفضل في نظري.
موقع الفكر: ماذا تعني المدرسة الجمهورية بالنسبة؟
المصطفى ولد اكليب: المدرسة الجمهورية مصطلح يشير إلى ثقافة الغرب، حيث إن هذه المدرسة هي التي صاحبت نشأة الدولة الوطنية في الحضارة الغربية. فقد كان التعليم تعليما كنسيا بمعنى أن الدروس كانت تقدم في الكنائس، فبعض الفلاسفة الغربيين مثل الفيلسوف الفرنسي ريني ديكارت على سبيل المثال درسوا في هذه الكنائس.
وعندما تأسست الدول الحديثة وانتقل التعليم إلى المدرسة الجمهورية أصبحت المدرسة الجمهورية تعني المدرسة التي تبتعد عن الدين وتركز على المواطنة، وتركزعلى المسائل المشتركة بين كل المواطنين دون نظر إلى اختلاف الأعراق والألوان أو الأديان وإنما تبحث عن مواطن جمهوري تغرس فيه قيم العدالة والمواساة والأخوة وتحرص على ما هو عام وشامل ومشترك بعيدا عن الدوائر الضيقة التي تؤدي إلى الصراع إلى ما قبل نشأة الدولة الحديثة.
وهنا نجد أن الزي الموحد مظهر لهذه الوحدة، بحيث إنه لا يظهر التمايز بين الفقراء والأغنياء ولا التمايز بين الأديان ولا الأعراق لأن المظهر واحد والمواد الدراسية مشتركة وملزمة للجميع. وأعتقد أن هذا المفهوم يمكن " تبيئته" في مجتمعنا عندما نقوم بتخليصه مما لحق به من الشوائب في بلدان المنشأ. فإذا كان دين الغرب سببا في تأخر الغرب، وكان العلماء يحاكمون من طرف الكنيسة ويعدمون بسبب آرائهم ومواقفهم، وذلك ما قاد إلى الفصل بين الدين والحياة؛ لأن الغربيين ما كان لهم أن يتقدموا إلا بإبعاد دينهم المحرف عن حياتهم فإن هذا لا ينطبق على واقعنا نحن المسلمين لأننا لم نعش نهضة ولا تقدما إلا عندما كان ديننا يقود المسيرة ويطبق في حياة الناس فمعناه أن ديننا يختلف عن المسيحية، حيث يدعو إلى العدل والمساواة بين الطلاب ، وان تكون هنالك قيم مشتركة، فهذا لا يتعارض مع أحكام الإسلام، لكن تلك الشحنة العلمانية الشمولية التي تجعل الطالب يعادي دينه كما يحدث في فرنسا حاليا حيث يحرم الحجاب ويسب الأنبياء ويهان الرسل ويتطاول عليهم، فهذا لا علاقة له بالتعليم، فإذ كان الفرنسيون يعتقدون أنه يلائم بيئتهم فهو لا يلائم مجتمعنا ولا حضارتنا.
موقع الفكر: هل تحقق الدولة الحق الأدني من الحقوق للموظفين وخاصة العاملين بقطاع التعليم؟
أعتقد أنه ليس هناك من هو راض عن واقع رواتب موظفي قطاع التعليم ، وحتى الوزارة لا تقول إنه واقع حسن، فهذه الرواتب تبىقي المدرس على قيد الحياة فقط وهي حياة في المرتبة الأدنى، حيث يصبح المدرس جسرا يرتقي عليه الناجحون ويبقى يرسب في هذا الواقع المرير. وتجد أن طلابه أصبحوا أحسن حالا منه، فالتعليم لا يتجه إليه إلا من لم يجد بديلا عنه وهو نوع من البطالة المقنعة. فرواتب المدرسين لا تكفي؛ لأن الرواتب تمتاز في الغالب بالثبات والواقع المحيط بالموظف متحرك فتزداد الأسعار وتنخفض قيمة العملة ويظل الراتب على حاله. بينما هي منظمة اقتصادية ينبغي أن تتحرك معا فإذا زات الأسعار زيدت الرواتب، وإذا انخفضت العملة كذلك ينبغي زيادة الرواتب.
وعندما تقارن بين رواتب موظفي التعليم - وأنا لا أتحدث هنا عن الأساتذة والمعلمين بل عن المفتشين والمؤطرين والمديرين وكل من يرتبط بواقع التعليم الميداني- ورواتب زملائهم في دول الجوار كالسنغال والمغرب ومالي وتونس تجد أن رواتبنا هي الأدنى وإذا قمت بمقايستها بواقع المدرس في تلك البلدان ستلاحظ أنها هي الأدنى كذلك.
وبالتالي يحتاج التعليم إلى زيادة في رواتب المعلمين وذاك سيؤدي إلى بقاء المعلم في مجاله. فهنالك مدرسون يبحثون عن مجالات أخرى لإكمال نقص الرواتب فيذهبون إلى المدارس الخاصة أو يذهبون إلى السوق لممارسة التجارة، فيكون وقت المدرس غير مخصص للتعليم، فإذا زيدت الرواتب أمكن مع ذلك إبقاء المعلم داخل المنظومة التعليمية، كي يجد وقتا للتحضير ووقتا لتصحيح الامتحان وتطوير مهاراته.
وهناك جانب آخر مهم ، وهو أن المدرس غالبا لا يخضع لتكوين مستمر فيتخرج ويحضر للمرة الأولى ثم ينقطع عما يستجد تربويا فينبغي زيادة الرواتب وينبغي كذلك وجود تكوين مستمر للأساتذة والمعلمين.
وينبغي أن نشير هنا إلى أن مراجعة البرامج من حيث المبدأ ضرورية، لأننا عندما نعود إلى المراجعات التي حدثت لبرامجنا نجد أن الغالب على مناهجنا هو الثبات حيث إنها تصبح محفوظات يحفظها المدرس ويصبح لكل مدرس قسما تخصص في تدريسه، يدرسه منذ عقود ولا يبغي به بدلا، بنفس النهج ونفس الطريقة.
وهذا ليس المبدأ الأسلم فالمبدأ الأسلم هو مراجعة البرامج ، ولكن ينبغي أن تكون تلك المراجعات تعبيرا عن حاجات ميدانية تطرحها المنظومة التربوية .
وأحيانا لا يكون ذلك هو الدافع إلى المراجعة بل نتيجة لتمويلات طارئة إذا لم تبدأ تلك المراجعة فإننا سنخسر تلك التمويلات.
وأحيانا تكون المراجعة ناجمة عن عامل سياسي، فإذا تغير نظام سياسي ينبغي أن يتغير كل شيء، ولكن المراجعة الأخيرة التي تسمى بالرؤية الشمولية أعتقد أنها ضخت دماء جديدة ورؤية جديدة في نظامنا التعليمي. وهي رؤية عندما تطبق سيدرك الجميع أنها قربت البرامج من المتلقي و نزعت عنها بعد التحفيظ والكم، ولامست الواقع فأصبحت البرامج أكثر سهولة من البرامج السابقة لأن البرامج السابقة نقل لبرامج تربوية لدول أخرى، وليست تعبيرا عن المرحلة التي يوجد فيها نظامنا التربوي.
موقع الفكر: بماذا تفسرون أزمة ندرة الكتاب المدرسي؟
السبب الأول في ذلك أنه لا تتم طباعة ما يكفي من الكتاب المدرسي، بحيث إنه يتم توزيعها في البداية على بعض المدارس والمدارس الأخرى لا تصل إليها، وما يوزع منها داخل بعض المدارس لا يغطي الحاجة المطلوبة . السبب الثاني هو السوق السوداء التي كان يباع فيها الكتاب المدرسي بأسعار كبيرة لا تناسب الكتاب، وهنالك أكشاك فتحتها وزارة التعليم تباع فيها الكتب بأسعار رمزية إلا أنه نادر الوجود فيها مما جعل الأهالي يتجهون نحو السوق السوداء بغية الحصول على مبتغاهم من كتب مدرسية.
قيل إن الوزارة ستتغلب على ذلك وستحاسب المقصرين ، ولكن أعتقد أن الظاهرة ما تزال موجودة حسب ما وصلني من آخر معلومات.
موقع الفكر: ما سبب تدني نسب النجاح في الامتحانات الوطنية خاصة الباكلوريا؟
المصطفى ولد اكليب: الباكلوريا هي خلاصة الخلاصات في نظامنا التعليمي ما قبل الجامعي كان ينبغي التمهيد لها منذ المراحل الابتدائية لكي ننتظر الثمار هنالك. في نظام التعليمي الآن الغالب هو الكم حيث إن الرسوب والسقوط غير موجود تنجح الأقسام بكاملها وإذا حدث رسوب فهو قليل جدا، وهذا ما لم يكن يحدث في السابق فالنجاح كان نادرا، وهو ما كان يدفع الطلاب إلى بذل جهد مضاعف بحيث يصبح الطالب كامل الملكات نوعا ما ، قادرا على المراجعة يدرك أنه لا نجاح له إلا بذكائه وقدرته.
إضافة إلى هذا النجاح الذي تميل إليه المدارس 100% هناك ظاهرة أخرى مستشرية وهي ظاهرة الغش، حتى إنها وصلت إلى المسابقات الوطنية.
والمثال على ذلك هو إعادة مسابقة تكوين المعلمين في شعبتي الرياضيات والعربية. أرأيت بلدا تقطع فيه وسائط التواصل الاجتماعي بسبب الامتحان غير موريتانيا! لماذا لا يحاسب المراقبون والمقصرون لما ذا لا يتم الفصل؟؟ أصبح الغش ظاهرة مستشرية يشارك فيها الجميع الأسرة ، الأقارب، المحبون عبر الواتس آب ووسائل التواصل الاجتماعي الأخرى.
كان الغش في زماننا فضيحة وعارا وأصبحت الأسرة تشارك فيه وهذا يدل على انهيار القيم.
وأنا هنا لا أحمل المدرس أو المراقب مسؤولية التقصير، بل أصف واقعا سيئا شاملا، من يهدد المراقب أو المدرس إذا قام بواجبه هم الأهالي. وما الذي تريده الأسرة أو أقارب المترشحين يريدون نجاحهم دون أن يكونوا مستحقين لذلك، ومعنى ذلك أن الجميع يشارك في انهيار القيم. والتعليم لا يمكن أن يستقيم إلا إذا عدنا إلى معايير ضابطة ناظمة وقوية.
والوزارة حاليا تقترح تقويما للمدرسين وهذا إجراء يذكر فيشكر، فلا ضير أن نقوم المدرس فكل مدرس يخاف التقويم هو مدرس مشكوك في مصداقيته والنقابات لا تعترض على التقويم من حيث المبدأ وإنما تتحدث عن آلياته ولماذا هذا التقويم؟. وأنا أتساءل عندما تجرى المسابقات في ظروف سيئة ويعمها الغش ولا تكون هناك شفافية ولا نزاهة أثناء الامتحانات بالطبع سيتخرج مدرسون دون المستوى. لماذا لا يبدأ التقويم منذ بداية الجلوس على المقاعد ثم يصاحب التقييم حتى يأخذوا شهاداتهم عندها سنجد موظفين قادرين على العطاء في مجال التعليم.
وعندما تجرى المسابقات لماذا لا تؤخذ كل الاحتياطات من أجل منع من لا يستحق النجاح . وبعد مرور كل هؤلاء العاجزين بكل هذه المراحل لا أعتقد أن ساعة أو ساعتين يمكن أن تكفي لتقويمهم خاصة بعد دخولهم الوظيفة العمومية.
وأعتقد أن امتحان شهادة البكالوريا عندما يصل إليه التلامذة القادرون يكفي لأنه ستطرح أسئلة ضمن البرنامج وسيتم انتقاؤها واختيارها لا تنس أن هذا التلميذ تم تقويمه مدة سنة فما معنى الامتحانات والتقويمات السابقة، فالبكالوريا إنما هي تقويم التقويمات وخلاصة الخلاصات.
ولكن المشكلة في نقص عدد الناجحين وذلك عائد إلى ضعف المستويات. فكل العابرين للمراحل السابقة عبروها عبورا غير مستحق. فإذا وصلوا إلى البكالوريا لم يعد أمامهم سوى خيارين إما السقوط وهو الخيار المنتظر أو الغش في الامتحان من أجل عبور هذه المحطة.
وبالتالي أعتقد أن البكالوريا ليست هي محل النقاش بل ينبغي أن نراجع المراحل التي قبلها، فذلك هو الإجراء الأسلم في نظري.
فنسب النجاح المتدنية هي مظهر من مظاهر فشل المنظومة التعليمية، فهذه المنظومة لا تستطيع أن تعطي إلا هذه النسب مع أن هذه النسب التي تعتبرونها نسبة متدنية لا تعكس المستوى الحقيقي للطلبة ولو أنهم وضعوا ضمن إجراءات لا تسمح بنجاح غير المستحقين فإن النسبة ستكون أقل.
إذن ينبغي أن نعود إلى مسار منظومتنا التربوية ابتداء من الابتدائية فالإعدادية فالثانوية من أجل علاج مشكل الباكلوريا في هذه المراحل.
موقع الفكر: بماذا يفسر ترتيب جا معتنا ضمن ذيل الترتيب العالمي؟ هل ذلك راجع إلى تدني مستويات التعليم ما قبل الجامعة؟ أم أنه راجع إلى سوء التسيير؟
المصطفى ولد اكليب: ينبغي ألا نفسر الظاهرة بعامل أحادي أعتقد أن كل هذه العوامل متضافرة في هذا، ويجب أن ننظر إلى العوامل حلقات متواصلة. فأحيانا ينظر بعضنا إلى التعليم على أن مراحله جزر لا علاقة بين بضعها البعض، وهذه نظرة خاطئة فعلى سبيل المثال مرحلة الروضة تعلم الطفل الانسجام والعمل الجماعي إضافة إلى أشياء أخرى مهمة تهيؤه لدخول المرحلة المدرسية. وهي مراحل مترابطة فإذا كانت كل المراحل السابقة تعيش خللا واضطرابا وضعفا في المستويات فماذا تنتظرون من الجامعة!! هنالك أيضا عوامل التخطيط وعدم التنسيق كما أن الجامعة اكتتبت كثيرا في بعض مراحلها أساتذة يصفهم البعض بأنهم قادمون من جهات تعطي الشهادات لكل وافد. وفي الجامعة هناك دكاترة ممتازون جدا في جميع الشعب ولكن هنالك من هم دون ذلك. وتحتاج إلى تخطيط وتنسيق وترتيب من أجل تجاوز ما هي فيه؛ لأن الرتبة التي ذكرتم تدل على فشل ذريع.
فمشكل القدرة الاستيعابية من المشاكل المطروحة التي حاولت وزارة التعليم العالي معالجته بحلول غريبة وهي منع من يتجاوز 25 أو 24 سنة من التسجيل في الجامعة، وأنتم تعلمون أنه في الدول المجاورة على سبيل المثال بالمغرب وتونس والجزائر يمكن للطالب أن يكمل دراسته من الابتدائية وحتى الجامعة دون أن يخرج من مدينته، ونحن لدينا جامعة واحدة إضافة إلى بعض المعاهد وجامعة لعيون، وهذا لا يتناسب مع مواردنا فنحن بلد غني ، كان ينبغي توسيع الجامعة بل تأسيس جامعات تكون لها قدرة على الاستيعاب.
فإن قال قائل إن هذا لا يمكن القيام به حاليا لأن الجامعة تحتاج إلى تخطيط ودراسات وبنايات إلى آخره لماذا لا تقوم الدولة بكراء بعض المنازل لتوسيع الطاقة الاستيعابية انتظارا لبناء جامعة في المستقبل.
كل هذا يدل على أننا لا نفكر في مستقبل تعليمنا وكأننا نكتفي بهذه الجامعة اليتيمة. مع أننا نشهد إقبالا متزايدا سنة بعد سنة على التعليم وهذه ظاهرة حميدة تستدعي ممن يخطط للتعليم أن يستبق ظاهرة التزايد بالتخطيط لإنشاء جامعات جديدة وفق معايير علمية وأن تكون قادرة على اكتتاب حملة الدكتوراه الذين يتظاهرون في الشارع يحملون لافتاتهم، ولديهم مجموعات في الواتس آب.
فنحن لا نعاني من نقص الكادر التعليم وإنما نعاني من نقص التخطيط والتنظيم ورؤية مستقبلية استشرافية تستبق الأزمات، فنحن ننتظر حتى تقع الأزمة فنبحث لها عن حلول مع أن المجتمعات الأخرى تخطط قبل أن تقع في المآسي.
فوجود الجامعة خارج المدينة أمر معتاد يحدث أحيانا في بعض الدول، لكي يجد الطلبة مناخا مريحا للتعليم بعيدا عن ضوضاء الأسواق، وغيرها لكن هنا أعتقد أن وجودها في قلب المدينة مزعج لأن الطلبة كانوا يقومون بإضرابات مستمرة وهذه الإضرابات المستمرة كانت تزعج القائمين على الأمر، فأرادوا أن يبعدوا الجامعة عن وسط المدينة حتى يحدث ما يحدث بعيدا عن المدينة، لكن إبعاد الجامعة ليس إشكالا بحد ذاته.
لكن إبعاد الجامعة كان يمكن السكوت عنه لو وفر نقل شامل لكن كما قلت لك إن هذا من سوء التخطيط والتسيير.
ومن الأماكن المناسبة للجامعة المطار القديم حيث إنه يحتل وسط المدينة ويمكن لوزارة التعليم أن تنقل الجامعة إليه بكلياتها المتعددة. وأن تضع لها سورا كبيرا له أبواب تؤدي إليه.
مع أننا يمكن أن تترك هذه الجامعة على حالها وأن نؤسس جامعة أخرى في المطار القديم.
موقع الفكر: يثار لغط حول تدريس الفلسفة ويقال إن فيها ما يخالف الشرع وأن تدريسها سبب من أسباب انتشار الإلحاد ما رأيكم؟
المصطفى ولد اكليب: لقد طرح علي هذا السؤال مرارا وكنت أسأل السائل هل درست الفلسفة من قبل ؟ فكان السائل يجيب بأنه لم يدرس الفلسفة وإنما سمع هذا؟ وأنتم تعلمون أن الإسلام يدعونا إلى أن نطلع على الأمر قبل الحكم عليه قال تعالى: (ولا تقف ما ليس لك به علم) والحكم على الشيء فرع عن تصوره.
وأعتقد أن الأزمة تعود إلى مرحلة تاريخية وهذه المرحلة التاريخية هي ترجمة الفلسفة اليونانية إلى الحضارة الإسلامية حيث تباينت منها المواقف وتعددت وأغلب الفقهاء وقفوا ضد الفلسفة لأنها تقود في نظرهم إلى الكفر والضلال. فمنهم ابن تيمية وابن صلاح الشهرزوري وغيرهما وحتى عندنا هنا صاحب الإضاءة يقول
احذر أخي أقوال أهل الفلسفهْ فإنها محض الضلال والسفهْا
جروا بها من غيهم ذيولا في قدم النفس أو الهيـــــولا
وهذه النظرة التقليدية إلى الفلسفة إنما تنظر إلى جانب واحد من جوانب الفلسفة، وهو المتعلق بجانب الإلهيات الجانب المتعلق بالميتافيزيقيا.
أما البرامج المقررة من قبل وزارة التعليم فلا علاقة لها بالمتافيزيقا وإنما تتعلق بالإبستيمولوجيا وهي فلسفة العلوم ، تتحدث عن الحرية ، عن الشغل ، عن المعرفة تتحدث عن السياسة، عن أمور لا تتعلق بالإلهيات.
وقيمة الفلسفة أنها تحرر العقل من المعارف السائدة التي أخذها الإنسان من محيطه وثقافته دون أن يستخدم عقله، وهي تتفق مع الدين في هذا؛ لأن الدين الإسلامي يدعوك إلى التفكير فيما ستأخذه، أنت تعلم أن الوثنيين أثناء حوارهم مع الإسلام كانوا يقولون هذا ما وجدنا عليه آباءنا، وكانوا يرفضون الاستماع والحوار والنقاش، وهذه الميزة هي التي تقدمها الفلسفة لدارسيها، أنها تنمي خاصية النقد والفحص والتمحيص التفكير فيه، وأنا لا أعتقد أن ديننا على خطأ حتى نخاف عليه من الفلسفة. هناك البعض يرى أن استخدام العقل ضار بالدين، ويذكر المفكر محمد عمارة عليه رحمة الله في كتابه مقام العقل في الإسلام أن العقل لم يرد ذكره في الإسلام إلا في مقام التنويه لا في مقام النقد أبدا. وأن الذي ينتقده الإسلام هو اتباع الهوى، أو النفس الأمارة بالسوء أو الشيطان.
أما أن يستخدم الإنسان عقله وتقول له لا تستخدم عقلك؛ لأننا نخاف أن تكتشف في الإسلام ما ليس صوابا، أيمكن أن تقول هذا! عندما يستخدم الإنسان عقله استخداما سليما فليستخدمه؛ لأننا لا نخاف في هذا الدين الإسلامي على شيء إنه حق؛ ولذلك يقول ابن رشد إن الحق لا يضاد الحق بل يوافقه ويشهد له، أقبل منك أن تقول إن أرسطو أخطأ وإن أفلاطون أخطأ أو أن تقول إننا يجب أن نترك فلسفة كارل ماركس أو ندرسه على حذر أو جان بول سارتر أو غيرهم من الفلاسفة ، أما أن ترفض الفلسفة مطلقا لأن فلاسفة ضلوا بها فهذا خطأ منطقي وهو من باب الحكم على الكل انطلاقا من الجزء أرأيت مجتمعا معينا أو قبيلة معينة فاضلة ودينة إذا انحرف بعض أفرادها هل نحكم عليها كلها بالانحراف والخطأ؟!! لا ينبغي أن نقع في هذا الخطأ.
موقع الفكر: الإشكال المطروح في تدريس الفلسفة هو أن برامجها المقررة تحوي بعض النظريات الخاطئة التي يشكل تدرسها خطرا على المبتدئين مثل نظيرة التطور عند داروين؟
المصطفى ولد اكليب: الفلسفة لا تدرس لأصحاب الصفحات البيضاء فلا تدرس إلا في السنة الخامسة من التعليم الثانوي، ومعنى ذلك أن دارسها أصبح له مستوى من المعرفة يهيئوه للاستيعاب، والسبب في تأخير تدريس الفلسفة هو أنها تحتاج إلى عقل يفهم صاحبه ويدرك، وأقول إن البرامج التي تدرس في السنة الخامسة والسنة السادسة –إذ استثنينا الشعبة الأصلية- فإنها برامج لاتصطدم مع الدين ولا تتعارض مع العقائد.
وبالمناسبة تم إبعاد نظرية الفيض في المراجعة الجديدة للبرنامج ـ وكنت أحد المراجعين للبرنامج ممثلا لأساتذة الفلسفة الميدانيين ـ لأن هناك برامج جديدة ينبغي أن تكون أكثر ارتباطا بواقع المتعلم. فأنت عندما تحدثه عن الفيض هذه النظرية التي يحاول أصحابها أن يفسروا لنا صدور الكثرة عن الواحد و العالم عن الله تعالى، إذا كان الفرابي قد أضطر لهذه النظيرة من أجل الملاءمة والتوفيق بين ما يقوله أرسطو وما يقوله الدين الإسلامي فنحن لا علاقة لنا بهذا، فالذين انتقدوا نظرية الفيض يعتبرونها خرافة، فأبو حامد الغزالي ينتقد نظرية الفيض ويقول إنها أضغاث أحلام كما أن ابن رشد في كتابه تهافت التهافت ينتقدها هو الآخر فكما يقال هي أغضبت الدين ولم ترض الفلسفة.
وما دامت المراجعة قد تمت على أساس ما يلمس واقع المتعلم فلا ينبغي أن ندرسه ما لا يرتبط بواقعه ولا يفيده.
موقع الفكر: وماذا عن نظرية داروين ؟؟
المصطفى اكليب: نظرية داروين ليست نظرية فلسفية بل هي نظرية تدرس في البيولوجيا إذا كانت ما تزال مقررة ـ ولا أعتقد ذلك لأن المراجعة الجديدة لا أعتقد أنها مقررة فيها ـ يتم تدريسها في مجال الأبستمولوجيا ، فالعلوم أربعة أقسام ، علوم صورية مثل الرياضيات والمنطق وعلوم طبيعية كالفيزياء والكيمياء وعلوم الحياة كالبيولوجيا والعلوم الإنسانية، وأحيانا حين نتطرق للبيولوجيا قد نأتي لما يقوله داروين ليس باعتبارها حقيقة بل نقدم وجهة نظره فقط.
وأستاذ الفلسفة حامل معرفة ، عندما يدرس عليه أن يدرس ما يقوله صاحب النظرية ولكن عليه أيضا أن يذكر الانتقادات الموجهة إلى تلك النظرية، ولكن لنفترض أن طالبا من طلابنا لم يدرس نظرية داروين عندنا ولم يقدمها له أستاذ أمين على ذلك وذهب إلى الخارج ودرس نظرية داروين، فأنا أعتقد أن أسلوب إغلاق الأبواب على المتعلمين لم يعد أمرا ممكنا فهو سيتعلم هذا هنا أو سيتعلمه هناك ولكن لماذا لا نبين الأخطاء في نظرية داروين.
فأحيانا يأتيني طلبة لديهم أسئلة وشكوك وأشجعهم على تلك الأسئلة وأجيبهم عليها وأشجعهم على ذلك لأنهم إذا لم يجدوا من يشفي لهم الغليل تبقى تلك الشكوك فتكبر وتتعاظم.
في مجال الفكر علينا المحاورة والنقاش لأنه ليس في ديننا ما يخاف عليه من المحاورة والنقاش.
وسأسألك سؤالا لماذا ذكر رب العالمين اليهود والنصارى، فكان من الممكن ألا يذكرها، لماذا؟ ففي القرآن (وقالت اليهود يد الله مغلولة) إذن نحن هنا سنتعلم، وقال تعالى: (لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة)، فالقرآن نقل إلينا أقوال النصارى واليهود والدهرية والصابئة ثم رد عليها وأنا بصفتي أستاذا للفكر الإسلامي أعتبر أن القرءان علمنا ألا نخاف من أسئلة الآخر وأن نستعد للرد عليها وأن نكون على مستوى الرد. ونجد أن علماءنا ما تركوا مقولة مخالفة إلا ذكروها لكنهم كانوا على المستوى الحضاري للرد عليها.
فكتاب ابن تيمية درء تعارض المعقول والمنقول ذكر فيه جميع الأقوال وهو الذي يتهم بالسلفية وضيق الأفق له كتاب يسمى نقد منطق أرسطو والرد على المنطقيين، قدم منطقا بديلا ورائعا جدا، وكل علمائنا ردوا على هؤلاء وكانوا على المستوى، ونحن حاليا أمام شباب ضيق الأفق لا يستطيعون الرد على أقوال المخالفين وبالتالي يحاولون غلق الأبواب والنوافذ.
لماذا لا تعلم ابنك هذه الأفكار وتوضح له خطورة هذه الأفكار، وتعلمه الرد عليها ودحضها وأعتقد أن المنع لا يمكن أن يستمر ويطول.
فعندما نعود إلى ظاهرة الإلحاد التي سألت عنها نجد أن أغلب الذين ضلوا وأعلنوا إلحادهم في هذا البلد ليسوا من خريجي الفلسفة.
هؤلاء الذين أساءوا إلى رسول الله صلى الله عليهم وسلم منهم من تخرج من قسم التاريخ ومن تخرج من الأقسام العلمية، وهذا لا يعني أن الفلسفة لا يمكن أن توظف خارج إطار نطاقها والفلسفة أحيانا يمكن أن تقود إلى الضلال، وهناك فلسفات فيها كثير من الضلال.
وحسب وجهة نظري المتواضعة ينبغي أن يواجه هذا الضلال بتنوير العقل وتثقيفه وتعليمه وإكسابه المهارات التي تجعل صاحبها قادرا على الاستيعاب والفهم والرد وليس بأسلوب إغلاق الأبواب والنوافذ في وجه المتعلمين ونحن الآن في مرحلة مثل تلك التي عاشها أبو حامد الغزالي من تعدد المرجعيات وتناقضها.
موقع الفكر: ما تقويمكم للواقع الثقافي والفكري بالبلد؟
المصطفى ولد اكليب: أعتقد أن الثقافة في هذا البلد تعيش تراجعا، فليس هناك حوافز أو دوافع لتعاطيها، ولولا هذه المسابقات التي تجعل بعض شبابنا يبدع كإمارة الشعر والتي أظهرت بعض الوجوه التي لم تكن ظاهرة من قبل ، لما كان للثقافة دور.
فالثقافة والمواهب في هذا البلد تكاد تموت. وألاحظ أن صاحب الموهبة عندما يبقى هنا تخمد موهبته وتموت وتتلاشى وعندما يجد فرصة للخروج من واقعنا المحلي يصبح مبدعا، والأمثلة على ذلك كثيرة. انظر مثلا يحيى بن حامدن عليه رحمة الله لم يصبح ذا شأن يذكر إلا عندما خرج من البلاد.
وأعتقد أنه ينبغي على وزارة الثقافة أن تهتم برعاية المبدعين ورعاية النوادي وبفتح المسابقات أمامهم وتشجيعهم والاستثمار في هذا المجال، فمن لم يكن عصاميا وكون نفسه لا يجد حوافز تدفعه إلى العطاء في المجال الثقافي.
ولعل ما تعيشه الثقافة يرتبط بواقع التعليم عندنا. فلدينا منظومة تعليمية كان يراهن عليها في تخريج مبدعين وعباقرة ومتميزين لكنها تعيش انهيارا وتدهورا ، وهذا ينعكس سلبا على واقع ثقافتنا.
موقع الفكر: هل من كلمة أخيرة؟
المصطفى اكليب: الكلمة الأخيرة التي أود توجيهها هي أن نهضة أي بلد إنما تتم من خلال أبنائه وأن مجتمعنا الآن يعيش انهيارا في مجال قيمه حيث أصبح الجميع يتسابقون للحصول على الثروة بكل الطرق الممكنة، وأصبحت المشاريع الإصلاحية التي كان ينتظر منها الارتقاء بهذا المجتمع تتعايش مع هذا الواقع. وأصبحت المميزات بين المشاريع قليلة. وفي نظري أنه ينبغي أن نعود إلى ما كنا عليها ففي مرحلة الستينات والسبعينات والثمانينات وحتى التسعينات كانت هناك آمال والكثيرون الآن مصابون بالإحباط لا تعرف لماذا؟ كأن هنالك نوعا من العدمية أو الريبية التي تنتشر لدى ا لكثيرين. إذا لم نعد للثقة في القدرة على العطاء، وفي تأسيس مجتمع عادل، مجتمع مستقيم، يوفر الفرص العادلة خصوصا في منظومتي التعليم والصحة لقربهما من المواطنين، وصياغة الإجراءات وتطبيقها بشفافية، فإن واقعنا سيظل يسير نحو الانهيار. ولست متشائما لأن التشاؤم يقود إلى تدمير كل شيء ولكن علينا تلافي ما نحن فيه من انهيار.