لم تكن حادثة تعثر تسديد رواتب 200 موظف غير رسمي في وزارة الثقافة الأولى من نوعها ولن تكون الأخيرة، فمنذ عقود اتخذ الوزراء وكبار المسؤولين من الأشهر أو السنوات القليلة التي يديرون فيها قطاعات يراد منها أن تخدم الشعب وأن تحقق نهضة نوعية، لا أن تثقل بتكاليف مالية لا يمكنها أداؤها فرصة لتوظيف المعارف والأقارب و أقارب الكبار..
يتحدث الكثيرون عن أرقام فلكية للموظفين غير المداومين، وخصوصا في وزارات الثقافة والشؤون الإسلامية، و المعهد العالي الذي ظل لعقود ميدانا للفوضى والاكتتاب العشوائي بحجة أن لمديره الحق في اكتتاب العلماء.
والإذاعة وقنواتها المتعددة، وقناة الموريتانية، وكذا الموانئ والمؤسسات شبه المستقلة كالمستشفيات.. وليقس مالم يقل( فالنظم ضاق ببعضهم فتركته ولربما حذف الذي لم يجهل)
فقبل سنوات كاد مستشفى الشيخ زايد أن يغرق بسبب كثرة المتعاقدين معه والذين جلبوا له يستنزفون المبالغ الزهيدة المتأتية من خراجه و من دعم الدولة.
لقد قال لي أحد مديره ذات يوم، في مكتبه المتواضع، "وجدت أمامي 90 عاملا بين الحراس والسكرتيريا، فبالله عليكم ماذا يبقى بعد دفع مخصص هؤلاء.
لقد عجز مستشفى الشيخ زايد في تلك الفترة عن سداد كثير من العقود والحقوق المترتبة عليه..
إن الحديث المتزايد عن إبرام مئات العقود لصالح مجموعات ضيقة ومحددة بالصفة والجهة، وعن وجود كم مماثل ومقارب في المؤسسات الإعلامية ، التي يتحدث البعض عن تسييرها لما يقارب 2.000 عامل، من بينهم نسبة ضئيلة من العمال الرسميين.
لقد أُغرقت المؤسسات بمن لا علاقة لهم بالمهنة فكل مدير جاء يوظف من يشاء و يتعاقد مع من يشاء، يقول أحد النقابيين " أنا أتذكر مديرا للتلفزة أمضى معنا عاما يزيد قليلا، وقد جاء ب 276، شخصا، من الشارع بدون إعلان ودون تكوين أو تدريب أو أي شيء، فقط جاء بهم وأصبحوا يتقاضون رواتبا.
لك أن تتصور من سيأتي بعده والحرج الذي سيقع فيه، وسيخلص في النهاية إلى أنه لايستطيع طردهم، لأنهم سيذهبون للشارع ويشكلون مشكلة للدولة، وبالتالي سيبقي عليهم رغم إضرارهم بالمؤسسة، وسيسلك أيضا نفس النهج ويأتي بمثلهم من أهله وأقاربه، وهكذا وصلت هذه المؤسسات إلى أن كل واحدة منها توجد فيها أعداد كبيرة (900 أو 1000) من الذين لا يقدمون شيئا، في حين أن بإمكان 70 شخصا، أن تسير هذه المؤسسة أو تلك، فأصبحت هذه الأعداد الكبيرة أمرا واقعا، والغريب أن آحادا من هذه الأعداد الكبيرة، يتقاضون مبالغ زهيدة، ورغم ذلك يعتبرون أقوى من مدير المؤسسة وحين يهم مديرما بتعليق ذلك المبلغ الزهيد، يحركون له الدولة برمتها، والدولة ترى هذا ولم تقدم له حلا فكيف لمدير أن يحله!"
وإلى جانب هؤلاء يوجد آلاف آخرون من العمال المسيبين في وزارات الصحة والتهذيب والداخلية، وفي البلديات، يوجد عدد لا يحصى من المفرغين الذين لا يؤدون أي خدمة، ويحصلون على رواتب، بل ربما يوجد بعضهم خارج البلد الآن.
لا يمكن بحال من الأحوال أن يقف أي قلم في وجه حصول أي مواطن موريتاني على راتب من مال الشعب ما دام مستحقا لذلك، أو مؤديا خدمة مقابل ذلك، هكذا تقول النصوص والقوانين، التي لم تقل إن بعض القطاعات هي ملك خصوصي يمكن لمسيريه أن يحولوه إلى أعطيات وهدايا وريع للأقارب أو المقربين.
وإلى جانب هذا الأمر فإن وزارة المالية، ومنذ سنوات تمثل هي الأخرى عائقا أمام انسيابية حصول الموظفين على حقوقهم المادية، ومتأخراتهم من عرق الجبين، بل أصبحت في ظل وزيرها الحالي وزارة جباية واقتطاع وحرمان وفق ما يراه البعض.
وما زال العمال غير الدائمين في هذه الوزارة يتلقون رواتب أقرب إلى الفتات الذين لا يسمن ولا يغني من جوع.
هي إذا ثنائية من التناقض إما إغراق المؤسسات بأفواج من العمال الذين لم يخضع اختيارهم لأي معيار سوى الزبونية مثل ماهو موجود في كثير من مؤسسات الدولة و معاهدها التي تعيش إغراقا غير مسبوق بالمتعاونين
أما الشق الثاني فهو محاصرة الموظفين، وقطع بعض ما كانوا يحصلون عليه من حقوق، أو منع استرداد المتأخرات التي اقتطعت بأخطاء أو بظلم من القطاعات المشغلة.
ما من شك أنه لا توجد إرادة لمعالجة هذا الإشكال، لأن أغلب هؤلاء الذين تم اختيارهم دون أي وجه منطقي قد اكتسبوا حقا قانونيا، وأصبحوا أزمة مالية مستمرة أمام القطاعات التي لا تملك القدرة على تسديد رواتبهم، كما لا تملك القدرة على تنظيم المغادرة الطوعية، ولاتملك قدرة تنظيمية لتوظيفهم، ولا هيكلة تناسبهم.
هذا فضلا عن التلاعب الذي يشبه الفضيحة حين يعين في مجلس الوزراء أشخاص في بداية التقاعد، وهو ماحدث بشكل لافت مطلع العام الجاري.
والإكراميات التي تمنح للمتقاغدين في مجالس الإدارة التي لاوجود لها في عالم الحقيقة ولا أثر لها بالعين المجردة.
تأتي هذه الممارسات في وقت يعاني فيه آلاف الشباب الموريتانيين الجامعيين المتوزعين على مختلف التخصصات من بطالة مستمرة، مما سهل وسرع وتيرة الهجرة، بعد أن أصبحت الطريق إلى الوظيفة محدودة في مسابقات ضئيلة وضيقة، أو عبر الاكتتاب الزبوني الذي يضيق أمام المستحق وينفرج مصراعاه أمام الأقارب والمقربين، في قسمة ضيزا على اعتبار أن الأقربون أولى بالمعروف.