قرار منع المنح الخارجية.. سيادة تعليمية أم تضحية بالجودة- موقع الفكر

انتهت أحلام الحائزين على الرتب الأولى في امتحان البكلوريا، وتبخرت آمالهم واختلت حساباتهم فلم يعد مستعجلا بالنسبة للعشرة الأولى ومن تلاها  من المثابرين حزم الحقائب ولا لاستعداد لتوديع الأهل، في سفر أكاديمي نحو جامعات عريقة أو معاهد متوسطة، طالما استوعبت منذ منتصف ثلاثينيات القرن المنصرم النوابغ الموريتانيين "والعلمة والزعمة".

ودون سابق إنذار أو توقع قررت الخلية الصغيرة التي تشرف على كثير من تفاصيل "الإصلاحات التعليمية" أن تقطع المنح، وأن تسوق الناجحين جميعا إلى مساقات التعليم العالي في موريتانيا.

تستعيد المجموعة المذكورة بهذا القرار، روح سياسة الوزير السابق سيدي ولد سالم، الذي قرر التضحية بمنح الطلاب المتفوقين في الرياضيات من أجل توفير نابهين يمكن أن ينجح بهم مشروع "بولي تكنيك" ونظيراتها من المؤسسات الأكاديمية الجديدة، التي صنعت مستوى من "مجد" المهندسين والأساتذة العلميين في البلاد، وأعطت مستوى من التنافسية للتعليم العالي في موريتانيا بعد سنوات من الضعف ولانهيار.

ولأن قرار قطع المنح كان "ثورة" بالفعل في سلم القرارات المتخذة، رغم أنه كان من أبسطها من حيث التموقع بين الخطة التي تقدم بها وزير التعليم العالي أو قدمت له على الأصح، واستطاع إقناع السلطة بها، فإن الجدل ما زال مستمرا بكثرة بسبب المفاجأة، التي أربكت الجميع.

لا يمكن الحكم على قرار إلغاء الابتعاث بأنه سيء مالم تتضح معالم المعالجة والتدابير الحكومية المتخذة لتجويد التعليم العالي وجعله في خدمة السوق الوطنية والخبرة الاكاديمية.

من المستهدف بالقرار..

تؤكد مصادر رفيعة في قطاع التعليم العالي أن منع المنح لمرحلة البكلوريا يتوجه إلى نسبة تقل عن 1% من ناجحي البكالوريا لسنة 2024، فيما كانت نسبة المنح في العام الماضي في حدود 1.5% لا أكثر من الناجحين، وهو ما يجعل دائرة التضرر المفترضة ضئيلة جدا للغاية.

وهو ما يجعل نسبة 160 شخصا كانت تستفيد سنويا من المنح عددا قليلا مقارنة مع أكثر من 17 ألف تلميذ سيلجون السلك الأول من التعليم العالي لهذه السنة، وذلك بسبب ارتفاع نسبة النجاح.

وتؤكد ذات المصادر أن التحدي الأبرز بالنسبة للتعليم العالي هو استيعاب هذا العدد الكبير، الذي لن يؤثر عليه دمج 160 طالبا كانت تحصل على منح سنوية خارج البلاد.

دعونا نتفق أن التعليم في الجزائر مثلا ليس مغريا ولانخبويا لنحن عليه ونشق الجيوب عويلا وبكاء على فواته، ومثله بقية الدول المحيطة، ففي نظر الكثيرين والمتعقلين أن لا داعي لابتعاث الطلبة إلى هذه الدول التي لاتبتعد كثيرا عن مستوانا العلمي، والتي ربما لاتمنحنا خير ماعندها، بل من المؤكد أنها ستعطي الأولوية لطلابها، ما يجعل نخبنا تتذيل القوائم.

استيعاب وتعزيز للتمدد الجامعي

يؤكد خبراء في قطاع التعليم العالي أن قرار توقيف المنح الخارجية للسلك الأول الجامعي ليس ذا أهمية كبرى مقارنة مع القرارات الأخرى التي أعادت تشكيل وتهيئة التعليم العالي من جديد، رغم ما تواجهه من صعوبات ستظهر مع الزمن، خصوصا في توفير الطاقم التدريسي الكافي والمنشآت والمخابر والتجهيزات اللازمة، وبناء تقاليد أكاديمية جديرة بالاحترام والتقدير.

ومن بين الإيجابيات التي تفرزها منظومة القرارات الأخيرة المتعلقة بالتعليم العالي:

-   رفع عدد المقاعد المتاحة لطلاب البكلوريا العلمية والرياضية، وخصوصا تلك الأكثر جاذبية للطلاب الموريتانيين (الطب – الهندسة- الإحصاء- التجارة)، على حساب كسب التقانة والفيزيا النووية وغيرها من التخصصات الدقيقة.

وتظهر الأرقام الرسمية أن 160 طالبا استفادوا من المنح الخارجية العام الماضي، منهم 65% تم توجيههم إلى معاهد تكوين متوسط، بينما حصلت نسبة ضعيفة منهم على تخصص الطب، وهو تخصص متوفر في البلد ولا تشد الرحال إليه

بينما استوعبت كلية الطلب في العام الماضي 281 طالبا، و121 طالبا في المعهد التحضيري للمهندسين، أما كلية التجارة الناشئة، فقد استوعبت 40 تلميذا، فقط، واستوعب معهد الرقمنة 100 طالبا.

وغني عن القول أن موضوع الابتعاث إلى الخارج  تأثر في السابق من عدم تدقيق الحكومة في نوعية المنح وفي حاجة السوق إليها، بل ظلت تدار بمستوى كبير من العاطفية و السلبية، فيمكن للطالب أن يقضي 10 حجج دون أن يتجاوز أو يحوز مؤهلا علميا ينفع به نفسه أو البلد، ويكون ولي أمر الطالب شريكا في الجرم ويخترق كل الحجب لتثبيت المنحة المادية لابنه وهو لايعظه.

وفي المقابل تعهدت الحكومة  برفع استيعاب المعاهد للسنة الدراسية القادمة لتصل إلى:

400 طالبا في كلية الطب

200 طالب في تحضيري الهندسة

200 طالب في معهد الرقمنة

200 طالب  في الهندسة الصناعية

وترفع هذه النسب الجديدة، الفرص أمام الطلاب الذين كانوا يضطرون للانتقال إلى تخصصات أخرى غير جاذبة، أو بعيدة من التخصصات التي كانوا يسعون إليها، أو المجازفة بالبحث عن فرص للدراسة خارج البلاد، وهو ما يضاعف على ذويهم تكاليف الدراسة وصعوبات الاغتراب.

-   توجيه مخصصات المنح في السلك الأول لصالح التأمين الصحي للطلاب الجامعيين، وهو ما سيضفي خدمة جديدة كانت غائبة عن الخدمات الجامعية.

-   رفع مستوى وفعالية الابتعاث: من خلال تركيزه في مراحل الماستر والدكتوراه، ومرحلة التخصص الطبي، حيث يكون الطلبة في هذه المرحلة أكثر نضجا، وأكثر قدرة على التكيف مع أنظمة التعليم التي يبتعثون إليها.

- ثم إن الدراسة الأكاديمية في البلد تعطي مؤشرات  معينة وصورة صادقة  عن مسار الطالب ومدى جديته وجدارته العلمية وأهليته للابتعاث الخارجي الذي أصبح حكرا على المراحل المتأخرة من الدراسة الأكاديمية والبحثية، ويزيد من سلامة القرار الحكومي أن أغلب الناجحين في البكلوريا من الجنسين هم في مرحلة البلوغ وماتتميزبه من اضطرابات في حياة الشباب، وتتزامن هذه المرحلة العمرية مع انتقال الطالب من مرحلة التبعية ووصاية الوالدين على الأبناء إلى مرحلة استقلال هؤلاء الطلبة بقرارهم، عن التربية الوالدية فيجدون أنفسهم في سكن جامعي وأمام مغريات الراحة والمنحة ما يفتخ طريق السلبية أمام الكثيرين منهم..

تضحية بالجودة، وصناعة للاكتظاظ

وفي مقابل هذه الإيجابيات لا يخفي المتخصصون التخوف من سلبيات ظرفية وأخرى مستمرة أبرزها:

-   حالة الإحباط التي انتابت خيرة الطلاب الموريتانيين الذين راهنوا طيلة سنة دراسية على التميز، سعيا إلى المنحة الطلابية التي كانت إلى ما قبل قرار الوزير الجديد للتعليم العالي الطموح الأهم بالنسبة لكل الطلاب الموريتانيين، خصوصا أنها صنعت وبشكل كبير عنصر التميز والجودة في التعليم العالي، وصنعت النخب الأكثر إبداعا وتميزا في تاريخ البلاد، مقابل حالة من ضعف المستويات وغياب وسائل التجهيز، وضعف حكامة التعليم العالي على المستوى الوطني.

-   العجز الحالي عن توفير العدد الكافي من أساتذة التعليم العالي والمنشآت التربوية، والتجهيزات والمخابر التي يمكن أن تستوعب هذا العدد الكبير، الذي يتوقع أن يتضاعف خلال السنوات القليلة القادمة، وبشكل خاص يتطلب الأمر اكتتابات واسعة في التعليم العالي، أو نظام تعاون دولي ظرفي مع جامعات أخرى من أجل توفير العدد الكافي من المدرسين، وهو ما يعني تضحية كاملة بالجودة التي كانت متاحة على الأقل لبعض الممنوحين إلى الخارج.

ولعل من اللافت أن وزارة التعليم العالي لم تتحدث في بياناتها عن اكتتاب عشرات الدكاترة الموريتانيين الذين يخدمون في الجامعات بتعويضات ضعيفة وغير مقبولة، فكان من المتوقع اكتتاب هؤلاء  أو تحسين شروط التعاقد معهم خاصة ان الدولة ستوفر المليارات من خلال الشطب على نظام المنح لمن هم في السلك الأول.

فالموريتانيون أولى بالمعروف من المدرس الأجنبي.

ويتخوف  البعض من تكرار تجربة وزارة الصحة التي تتعاقد مع الأطباء الأجانب بمبالغ مرتفعة وتقتر أو ينكمش عطاءها إذا تعلق الامر بالمزايا الممنوحة للطبيب الموريتاني.

-   ضعف سوق العمل عن استيعاب هذا التوسع الكبير في أعداد الـأطباء والمهندسين وخبراء الإحصاء، وهو ما سيفتح الباب سريعا إلى بطالة النوابغ والعقول، ويمد هجرة العقول الموريتانية بروافد جديدة.

ورغم أن البلد لا يتوفر على قسم للأسنان فإن مجموعة معتبرة من أطباء الأسنان تحتاج للتوظيف فكيف سيكون الحال بعد توسيع التخصصات الطبية في الكلية لتشمل قسما للأسنان.

-   يظهر التصرف اللاحق للجنة المنح بالإبقاء على المقاعد الممنوحة من دول صديقة لموريتانيا، أن أصحاب النفوذ والثراء، هم وحدهم من سيتمكن من تدريس أبنائهم في الخارج، حيث يتاح لهم دون غيرهم الصرف على أبنائهم من طول وعرض أموالهم،  وذلك بتمييز إيجابي لطبقة النبلاء والأغنياء ، وهو ما سيصنع أيضا طبقية أكاديمية  في مجتمع الأغنياء في زمن قريب.

هل ستساند الحكومة ثورية التعليم العالي

يراهن أنصار هذه القرارات الثورية أو "النمو غير المتدرج"  و " التوسع غير الموزون والانتشار غير المتأني للتعليم العالي على جدية الحكومة، ودعمها لهذا التوجه، غير أن سوابق نكوص الحكومات المتعاقبة عن قراراتها الثورية يجعل المخاوف متصاعدة، خصوصا إذا:

-   تحرك الطلاب والنافذون من أجل إلغاء قرار قطع الابتعاث في مراحلة السلك الأول، أو لم تستطع وزارة التعليم العالي توفير العدد الكافي من الأساتذة والتجهيزات في وقت مناسب.

-   صعوبات توفير الموارد المالية للاكتتاب، خصوصا في ظل التعقيدات التي تضيفها وزارة المالية في كل فترة في وجه الاكتتابات، وقد أخذت هذه التعقيدات مسارا تنافسيا بين الوزراء، حيث يتعهد كل وزير بترك بصمة من الصعوبات أمام المواطنين، وتتزايد صعوبة هذه المرحلة، بسبب مسؤولية أكثر من وزارة عن الوصول إلى أهداف هذه المتغيرات الجديدة للتعليم العالي.

-    قصر عمر الحكومات بشكل عام، وهو ما قد يجعل المتحمسين لهذا المشروع عرضة للإقالة في أي وقت، وكالعادة الموريتانية، فإن الإقالة لا تعني خروج موظف عمومي من منصبه، لكنها تعني أيضا نهاية مشروع وسياسة وبداية أخرى.

لايمكن إغفال شخصية الوزير، وهل سيواصل المشوار  فتاريخه القريب غير المتناسق بين الثورية في مأموريته الأولى ومخاصمة الحكومة ووزارة التعليم، فالكل يتذكر خصوماته المتعددة ضد من  وصفهم بالفساد من أمثال أحد وزراء التعليم.

ثم أخذ بعد ذلك استراحة محارب فلم يعد ينتقد الحكومة، بل أصبح من الفسطاط الداعم لها، رغم أن الفساد مازال موجودا.. 

وبين السلبيات والإيجابيات لا يخفى أن التعليم العالي مقبل على توجهات جديدة، وعلى متغيرات، تحمل في كثير من تفاصيلها متغيرات إيجابية في هيكلة التعليم، لكنها تواجه قدرة الإدارة الموريتانية على تفريغ القرارات الثورية من محتواها.