موضوع إسهام المحظرة الشنقيطية في البحث العلمي موضوع ثري لم نجد حتى الآن من اهتم به من الدارسين الوطنيين المعاصرين بما فيه الكفاية، بل يمكن القول إنه ما زال بكرا فهو بحاجة إلى من ينبه عليه حتى يكون ذلك فاتحة لاهتمام أهل الشأن الثقافي به وإعطائه ما يستحق من العناية.
وهذا ما جعلني – ولست أهلا – أتجاسر وأتكلف الحديث عنه عسى أن يكون في ذلك تنبيه لمن هم أجدر مني وأقدر على الخوض في غمار بحر زاخر من المعارف المتنوعة استطاع أجدادنا
أن يضيفوها إلى معارف من سبقوهم وأن يزيدوا فيها ويجددوا ويستدركوا ويصوبوا ويبتكروا، حتى أورثونا كما هائلا من المسائل المفيدة والطريفة.. وأصبح من الواجب علينا استجلاء واستنطاق تك المعارف والكنوز الدفينة وفاء لواجبنا الثقافي من جهة وتثمينا لهؤلاء الأجداد والأحفاد الذين ما زالوا – وحتى اليوم – يضيفون المفيد والمفيد في مجالات علمية شتى.
إننا لا نحتاج الكثير من النظر لندرك أن هنالك العديد من ملامح التجديد وشواهد التفوق ودقة النظر لدى علماء المحظرة الشنقيطية وفي مختلف مراحلها المحفوظة، وفي جميع ميادين المعرفة المتداولة جيلا بعد جيل وحتى اليوم لله الحمد.
تتجلى هذه الملامح والشواهد في الاستدراكات والاستشكالات والتصويبات الكثيرة التي أوردها هؤلاء على بعض الأقدمين في شتى الفنون،
فمنهم من أفرد التآليف لذلك الغرض، ومنهم من أورد ملاحظاته واستشكالاته هنا وهناك في ثنايا مؤلفاتهم خصوصا في شروحهم لبعض المتون المعتمدة في المحاظر ومنهم من يوردها ارتجالا في أثناء مجالس دروسهم.
ولا شك أن مثل هذه الاستدراكات والاستشكالات – وهي كثيرة ومتنوعة – تشمكل مادة غنية يمكن للدارسين أن يجدوا فيها ما يروي نهمهم في البحث والتقصي عن الجديد والمستطرف في مجالات اهتماماتهم المتعددة.
وبما أنني لم أجد من بين الدارسين حتى الآن من يهتم بهذا الجانب فقد بدأت منذ عدة سنوات أهتم به وأجمع منه بعض النماذج كلما وجدت الفرصة لذلك أملا أن يكون ذلك فاتحة لطرق هذا الجانب البكر من جوانب العطاء العلمي الثري لعلماء المحظرة الشنقيطية والذي ما زال بحمد الله يتواصل ويتجدد، نقول يتواصل ويتجدد، لأننا نرى اليوم أجيالا من طلبة المحاظر أصبحوا مع الوقت – وهم في مساكنهم البدوية – يتصدرون للتدريس والتأليف وتحقيق المتون الصعبة، وشرح الدواوين وتنقيح المسائل والإشكالات الدقيقة التي ربما تكون قد فاتت بعض الأقدمين.. إلى غير ذلك من أوجه النشاط المعرفي التي ترقى في كمها وكيفها – إن لم نقل تفوق في بعض الأحيان – مجهودات بعض المؤسسات العلمية الحديثة.
ومن أجل إعطاء فكرة أوضح وأشمل عن هذا الموضوع فسنقدم لكم نماذج متفرقة من تلك الاستدراكات والملاحظات التي تتناول مختلف الفنون مع أننا سنعطي الأولوية لما يتعلق منها بفنون الأدب من لغة ونحو وتصريف وبلاغة، نظرا إلى أنها الأنسب اليوم.
فمن أطرف ما رأينا من ذلك وأغربه تواتر العديد من العلماء – أصوليين ومحدثين – على إيراد آية من القرآن الكريم على غير وجهها الصحيح.
منهم الجلال المحلي[1] في شرحه لجمع الجوامع لابن السبكي عند قول المصنف في باب الأمر – من المباحث اللغوية – (ا م ر[2] حقيقة في القول المخصوص مجاز في الفعل وقيل للقدر المشترك وقيل هو مشترك بينهما قيل وبين الشأن والصفة والشيء) قال في شرحه "لاستعماله فيها أيضا نحو إنما أمرنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون"[3].
ومنهم الشيخ محمد عبد الرؤوف المناوي في كتابه فيض القدير بشرح الجامع الصغير، حيث يقول في شرحه لحديث "إذا تمنى أحدكم فليكثر فإنما يسال ربه" فقد جاء فيه بعد كلام ... فينبغي للسائل إكثار المسألة ولا يختص ولا يقتصر فإن خزائن الجود سماء الليل والنهار أي دائمة لا ينقصها شيء ولا يفنيها عطاء وإن جل وعظم لأن عطاءه بين الكاف والنون «إنما أمرنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون»[4].
فإن هذين العالمين الجليلين قد أوردا هذه الآية على غير وجهها ووقع ذلك للكثيرين بعدهم ولم نجد من انتبه لذلك حتى اليوم..، فالتلاوة: «إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون»[5] ومما يستدرك على الأقدمين: وجود المضارع المسند إلى المتكلم مفتتحا بالياء على خلاف القاعدة المقررة عندهم:
قال ابن مالك في التسهيل (والمضارع افتتاحه بهمزة للمتكلم مفردا أو نون له عظيما أو مشاركا أو بتاء للمخاطب مطلقا) أي مفردا كان نحو زيد يقوم أو مثنى نحو الزيدان يقومان أو مجموعا نحو الزيدون يقومون (والغائبات..) إلخ[1].
هكذا قالوا وعلى هذه التحديدات بنوا القاعدة، ومع ذلك فقد وجد في كلام فصحاء العرب إسناد المضارع مبدوء بالياء إلى المتكلم كما في قول الفرزدق:
أنا الذائد الحامي الذمار وإنما يدافع عن أحسابهم أنا أو مثلي
فقد تخلفت القاعدة هنا مرتين:
الأولى حيث وجد المضارع المسند إلى المتكلم مفتتحا بالياء، الثانية وجود المضارع المفتتح بالياء مسندا لغير الغائب.
والعجيب أنهم استشهدوا بهذا البيت عند قول ابن مالك في الضمائر:
وفي اختيار لا يجيء المنفصل إذا تأتى أن يجيء المتصل
مستدلين به على وجوب انفصال الضمير إذا كان محصورا، ومع ذلك لم نر منهم من انتبه لتخلف هذه القاعدة هنا.
ومن ذلك اشتراطهم في إعراب كلا وكلتا إعراب المثنى أن يكونا مضافين للضمير، حيث يقول ابن مالك:
بالألف ارفع المثنى وكلا إذا بمضمر مضافا وصلا
كلتا كذاك ...
فهذه القاعدة ليست على إطلاقها، فكنانة يعتبرون معنى كلا ويعربونها إعراب المثنى كما في قول الشماخ
كلا يومي طوالة وصل أروى ظنون ءان مطرح الظنونا
والحجازيون يفصلون فإذا أضيفت إلى الأصل وهو الاسم الظاهر، أعطيت الأصل وهو الإعراب بالحركات، وفي حال إضافتها إلى الفرع وهو الضمير أعطيت الفرع وهو الإعراب بالحروف.
ومنه جعلهم ضرورة ما ليس كذلك، حيث قالوا في كلامهم على إعراب المضارع المعتل عند قول ابن مالك في باب المعرب والمبني:
وأي فعل آخر منه ألف
فالألف انو فيه غير الجزم
والرفع فيهما انو حذف جازما
أو واو أو ياء فمعتلا عرف
وابد نصب ما كيدعو برم
ثلاثهن تقض حكما لازما
قالوا هنا وأما قوله:
إذا العجوز غضبت فطلق ولا ترضاها ولا تملق
وقوله
هجوت زبان ثم جئت معتذرا عن هجو زبان لم تهجو ولم تدع
والحقيقة أنه لضرورة هنا، فالبيت الأول من الرجز ولا مانع من أين يقول.. ولا ترضها لأن الرجز يدخله الزحاف .. كما هو معروف، والبيت الثاني من البسيط ولا مانع من أن يقول.. لم تهج لجواز الحذف بالطي في البسيط كما في قول علقمة:
كأس عزيز من الأعناب عتقها لبعض أربابها حانية حوم
ويحتم أن يكون إثبات الألف في البيت الأول والواو في البيت الثاني من باب إشباع الحركة بالمد كما ذكروا في قول عنترة:
ينباع من ذفرى غضوب جرة زيافة مثل الفنيق المقرم
وقول الآخر
وإنني حيثما يثني الهوى بصري من حيثما سلكوا أدنوا فانظور
وقول اآخر
ألم ياتيك والأناء تنمي بما لاقت لبون بني زياد
وقراة قنبل: «قال أنا يوسف وهذا أخي قد من الله علينا إنه من يتقي ويصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين»[1].
إلى غير ذلك من لاأقوال[2].
ومما يستدرك عليهم تمثيلم – في باب الضمائر لتشديد هي بقوله:
النفس إن دعيت بالعنف آبية وهي ما أمرت بالرفق تأتمر
ولا شاهد فيه لجواز الخبل[3] في البسيط كما في قوله:
فزعموا أنهم لقيهم رجل فأخذوا ماله وضربوا عنقه
وكان الأولى أن يمثلوا بشاهد لا احتمال فيه ومنه قوله:
كأن ثياب راكبه بريح جرين وهيّ ساكنة الهبوب
لوجوب تشد يد الياء هنا ليستقيم الوزن، لأن مفاعلتن لا يدخلها الزحاف بالكف[4].
وفي زيادات الشناقطة على الأقدمين استظهارهم لأن لولا ترد بمعنى لولم، وذلك عند قو ابن مالك:
وبعد لولا غالبا حذف الخبر حتم..
قال الشيخ محمد الحسن بن أحمد الخديم في قول غيلان يصف إبلا:
تخال المهى الوحشي لولا يبينها شخوص الورى للناظر المتأمل
قال إن لولا هنا معناها لولم، وإلا لوليها المبتدأ..
ومما استدركه – كذلك – التدافع الحاصل بين كلامهم على إثبات وحذف نون يكن في باب كان وأخواتها، وباب الوقف، يقول ابن مالك في باب كان:
ومن مضارع لكان منجزم تحذف نون وهو حذف ما التزم
فقد قالوا هنا إن نون يكن إذا لاقت ضميرا متصلا لم تحذف اتفاقا كقوله صلى الله عليه وسلم لعمر رضي الله عنه في ابن صياد[1] [إن يكنه فلن تسلط عليه وإلا يكنه فلا خير لك في قتله] فلا يجوز حذف النون فلا تقول "إن يكه" ولا "وإلا يكه".
وعند قوله في باب الوقف :
وقف بها السكت على الفعل المعل
وليس حتما في سوى ما كع أو
بحذف آخر كأعط من سأل
كيع مجزوما فراع ما رعوا
قالوا هنا أن نحو لم يك لا يوقف عليه بالهاء خوف اللبس بضمير النصب.
والواقع أنه لا محل للبس بضمير النصب هنا، لامتناع حذف النون معه كما ذكرنا آنفا فليتأمل.
ومن ذلك التعارض الحاصل بين كلامهم على كأن في باب النواسخ وكلامهم عليها في باب إعراب الفعل المضارع.
فقد قالوا في باب النواسخ عند قول ابن مالك:
لإن أن ليت لكن لعل كأن عكس ما لكان من عمل
قالوا إن كأن لا ترد للنفي.
بينما قالوا – في الكلام على نواصب الفعل المضارع عند قوله:
وألحقوا بالنفي تشبيها ورد مكانه[2]
ومثلوا للتشبيه الوارد مكان النفي بقولهم "كأنك وال علينا فتشتمنا"، وفيه تعارض واضح مع ما تقدم من أن كأن لا تأتي للنفي.. فلينظر. ورود اسم لا المشابه للمضاف مبنيا على خلاف القاعدة المطردة.
فقد قال ابن مالك، في باب لا التي لنفي الجنس:
فانصب بها مضافا و مضارعه وبعد ذاك الخبر إذ كر رافعه
قالوا هنا إن مضارع المضاف هو المشابه له، والمارد به كل اسم له تعلق بما بعده إما بعمل نحو لا طالعا جبلا ظاهر ولا خيرا من زيد راكب، وإما بعطف نحو
لا ثلاثة وثلاثين عندنا ويسمى المشبه بالمضاف مطولا وممطولا أي ممدودا، وحكم المضاف والمشبه به النصب كما مثل[3].
وعلى خلاف ما ذكروا هنا فإننا رأينا اسم لا مبنيا مع استحقاقه للنصب بمشابهته للمضاف، وذلك في قوله:
فلا أب وابنا مثل مروان وابنه إذا هو بالمجد ارتدى وتأزرا
استشهادهم لحذف اسم لا وخبرها معا بقوله:
وخير نحن عند البأس منكم إذا الداعي المثوب قال يالا
حيث قالوا إن المعنى يا قوم لا فرار لكم.
ولا شاهد فيه لأن ما ذكروا هنا واحد من عدة احتمالات منصوصة عندهم:
منها أن اللام في المستغاث بقية اسم وهو آل، والأصل يا آل زيد ثم حذفت همزة آل للتخفيف وإحدى الألفين لالتقاء الساكنين واستدل أهل هذا القول بنفس البيت: وخيرنحن إلخ.
ومنها أن الأصل يا قوم لا فرار، أو لا مفر، ومنها أن الأصل يا فلفلان ثم حذف ما بعد الحرف كما يقال ألا تا,,, وألا فا،،، أي ألا تأكلون.. ألا فافعلوا[1].
وكما هو معلوم فإن القواعد لا تثبت بالمحتملات.
وكان الأولى لو مثلوا لحذف اسم لا وخبرها معا بقوله صلى الله عليه وسلم: "كل بناء فهو وبال على صحابه إلا مالا إلا مالا" يعني ما لا بد منه، قال ابن القيم: هذا تفسير من أحد الرواة وبه فسر ابن حجر في فتح الباري وزين الدين العراقي في تخريج أحاديث إحياء الدين[2].
ومن ذلك قول ابن مالك في الكافية في باب الاستثناء:
ونحو ما في دار زيد رجل
ترجيح نصبه وترجيح البدل
إلا أخوك صالح يحتمل
ولو يسويان لم يلزم خلل
يعني أنه يمكن ترجيح كون أخوك بالرفع بدلا من رجل المستثنى منه متقدما على صالح الواردة نعتا لرجل إذ المعنى ما في دار زيد رجل صالح إلا أخوك. وهذا مشكل لأننا إذا قلنا بترجيح رفع أخوك على البدلية لزم عليه تقدم البدل على النعت وهو أمر مخالف للقاعدة المعروفة من لزوم تقدم النعت على غيره من التوابع كما قال:
النعت والبيان توكيد بدل ونسق ترتيبها كذا انجعل
وهذا إشكال لم نر منهم من تنبه له.
ومن ذلك إهمالهم للحكم في الفصل بين إلا ومدخولها كما في قوله يصف حية:
وقرناء يدعو اسمها وهو مظلم له صوتها أو – إن رآها – زمالها
زيادة التوكيد اللفظي على ثلاث، خلافا لما هو متعاد عندهم.
يقول ابن مالك:
وما من التوكيد لفظي يجي مكررا كقولك ادرج ادرج
قال الصبان في شرحه: (مكررا) أي إلى ثلاث مرات فقط لاتفاق الأدباء على أنه لم يقع في لسان العرب أزيد منها كما نقله الدماميني عن العز بن عبد السلام[3].
والواقع أن التوكيد اللفظي ورد في لسان العرب أزيد من ثلاث في عدة مرات ومن أمثلته:
1. حديث البخاري عن جابر بن عبد الله أن رسول اله صلى الله عليه وسلم بارك على خيل أحمس ورجالها خمس مرات ..
2. حديث التغليظ في قول الزور من حديث عكرمة[ألا أنبئكم بأكبر الكبائر قالها ثلاثا قالوا بلى يا رسول الله بلى قال ألا وقول الزور وما زال يكررها حتى قلنا ليته سكت][4].
3. قوله تعالى «أولى لك فأولى ثم أولى لك فأولى»[5].
ومن ذلك تخييرهم في تضعيف الثنائي في النسب وعدمه فقد قالوا في باب النسب في الكلام على النسب إلى الثلاثي المحذوف منه شيء، - إنه إن لم يجبر في الجمع لم يجب جبره في النسب بل يجوز فيه الأمران نحو حر وغد وشفة وثبة فتقول فيها – أي في النسب إليها – حري وغدي وشفي وثبي بالحذف، وحرحي وغدوي وشفهي وثبوي بالجبر برد المحذوف وهو من حر الحاء ومن غد الواو ومن شفة الهاء ومن ثبة الواو[6].
وكذلك قالوا في الكلام على النسب إلى محذوف العين عند قول ابن مالك:
وإن يكن كشية ما ألفا عدم فجبره وفتح عينه التزم
قالوا: إن حكمه إن كانت لامه صحيحة لم يجبر كقولك في سه[7] ومُذ – سهي بهما – سهي ومُذِي وأصلها سته ومنذ[8].
وكذلك قولهم عند قول ابن مالك في نفس الباب:
وضاعف الثاني من ثنائي ثانيه ذو لين كلا ولاء
إنه إذا نسب إلى الثنائي وضعا فإن كان ثانيه حرفا صحيحا حاز فيه التضعيف وعدمه فتقول في كمْ كمّي بالتضعيف وكمي بدون تضعيف[9].
وجميع ما قالوا هنا من جواز الجبر وعدمه فيما حذف منه شيء وجواز التضعيف وعدمه في الصحيح الثنائي وضعا مشكل لتعارضه ما قالوا في بداية الباب إن ياء النسب لا تقع إلا بعد ثلاثة أحرف فأكثر كما يقول ابن مالك:
ياء كيا الكرسي زادوا في النسب
ومثله مما حواه احذف وتا
وكل ما تليه كسره وجب
تأنيث أو مدته لا تثبتا
قالوا إنه يحذف لياء النسب كل ياء تماثلها في كونها مشددة بعد ثلاثة أحرف فصاعدا[10].
فبحث رفع توكيد منصوب إن قياسا على رفع المعطوف عليه، فقد قال ابن مالك في الكلام على إن وأخواتها:
وجائز رفعك معطوفا على منصوب إنّ بعد أن تستكملا
قال الأشموني في شرحه أو جاز بالإجماع "رفعك معطوفا على منصوب إن المكسورة (بعد أن تستكملا) خبرهما نحو إن زيدا آكل طعامك وعمرو ومنه:
فمن يك لم ينجب أبوه وأمه فإن لنا الأم النجيبةَ والأبُ
ثم قال وليس معطوفا حينئذ على محل الاسم مثل ما جاءني من رجل وامرأةٌ بالرفع لأن الرافع في مسألتنا الابتداء وقد زال بدخول الناسخ[11]، وقال ابن عقيل المشهور أنه معطوف على محل اسم إن فإنه في الأصل مرفوع لكونه مبتدأ ويشعر به ظاهر كلام المصنف[12].
وعند قوله:
وأخبروا بظرف أو بحرف جر ناوين معنى كائن أو استقر
قالوا (ناوين) معنى متعلقهما إذ هو الخبر حقيقة حذف وجوبا وانتقل الضمير الذي كان فيه في الظرف والجار والمجرور، وزعم السيرافي أنه حذف مع المتعلق المنوي الذي هو كائن أو استقر ولا ضمير في واحد منهما – يعني الظرف والجار والمجرور – وهو مردود بقوله:
فإن يك جثماني بأرض سواكم فإن فؤادي عندك الدهر أجمع[13]
ولنا أن نتساءل هنا لماذا لا يصح أن يكون المؤكد هنا فؤادي مراعاة لمحلها الأصلي الذي هو الرفع قياسا على صحة العطف على منصوب إن بالرفع خصوصا وأنهم قالوا هنا: إن النعت والتوكيد وعطف البيان كعطف النسق عند الجرمي والزجاج والفراء تقول إن زيدا قائم الفاضل أو أبو عبد الله أو نفسه بالنصب والرفع[14].
وفي بعض ما ذهبنا إليه ما حكاه سيبويه من إن ناسا من العرب يقولون إنهم أجمعون ذاهبون وإنك وزيد ذاهبان" وأما قوله إنهم يغلطون[15] بقولهم ذلك فغير مسلم[16].
من المعروف أن البيانيين يمنعون التوكيد بالعطف لأنهم يرون أن التكويد هو غير المؤكد ويعبرون عن ذلك بكمال الاتصال.
قال السيوطي في باب الوصل والفصل من عقود الجمان ثم كمال الاتصال مثل أن يكون توكيدا للأولى، قال في شرحه: الحال الثاني كمال الاتصال باب تكون
الثانية مؤكدة للأولى أو بدلا منها أو عطف بيان وإنما وجب الفصل بينها لكونها توابع عين المتبوع والعطف يقتضي المغايرة[17]. هكذا يقول علماء المعاني وهو غير مسلم فقد ورد التوكيد بالعطف في القرآن وفي شعر العرب، قال تعالى «أولى لك فأولى ثم أولى لك فأولى»[18]. وقال تعالى «كلا سوف تعلمون ثم كلا سوف تعلمون»[19].
وقد عقد الشيخ محمد الحسن بن أحمد الخديم المسألة بقوله:
عطفك توكيدا من المحال
ولمغايرة أيضا اقتضى
وعطفه عن النحاة يوثر
عنه أبت شدة الاتصال
فما لدى أهل المعاني يرتضى
جوازه وهو بثم أكثر
وجود جملة الشرطية بدون الواو
قال السيوطي في نهاية باب الوصل والفصل في الكلام على جملة الحال:
قلت وذات الشرط واوا تلزم إذ فقدت فالامتناع يحتم
قال في تلخيصه لعمله في الباب: ثم نبهت من زيادتي على أن جهة الحال إذا وقعت شرطية تلزمها الواو نحو جاء زيد وإن يسأل يعط[20].
والحق أنها تجيء حالا بواو وبدونه.
فمثال ورودها مقرونة بالواو قوله تعالى «كيف وإن يظهروا عليكم»[21] ومثال ورودها دونه قوله تعالى «فمثله كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث»[22].وقد حرر المسألة – مستدركا فيها على السيوطي – الشيخ محمد الحسن بن أحمد الخديم بقوله:
وجملة الشرط كإن تحمل عليه[23]
وجا بها في قوله كيف وإن
فاعجب لما قال السيوطي العلم
فالحق وهو باتباع أولى
حالا تجي والواو لم تحتج إليه
من قبل يظهروا عليكم مقترن
قلت وذات الشرط واوا تلزم
مجيئها حال بواو أو لا
عطف العام على الخاص وعكسه
مما لاحظ الشيخ محمد الحسن ولد أحمد الخديم على النحاة والبيانيين اقتصارهم على التمثيل بالمفرد في عطف العام على الخاص وعكسه دون أن يمثلوا لهما في الجملة:
قال فمثال عطف العام على الخاص قوله تعالى «نزل عليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه وأنزل التورية والإنجيل من قبل هدى للناس وأنزل الفرقان»[24].
ومثال عطف الخاص على العام قوله تعالى «إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة لهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون»[25].
كما استشكل اختلاف الفريقين في عدد من المسائل منها مسألة حذف بعض الكلمة في الشعر كما في قوله:
درس المنا[26] .. بمتالع فأبان فتقادمت فالحبس فالسوبان
فقد عده النحاة من الضرورة في حين جعله البيانيون من البديع وسموه اكتفاء.
توكيد الإخبار
قسم علماء البلاغة الإخبار باعتبار التوكيد، وعدمه إلى ثلاثة أقسام الأول يسمى الابتداء وهو خطاب خالي الذهن ولا يحتاج إلى توكيد.
الثاني يسمى الطلبي وهو خطاب الشاك والمتردد ويستحسن التوكيد في حقه بموكد واحد.
الثالث ويسمى الإنكاري وهو خطاب المنكر ويجب فيه التوكيد بقوة بحسب درجة الإنكار ومثاله قوله تعالى حكاية عن رسل عيسى عليه السلام إذ كذبوا في المرة الأولى «إنا إليكم مرسلون» فأكد بأن واسمية الجملة وفي المرة الثانية «ربنا يعلم إنا إليكم لمرسلون» فأكد بالقسم وإن واللام واسمية الجمة ، وإلى هذه المراتب الثلاث أشار السيوطي بقوله فإن تخاطب خالي الذهن ..إلخ. لكن فات علماء البلاغة هنا أن التوكيد في الإخبار قد يجيء لنكت غير نفي الشك والإنكار.
فقد يجيء التوكيد بأن في الإخبار للدلالة على أن المتكلم كان يظن في الذي رآه كان أنه لا يكون ومثاله قوله تعالى حكاية عن نوح عليه السلام: «قال رب إن قومي كذبون» وقوله تعالى «قالت رب إني وضعتها أنثى».
وقد يجيء التوكيد بإن إذا كان نظم الكلام لا يليق إلا بها كما في قوله تعالى «إنه من يتق ويصبر» إذ لا يمكن يجيء ضمير الشأن مع جملة الشرط إلا إذا اقترنت بإن.
وقد يجيء التوكيد بها إذا كان فيه مزيد تحسين للكلام كما في قوله:
إن دهرا يلف شملي بجمل لزمان يهم بالإحسان
هذا وهناك العديد من البحوث والزيادات في فنون اللغة والتصريف وفي أصول الفقه وقواعده وفي مصطلح الحديث وفي التاريخ والسيرة يمكن أن نتطرق لنماذج منها – إذا سمح الوقت – إن شاء الله.
[1] راجع مغني اللبيب عن كتب الأعاريب لجمال الدين ابن هشام الأنصاري تحقيق الدكتور مازن المبارك ومحمد علي حمد الله – دار الفكر – بيروت لبنان، ط1، 1425 – 1426هـ - 2005م. ج1 ص216.
[2] انظر عون المعبود ج13 ص151.
[3] انظر حاشية الصبان على الأشموني ج3 ص79
[4] رقم 2654 باب ما قيل في شهادة الزور.
[5] سورة القيامة الآيتان 33-34
[6] راجع الأشموني على ألفية ابن مالك ج4 ص193.
[7] السه: الدبر.
[8] نفس المرجع ص197.
[9] نفس المرجع ص196 - 197
[10] نفس المصدر ج4 ص196-197
[11] انظر الأشموني على الألفية ج1 ص445 – 446 المكتبة التوفيقية، تحقيق طه عبد الرؤوف سعيد، بلا عنوان ولا تاريخ.
[12] راجع ابن عقيل على الألفية ج1 ص290.
[13] راجع الأشموني وحاشية الصبان عليه المجلد الأول ص199 – 201 دار الفكر بدون تاريخ.
[14] راجع اصبان على الأشموني ج1 ص445 مرجع سابق.
[15] من باب فرح كما قال الصبان.
[16] راجع حاشية الصبان على الأشموني ج1 ص448.
[17] راجع شرح عقود الجمان في علم المعاني والبيان للجلال السيوطي ص60 – 62، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع بدون تاريخ.
[18] سورة القيامة 33-34
[19] سورة التكاثر 3-4
[20] راجع شرح عقود الجمان للسيوطي ص65-67
[21] الآية 7 سورة التوبة.
[22] الآية 176 الأعراف
[23] إشارة إلى قوله «فمثله كمثل الكلب» الآية
[24] الآيتان 2-3 سورة آل عمران
[25] الآية 276 سورة البقرة.
[26] أي المنازل
[1] غلام اسمه صاف ادعى النبوءة في عهده صلى الله عليه وسلم وقد هم عمر رضي الله عنه بقتله فقال له عليه السلام إن يكنه، الحديث.
[2] ....... وربما نفوا بقد
فينصب الجواب بعد .. إلخ
[3] ج1 ص245 دار الفكر بدون تاريخ
[1] الآية 90 من سورة يوسف
[2] راجع الأشموني على ألفية ابن مالك وحاشية الصبان عليه والعيني على الشواهد ج1 ص177.
[3] اجتماع الخبن والطي
[4] حذف الرابع المسكن ويدخل في مفاعيلي وفاعلاتن فقط: انظر نظم وطرة محمد بن عبدي في العروض مخطوط.
[1] راجع المساعد على تسهيل الفوائد لابن مالك، لمؤلفه الإمام بهاء الدين ابن عقيل ج1 ص10-11، دار الفكر، دمشق 1400 – 1980.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] هو محمد بن أحمد بن محمد بن إبراهيم الشافعي، أصولي مفسر ولد وتوي بالقاهرة (791 – 864هـ) قال عن نفسه "إن ذهني لا يقبل الخطأ ولم يكن يقدر على الحفظ كان لهيبا صداعا بالحق، وله مؤلفات عديدة مفيدة، الإعلام لخير الدين الزركلي.
[2] مراده لفظ أو على زنة المصدر، عبد الرحمن الشربيني امجلد 1 ص464 ط أولى دار الكتب العلمية بيروت لبنان، بدون تاريخ.
[3] راجع شرح المحلي لجمع الجوامع المجلد 1 ص464 الطبعة الأولى دار اكتب العلمية بيروت لبنان، بدون تاريخ.
[4] راجع كتابه فيض القدير بشر الجامع الصغير المجلد الأول ص320 الطبعة الثانية 1391 -1972 دار المعرفة بيروت، ص319 - 320
[5] الآية 4 سورة النحل