بسم الله الرحمن
مقدمة
رغم ما كان يتخبط فيه العربي من اللجاج في الطغيان وتنكب جادة الطريق القويم، إلا أن مجتمع العرب الجاهلي الأمي كان على بقية من مكارم الأخلاق والشيم لعلها كانت السر في اختيار ذلك المجتمع الاستقبال أعظم رسالة عرفها التاريخ، تلكم الرسالة الخاتمة ذات الكتاب المهيمن، والمؤذن بانقطاع خبر السماء.
ولعل أبرز معالم تلك الأخلاق وأبقاها في الذاكرة ما كان يتمتع به العربي القديم من سمات النجدة والجود والبذل تجاه عابري السبيل، فجاءت الرسالة المهيمنة فعضدت ذلك وأكملته بالحض على إكرام الضيف والعناية به من خلال آيات عدة جاءت آمرة بإكرام الضيف والإحسان إليه، ثم أوصى به صلى الله عليه وسلم بل جعله من الإيمان (عن أبي شريح الكعبي " أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه، جائزته يومه وليلته، والضيافة ثلاثة أيام، وما بعد ذلك فهو صدقة، ولا يحل له أن يثوي عنده حتى يحرجه»)[1].
بل إن الإسلام ذهب أبعد من ذلك فشرع الحق في الضيافة حقا واجبا، يقضى بها ويؤخذ مغالبة، يقول ابن حزم: " الضيافة فرض على البدوي، والحضري، والفقيه، والجاهل: يوم وليلة: مبرة وإتحاف، ثم ثلاثة أيام: ضيافة ولا مزيد، فإن زاد فليس قراه لازما، وإن تمادى على قراه: فحسن - فإن منع الضيافة الواجبة فله أخذها مغالبة، وكيف أمكنه، ويقضى له بذلك "[2].
وفي مسعى لتتبع ظاهرة إكرام الضيف لدى العربي القديم كانت هذه المحاولة التي ترمي إلى رصد اهتمام العرب بضيوفهم عبر تتبع ذلك من خلال إنتاجهم الشعري بحكم أن الشعر هو ديوان العرب ولسان حالهم، والمعبر عن واقعهم...
وذلك من خلال النقاط التالية:
أولا: علاقة كرم الضيافة بالبداوة
لعل واقع البداوة أسهم في تجذر تلك الظاهرة وإعطائها المكانة السامقة في منظومة الأخلاق عند القوم، ذلك أن البدوي يكثر حله وترحاله مما يحوجه إلى الضيافة وطلب المأوى، فمن غير المستغرب أنك لن تجد في أدبيات العرب حديثا عن البخل وعدم الضيافة بحجم الحديث عنه لدى لدى أهل المدن كما عليه الحال في حكايات أهل مرو[3].
فالعناية بالأضياف لدى العرب تعني لصاحبها حسن الطالع، ودليل العاقبة الحسنة، وازدهار المستقبل، والبخل والعبوسة في وجه الأضياف –عائذا بالله تعالى- دليل العكس؛ لذلك تفرست خديجة رضى الله عنها في النبي صلى الله عليه وسلم الخير لتحليه بخصال حميدة كان منها إقراء الضيف فقالت: " كلا والله ما يخزيك الله أبدا، إنك لتصل الرحم ، وتحمل الكل ، وتكسب المعدوم ، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق". صحيح البخاري ([4]).
ونجد العربي الآخر يدعو على نفسه بالمصائب ويتوسل لها الثبور إن لم ينتقم من عدوه، وليست تلك المصائب التي يدعو بها على نفسه إلا البخل وعدم البشاشة في وجوه الأضياف، فيقول: [الكامل]
بَــــقَّـــــيْــــــــتُ وَفْــــــــــــــــرِي وَانْــحَـــــــــرَفْــــــــــــتُ عَــــــــــنِ الْـــــــــــعُــــــــــــلاَ
وَلَــــــقِــــــــــــيـــــــــــــتُ أَضْــــــــــــيَــــــــــــافِـــــــــــــي بِــــــــوَجْـــــــــــهِ عَــــــــــبُــــــــوسِ
إِن لَّــــــــمْ أَشُــــــــــــــــنَّ عَـــــــلَـــــــــــــى ابْــــــــــــــنِ حَــــــــــــرْبٍ غَـــــــــــــــــارَةً
لَـــــــمْ تَـــــــخْـــــــــلُ يَــــــــــــوْمـــــــــاً مِـــــــــــنْ نِــــــــهَــــــابِ نُـــــفُوسِ([5]).
ثانيا: ضيافة العربي للجميع:
الضيافة لدى العربي للجميع... حتى الأعداء والخصوم لهم الحق فيها ما أقاموا، بل أكثر من ذلك... فمن ضيافة الضيف عندهم توفير الحماية له، وما من شك أن العدو والخصم أحوج ما يكون إلى الحماية وتوفير الأمان، يقول أحدهم: [الطويل]
فَــــــذُو الْحـــــِلْـــــــــــــمِ مِـــــــنَّـــــــــا جَـــاهِـــــــــلٌ دُونَ ضَـــــيْــــفِــــــــــــــــــــــــــهِ
وَذُو الْجَـــــــهْــــــــــــــلِ مـــــــِنَّــــــــــــا عَــــــــــــــــــنْ أَذَاهُ حَــــــــلـــــــــِيــــــــــمُ[6].
فالضيف مكرم محمي حتى ولوكان عدوا:[الطويل]
وَنَــــادَيـــْــــــتُ شِـــــبْـــــــــــــــلاً فَــــــاسْــــــــتَــــــــــجَـــــــــــــابَ وَرُبَّــــــــــمَــــــــــــــا
ضَــــــمِــــــنَّــــــــا قِــــــــرَى عَـــــشْــــــرٍ لِــــــمَــــــــن لَّا نُــــــصَــــــــافِــــــــــحُ[7].
ثالثا: محبة الضيف:
العربي محب للضيف وشغوف به، حد الوله والجنون، ويبدو ذلك جليا في بشاشة الوجه عند نزول الضيف، والفرح له حد الجذل:[الطويل]
ســــَـــلِـــــــي الــــــــطـَّــــــارِقَ الْــــمُــــعْـــــتَــــــــــرَّ يـَــــــــــــا أُمَّ مَـــــــــــالِــــــــــــكٍ
إِذَا مَــــــــــــا أَتَـــــــــانِـــــــي بـَـــــــيْـــــــــــــنَ قِـــــــــدْرِي وَمَـجْـــــــــــــزَرِي
أَيُـــــــــــــــسـْـــــــــفِـــــــــــــــرُ وَجْـــــــــــهِــــــــــــي أَنَّـــــــــــــــــــهُ أَوَّلُ الْــــــــــــقِــــــــــــرَى
وَأَبْــــــــــــــــذُلُ مَــــــــعْـــــــــــرُوفِـــــــــي لَــــــــــــهُ دُونَ مُــــــــنْـــــــكَـــــرِي([8]).
ويتضاعف ذلك السرور ويتحول قرة عين حال توفر القرى وشبع الضيف، فكأن العربي بذلك أزال عن نفسه كابوسا مخيفا، وفرج هما كاد يقتله...
قال الشاعر:[الطويل]
كَـــــأَنِّــــــــي وَقَــــــــــدْ أَشْـــبَـــــعْـــــتُـــــهُــــــــــمْ مِــــــــــنْ سَـــــــنَــــــــامِـــــــهَــــــــا
جَــــــلَــــــــوْتُ غِــــــطَــــــــاءً عَــــــــــنْ فُــــــــــؤَادِيَ فَــــــــانْجَــــــلَــــــى([9]).
ومن مظاهر تلك المحبة:
- : الاحتيال لقرى الأضياف:
فقد كان العربي يحتال للضيافة ويبذل فيها ما بوسعه طائبة نفسه بذلك، راضيا به مهما كانت الكلفة والمؤونه، المهم أن يشبع الضيف وينام قرير العين: [الطويل]
فَــــــــأَلْــــطَــــفْـــــتُ عَــــيْــــنــــــِي هَـــــــــلْ أَرَى مِـــــنْ سَــــمـــِيــــنَـــــــــــــــــةٍ
وَوَطَّــــــنْـــــــتُ نَــــــــــفْـــــــسِــــــــــــي لِلْـــــــــــــغَــــــــــــرَامَــــــــــــــةِ وَالْــــــــــقِـــــــــرَى
فَــــــــــأَبْـــــصَــــــــــــــــرْتُـــــــــــهَـــــــــــا كَـــــــــوْمَــــــــــــاءَ ذَاتَ عَـــــــــرِيـــــــــكَــــــــــــــةٍ
هِــــــــجَــــــــــانــــــــــاً مِـــــــــــنَ الـــــــــلاَّئِـــــــــــي تَـــمَــــــتَّــــعْـــــنَ بِـــالصُّــوَّى
فَــــــــــأَوْمَــــــــــــأْتُ إِيــــــــــــمَــــــــــــــاءً خَـــــــــــفِـــــــــــيـــــــــــا لِّـــــحَـــــــــبْـــــــتَــــــــــــرٍ
وَللـــــــــــــــــهِ عَــــــــيْـــــــــــنَــــــا حَــــــــــبْــــــــتَـــــــــــــرٍ أَيَّـــــــــــــمَــــــــــــــــا فَــــــــــــتَــــــــــــى
وَقُــــــــــلْــــــــتُ لَـــــــــــهُ أَلْـــــــــــصِـــــــــــــقْ بِـــــــــــأَيْــــــــــبَـــــــــــسِ سَـــــــاقِـــــهَــــا
فَـــــــــــإِنْ يَــــــجْـــــبُـــــــــرِ الْـــــــــعُـــــــــــرْقُـــــــــــــوبُ لاَ يَــرْقَأُالنَّسَا([10]).
- : المغالاة في ثمن الضيافة:
هذا مع المغالاة في رد ثمن القرى باعتباره لايقدر بثمن، فكل ما دفع فيه مسترخص وغير غال كائنا ما كان:[الطويل]
فَــــــــقُـــــلْــــــــتُ لِـــــــــــــــرَبِّ الــــــنَّــــــــــــــــابِ خُـــــــــــذْهَـــــــــــــا ثَــــنِــــيَــــــــــــةً
وَنَـــــــابٌ عَـــــــلَـــــــيْــــــــنَا مِـــــــــثْــــــــــلَ نَـــــــابِـــــــــكَ فِي الْحَيَا[11].
- الاهتمام بوسائل القرى:
وتتجلى تلك المبحة أكثر في الاهتمام بوسائل القرى، فترى أحدهم يمجد قدره ويسترسل في وصفها ويرى لها كل الفضل، لأنها كانت يوما ما سببا في سد خلة عابري السبيل، فأصبحت بذلك محبوبة مدللة تستحق الإشادة والثناء...
[الطويل]
رَفَــــــــعْـــــــــــــــــنَــــــــــا لَــــهَــــــــــا نَــــــــــــاراً تُـــــــــثَـــــــــقَّــــــــــبُ لِـــــــلْـــــــــقِـــــــــــرَى
وَلَــــــــــقْــــــــحَـــــــــةَ أَضْـــــــــيَــــــــــــافٍ طَــــــــــوِيــــــــــــلاً رُكُـــــــــــــودُهَــــــــــــــــــا
إذا أُخْــــلِـــــيَـــــــــــتْ عُــــــــــــــودَ الْــــهَــــــــــشِــــــــــيــــــمَــــــــــــةِ أَرْزَمَــــــــــتْ
جَــــــــــوَانِــــــــبُـــــــــهَـــــــــــا حَــــــــــــتَّـــــــــــى نَــــبِـــــــيــــــــتَ نَــــــــــــــذُودُهَــــــــــــــــا
إِذَا نُــــــــصِــــــــبَــــــــــــتْ للِـــــــــطَّــــــــارِقِـــــــــيـــــــــنَ حَــــــــسِــــبْــــــتَــــــهَـــــــــــــــــا
نَــــــــعَـــــــــــامَــــــــــــةَ حِـــــــــــرْبَــــــــــاءٍ تَـــــــقَـــــاصَــــــرَ جِــــــيدُهَــــــــــا([12]).
- سوء الخلق مع الأهل
ومن مظاهر شغف العربي بضيفه ما يعتري طبيعته من تحول حال حلول الضيف، من الحلم إلى الجهل وسوء الخلق، ومن الصبر والجلد إلى الرقة والخوف، فهو ييبدو حزينا خائفا كئيبا أن لايجد ما يسد خلة الضيف الجائع [الطويل]
بَـــــــــــــــكَــــــــــــــــــى مُــــــــــعْــــــــــــــوِزٌ مِــــــــــنْ أَنْ يُـــــــــــــــــلاَمَ وَطَـــــــــــارِقٌ
يَشُدُّ مِنَ الْجُوعِ الْإِزَارَ عَلَى الْحَشَا([13]).
بل إن حلمه يتحول سوء خلق على أهله حتى يوقدوا النار تحت مراجلهم ويسرعوا في إكرام الضيف: [الطويل]
إِذَا نَــــــــــــــــــــــزَلَ الْأَضْــــــــــــــــيَـــــــــــــــــــــافُ كَــــــــــــــــــانَ عَــــــــــــــــــــــــــذَوَّرًا
عَــــــــــلَـــــــــــــى الْحَـــــــــيِّ حَـــــــتَّى تَــــــسْــــــتَــــــقِـــــــلَّ مَـــــرَاجِـلُهْ([14]).
فيرى أحدهم للمرأة الحق في البيت، وكامل الحرية في التصرف فيه إلا حال حلول الأضياف
فتنتهي تلك الحرية، وتستلب تلك الملكية ، فلا ملكية تسبقهم، ولاحرية تعلو على قراهم، وحسن استقبالهم: [الطويل]
لَـــــــكِ الْــــــبَـــــــيْـــــــــتُ إِلاَّ فَــــــــــيْــــــنَــــــــــــةً تُــــــــحْـــــسِـــــنـــــِيــــنَــــــهَـــــــــــــا
إِذَا حَــــــــــــــانَ مِـــــــــــــــــنْ ضَـــــــــــيْــــــــــفٍ عَـــــــــلَـــــــيَّ نُــــــــزُولُ([15])
- الرعاية المتواصلة
ومن مظاهر محبة العربي لضيفه تلك الرعاية المتواصلة للضيف ومرافقته في كل أحواله وحراسته، فهو الشغل الشاغل لاشغل يحول دونه مهما كانت أهميته، وعظمته في النفس: [الطويل]
لِــــــحـَــــــــافِـــــــي لِـــــحَــــــافُ الـــــــضَّــــــيْــــــــفِ وَالْــــبَـــيْـــتُ بَــيْــتُــــــــهُ
وَلَـــــمْ يُــــــــلْـــــــــهِــــــــــــنِـــــــــــي عَـــــــــــــنْــــــــــــــــهُ غَــــــــــــــــزَالٌ مُـــــــقَــــــنَّـــــــــــــعُ
أُحَــــــــــــدِّثُـــــــــــــــــهُ إِنَّ الْحَـــــــــــــــــــدِيــــــــــــــــثَ مِــــــــــــــــنَ الْـــــــــقِــــــــــــــرَى
وَتَـــــــعْـــــــلَــــــــمُ نَــــــفْـــــسِـــــــي أَنَّــــــــهُ سَـــــوْفَ يَــــهْــــجَــــــــــعُ([16]).
- موقف الحيوانات من الضيف
ومن تعلق العربي بضيفه أن ذلك ينعكس في طبيعة الحيوانات لديه، فكلاب العرب لفطنتها وذكائها وديعة مع الأضياف ومحبة لهم لما رأته من حب أصحبها للأضياف وتعلقهم بهم.
يقول الشاعر: [الكامل]
يُـــــــغْـــــــشَــــــــــوْنَ حَـــــــــــــــتَّى مَــــــــــــا تَــــــهِـــــــــــــــرُّ كِــــــــــــــــــلاَبُــــــــــهُــــــــمْ
لاَ يَــــــــسْــــــئَــــــلُــــــــونَ عَـــــــــــــــنِ الــــــسَّـــــــــــــوَادِ الْـــمُــــقْــــبِــــــــــــلِ[17].
في حين أن بقية حيواناتهم التي تكون عادة ضحة لقرى الأضياف أصبحت تكره الأضياف لأنها ستهلك لا محالة بحلوهم، أو يتضرر فصلانها بسبب إيثار الأضياف بلبانها...
يقول الشاعر: [الكامل]
حَــــــبِــــــيـــــبٌ إِلَــــــى كَــــــلْــــــبِ الْــــــكَــــــرِيــــــــمِ مَــــــــنَـــــــــــــاخُـــــــــــــــــهُ
بَـــــغِــــــــيـــــــضٌ إِلَــــــــى الْـــــكَـــــوْمَـــــاءِ وَالْـــكَــــلْـــــبُ أَبْـــصَـــــرُ[18].
ويفتخر الأخر بقوله: [الوافر]
وَمَـــــــــــــا يَـــــــــــــــكُ فِــــــــــــــــيَّ مِـــــــــــــــــنْ عَــــــــــــيْــــــــــــبٍ فَـــــــــإِنِّـــــــــــــــــي
جَـــــــــــــبَـــــــــانُ الْـــــــــكَـــــــــلْـــــــــبِ مَــــهْــــــــزُولُ الْـــــفَــــــصِـــــــيـلِ([19])
ويقول الآخر: [البسيط]
تَــــــــــــرَكْـــــــــــــتُ ضَـــــــــــأْنِــــــــــــي تَـــــــــــــوَدُّ الـــــــذِّئْـــــــــبَ رَاعِــــــــيَــــــــهَا
وَأَنَّـــــــــــــــــــهَـــــــــــــــا لاَ تَــــــــــــــــــــرَانــــــــــــــــــــــــِي آخِــــــــــــــــــــــرَ الْأَبَـــــــــــــــــــــــدِ
الــــــــــذِّئْـــــــــبُ يَـــــــطْــــــــــرُقُـــــــــهَـــــــــــا فِـــــــــــــــــي الــــــدَّهْــــــرِ وَاحِـــــدَةً
وَكُـــــــــلَّ يَـــــــــــوْمٍ تَـــــــــرَانِــــــــــي مُــــــدْيَــــــــــــــةٌ بِــــــــــــــيَـــــــــــــــــدِي([20]).
فالضيف متشوف لرؤيته ومتشوق لمجيئه، وتستخدم لذك مختلف الوسائل من التجسس والتحسس لعل أحدهم أن يظفر بضيف قبل أن يظفر به الآخرون، لذلك يوقدون النار بالليل، وينزلون المرتفاعت بل يذمون بنزول التلاع والمنخفضات لأنها لا تجلب الأضياف.
رابعا: الوسائل المستخدمة في جلب الأضياف
كان العرب يستنجدون بوسائل كثيرة ومتنوعة لمحاولة استدراج الضيف والظفر به ومن تلك الوسائل:
- النار:
والنار متعددة الفوائد بالنسبة للبداة المسافرين، فهي تعني لهم منار هداية، وأداة اصطلاء حال اشتداد البرد، فقد امتن بها تعالى في كتابه فقال تعالى: {وَمَتَاعًا لِلْمُقْوِين}[21]. قال الزمخشري: "ومتاعا ومنفعة للمقوين للذين ينزلون القواء وهي القفر. أو للذين خلت بطونهم أو مزاودهم من الطعام. يقال: أقويت من أيام، أى لم آكل شيئا"([22]).
ولذات الأسباب قصد موسى شجرة الطور {إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى}[23].
لذلك استخدمها العرب لاستدراج الاضياف، فأكثروا في اشعارهم من ذكرها والاشادة بها لمحوريتها في إكرام الضيف والاحتفاء به.
قال الشاعر:[الطويل]
إِذَا أَبْــــــــصَــــــــــــــــرُوا نَـــــــــــــاراً يَـــــــــــقُــــــــــــــــولُــــــــــــونَ لَــــــيْــــــــتَــــــهَـــــــــــــــا
وَقَــــــــدْ خَـــــــصِـــــــــرَتْ أَيْــــــــــــــــدِيـــــــــهُــــــــــمُ نَــــــــــــارُ غَالِبِ([24])
ويقول الآخر: [الطويل]
وَمُــــسْــــــتَـــــــنْــــبِـــــــحٍ قَـــــــالَ الــــصَّـــــــــــدَى مِــــــثْــــــــــــلُ قَـــــــــوْلِــــــــــــــهِ
حَــــــــضَـــــــــأْتُ لَــــــــــهُ نَــــــــــاراً لَـــــــــهَـــــــــا حَــــــطَـــــــبٌ جَــــــــــــــــــــزْلُ
فَـــــقُـــــــــــمْــــــــــــــتُ إِلْــــــيــــــــــــــــهِ مُــــــسْـــــــرِعـــــــاً فَــــــــغَـــــــنِــــــمْــــــــتُـــــــــــــــــهُ
مَـــــــــخَــــــــــافَــــــــــــــــةَ قَــــــــــــــوْمِـــــــي أَنْ يَــــــفُـــــــــوزُوا بِــــهِ قَــبْلِ([25])
وقال الآخر: [الوافر]
لَــــــــــــهُ نَـــــــــــــــــارٌ تُـــــــــــــــــشَــــــــــــــــــــتـــــــــــــــــــــــبُّ بِــــــــــــــــــــــكُــــــــــــــــــــلِّ وَادٍ
إِذَا الــــــــــــــنِّــــــــــيــــــــــرَانُ أُلْـــــــــــبِـــــــــــسَــــــــــــــــتِ الْـــــــقِـــــــنَـــــــاعَـا([26]).
وقال آخر: [الطويل]
حَـــــضَــــــــأْتُ لَــــــــهُ نَـــــــــارِي فَـــــــــأَبْــــــــصَـــــــــــــرَ ضَــــــــــــــوْءَهَـــــــــــــــا
وَمَــــــا كَـــــــــادَ لَــــــــــــــــوْلاَ حَـــــــــضْــــــــــأَةُ الــــــــنَّـــــــارِ يُـــــــبْـــــــصِـــــــــــــــرُ
دَعَــــــــــتْــــــــــهُ بِـــــــــغَــــــــيْــــــــــــرِ اسْــــــــــمٍ هَــــــــلُــــــمَّ إِلَــــــى الْـــــــقِـــــــــرَى
فَـــــــــأَسْــــــــــــرَى يَــــــــــبُــــــــــوعُ الْأَرْضَ وَالــــــنَّـــــــارُ تُـــــــــــــــــزْهِـــــــــــــــــــرُ
فَــــــــلَــــــمَّــــــا أَضَــــــــــــاءَتْ شَــــــــخْـــــصَــــــهُ قُــــــلْــــــتُ مَـــــــرْحَـــبـــــــاً
هَــــــــــلُــــــــــمَّ وَلِلــــــــصَّـــــالِــــــــــــيــــــنَ بِــــــالــــنَّــــــــارِ أَبْــــــشِــــــــــــــرُوا([27])
وربما أمر أحدهم عبده بإيقاد النار وجعل جائزته -إن هي جلبت ضيفا- حريته، قال الشاعر: [الرجز]
أَوْقِــــــــــــــــــــــدْ فَـــــــــــــــــــــإِنَّ الَّلــــــــــــــــيْـــــــــــــــلَ لَـــــــــــــيْــــــــــــــــــــلٌ قُـــــــــــــــــــــــــــرُّ
وَالـــــــــــــرِّيـــــــــــــــحُ يَـــــــــــــا مُـــــــــــــــوقِــــــــــــــــــــــــدُ رِيـــــــــــــــــــحٌ صِـــــــــــــــــــــــــترٌّ
عَــــــــــــــلَّ يَـــــــــــــــــــــــــــرَى نَـــــــــــــــــــــــارَكَ مَـــــــــــــــــــــــــــنْ يَــــــــــــــــــــمُـــــــــــــــــــــــرُّ
إِنْ جَــــــــــلَــــــــــــــبَــــــــــــــتْ ضَـــــــــــــيْــــــــــفًــــــــــــا فَأَنْـــــــــتَ حُــــــــــرُّ([28])
- النزول في المكان العالي من أجل الأضياف
فقد كان العرب يفتخرون بالنزول في المكان العلي، ويأنوفون من النزول في المكان المنخفض، كل ذلك رغبة في الأضياف، وتشوفا لنزولهم.
قال الشاعر:[الوافر]
وَيَــــــــــــأْبـــــــــَى الـــــــــــــــــذَّمُّ لِـــــــــــــــــي أَنِّـــــــــــــــــــــــي كَــــــــــــــــــــــــــرِيـــــــــــــــــــــمٌ
وَأَنَّ مَــــــــــحَــــــــــــــــلِــــــــــــــــــيَ الْــــــــقُـــــــــبُــــــــــــــــــلُ الْـــــــــيَـــــــــــــفَــــــــــــاعُ[29].
وقال الآخر: [الطويل]
وَلَــــسْــــــــتُ بِــــــــــحَـــــــــــــلاَّلِ الـــــــــــــتِّـــــــــــلاَعِ مَـــــــــخَــــــــــــافَــــــــــــــــــــــةً
وَلَـــــــكِـــــــــــــنْ مَـــــــــتَـــــــى يَــــــسْـــــــتَــــــــرْفِــــدِالْـــقَـــــوْمُ أَرْفِــــــــــدِ([30]).
الاستماع والتحسس
الاستماع من أجل الأضياف وتحسس خبرهم وتفهم لغتهم حبا لهم:
فَـــــجَــــــاوَبَــــــــــهُ مُـــسْــــــــتَـــــــسْـــــــمِـــــــــعُ الــــــصَّــــــــوْتِ لِلْـــــــقِــــــــــرَى
لَــــــــهُ مَــــــــــعْ إِتْــــــــيَـــــــــانِ الْـــــــمُـــــــــهِـــــــبِّــــــــيـــــــــــنَ مَـــــــــطْـــــــــعَــــــــــــــــــمُ
يَـــــــكَــــــــادُ إِذَا مَــــــــــا أَبْـــــــصَـــــــــرَ الـــــضَّـــــيْــــــفَ مُــــــــقْـــــــبِـــــــــــــــلاً
يُـــــــكَــــــــــلِّــــــــمُـــــــــــهُ مِــــــــــــنْ حُـــــــــبِّــــــــهِ وَهْـــــــــوَ أَعْـــــــجَــــمُ([31]).
خاتمة
تلكم كانت نتفا وطرفا من تعلق العربي بضيفه وتفننه في إكرامه وتبجيله، وهي تعكس جانبا من مكارم الإخلاق وجميل الشيم لديهم، ومما علمه الله منهم من الطيب والرفعة، فجعلهم مستودعا ومكانا لآخر خطاب إلهي موجه إلى اهل الأرض، وما من شك أنه يمثل لونا من ألوان الحياة الجميلة، ومعلما من تقاليد الأقدمين جرفه واقع المدنية والتحضر، فلا تكاد تسمع له ذكرا ولا ترى له أثرا؛ لذلك لزم التذكير!.
هوامش المقال
[1]- موطأ مالك رواية يحيى بن يحيى الليثي، كتاب صفة النبي صلى الله عليه وسلم، باب ما جاء في الطعام والشراب، ج2، ص929، رقم:1660.
[2] - المحلى بالآثار، ج8، ص146.
[3]- ذكر الجاحظ بعض نكت بخلهم في كتاب البخلاء، ص38.
[4]- صحيح البخاري، ج1، ص4.
[5]- حماسة أبي تمام مع شرح المرزوقي، ص111.
[6]- المصدر السابق نفسه، ص1103.
[7]- المصدر السابق نفسه، ص1091.
[8]- حماسة أبي تمام مع شرح المرزوقي، ص1102.
[9]- المصدر السابق نفسه، ص1051.
[10]- المصدر السابق نفسه.
[11]- المصدر السابق نفسه.
[12]- حماسة أبي تمام مع شرح المرزوقي، ص1055.
[13]- كتاب الخلاء للجاحظ، ص280.
[14]- ديوان الحماسة مع شرحه، ص733.
[15]- المصدر السابق نفسه، ص1100.
-[16] المصدر السابق نفسه، ص1206.
[17]- كتاب البخلاء للجاحظ، ص304.
[18]- ديوان الحماسة مع شرحه، ص1107.
[19]- المصدر السابق نفسه، ص1155.
[20]- المصدر السابق نفسه، ص1099.
[21]- سورة الواقعة: الآية: 73.
[22]- تفسير الزمخشري = الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل (4/ 467).
[23]- سورة طه: الآية10.
[24]- سمط اللآلي في شرح ديوان القالي، ج1، ص292.
[25]- ديوان الحماسة مع شرحه، ص 1098.
[26]- المصدر السابق نفسه، ص1115.
[27]- المصدر السابق نفسه1152.
[28]- نهاية الأرب في فنون الأدب، ج3، ص208.
[29]- ديوان الحماسة مع شرحه، ص1104.
[30]- صبح الأعشى في صناعة الانشاء، ج2، ص295.
[31]- ديوان الحماسة مع شرحه، ص1106.