نسائم الإشراق، الحلقة رقم (1736) 19 نوفمبر2021م،13 ربيع الثاني 1443هـ، فقه الوسطية الإسلامية والتجديد، معالم ومنارات، الشيخ يوسف القرضاوي، الحلقة رقم (10)

فهي أشبه بالنجاح بدرجة ممتاز أو جيد جدا، بخلاف الوسط بالمعنى الذي أشرنا إليه، فإنه أشبه بدرجة مقبول. 
ومن خلال ما سجّلنا هنا من كلام اللغويين، وشعر الشعراء، وتعليقات الأدباء والعلماء: يتبيّن لنا: أن معنى الوسط – ومنه: الوسطية – في الأساس، هو الوجود في المكان الوسط، بعيدا عن الطرفين أو الأطراف، لأن الوسط محمي ومحروس ومحاط من الجانبين، ولا يتعرّض لما يتعرّض له الطرف باستمرار من خطر وآفة، وما عدا ذلك، مثل: العدل، والخيار، فهو – كما قال الزمخشري – مجاز، متفرع عنه، ومترتب عليه. 
وهذا المعنى الذي تجلى لنا من خلال هذه الرؤية اللغوية البصيرة، هو لب المعنى الشرعي الإسلامي للوسطية، الذي اخترناه، والذي تشهد له كل الأدلة الشرعية المعتبرة من كتاب الله وسنة رسول الله، كما سيتّضح لنا ذلك من خلال الفصل القادم. 
مفهوم الوسطية كما أدعو إليها:
بعد أن اتضح لنا مفهوم الوسطية من الناحية اللغوية، يجب علينا أن نبيّن ما نريده بالوسطية في المفهوم الشرعي أو الإسلامي  . 
 ومن قديم قد تعرّضت لبيان مفهوم "الوسطية" وخصائصها ومظاهرتجليها، وذلك في كتابي "الخصائص العامة للإسلام" ،باعتبار  "الوسطية" من أبرزخصائص الإسلام، ويُعبر عنها أيضا ب"التواز ن" أو "الاعتدال"، ونعني بها: التوسط أو التعادل بين طرفين متقابلين، بحيث لا ينفرد أحدهما بالتأثير، ويطرد الطرف المقابل، وبحيث لا يأخذ أحد الطرفين أكثر من حقه، ويطغى على مقابله ويحيف عليه.
مثال الأطراف المتقابلة: الربانية والإنسانية، الروحية والمادية، الأخروية والدنيوية، الوحي والعقل، الماضوية والمستقبلية، الفردية والجماعية، الواقعية والمثالية ،الحقوق والواجبات، الثبات والتغيُّر،النص والاجتهاد، الظاهرية والمقاصدية، الأثروالرأي ،وما شابهها . 
ومعنى التوسط أو التوازن بينها: أن  يُفسح لكل طرف منها مجاله، و يُعطى حقه }باِلْقِسْطِ} أو {باِلْقِسْطَاسِ الْمُسْتقِيمِ}، بلا وكس ولا شطط، ولا غلو ولا تقصير، ولا طغيان ولا إخسار. كما أشار إلى ذلك كتاب الله بقوله:  {وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ ألَاَّ تطَغَووْا فِي الْمِيزَانِ  وَأقَيِمُوا الْوَزْنَ باِلْقِسْطِ وَلا تخُسِرُوا الْمِيزَانَ}. [الرحمن:7-9]. 
فالوسطية هي التي تقيم الوزن بالقسط بين المتقابلات، بلا طغيان ولا إخسار .بحيث يمكن الجمع  بينها، دون أن يطغى أحد المتقابلين على الآخر، كالذي يجمع بين حسنتي الدارين، الدنيا والآخرة، والذي يجمع بين النورين: الوحي  والعقل {نوُرٌ عَلَى نوُرٍ} [النور:35].