يعد الإمام البنا رحمه الله واحدا من أكثر الشخصيات التي شغلت العالم الإسلامي والعالم كله في القرن الماضي و في هذا القرن و قد أسس مدرسة فكرية وتربوية و دعوية و إصلاحية هي اليوم من أبرز المدارس الإسلامية و أكثرها انتشارا و تأثيرا و جانب التربية بصفة خاصة هو أحد الجوانب الأساسية في فكر و مدرسة حسن البنا حيث تعتبر التربية عند البنا الأساس والركن الذي تقوم عليه عملية بناء الحركة الإسلامية وتأسيسها بل عملية بناء الأمة كلها و جعل إصلاح الفرد المسلم هو الهدف الأول قبل الأسرة والمجتمع والدولة و أستاذية العالم و جعل أول واجبات العضو العامل أن يبدأ بإصلاح نفسه حتى يكون فردا مسلما و خصص لذلك منهجا و حدد له وسائل و التزامات !
و الملاحظة التي استوقفتني كثيرا في منهج " التربية عند الإمام البنا " أنه منهج يجمع بين التصوف والسلفية و هذا الجمع ليس سياسة براكماتية تهدف للمزج بين المتناقضات بل هو منهج دقيق واضح له تصوره الخاص وملامحه في التربية و التدين و هو لا يقترب من التصوف إلا ليفترق عنه ولا يلتقي مع السلفية إلا ليبتعد عنها في بعض الفرعيات والٱراء و سأوضح ذلك في الملاحظات التالية :
_ أخذ الإمام من التصوف حقيقته ولبه و اعتبر أن جذور نشأة التصوف جذورا إسلامية ترتبط بظروف التحول الإقتصادي الذي عرفته الأمة بعد انتشار الفتوحات و إقبال الدنيا بفتنتها وزينتها على المسلمين و ما اقترن بذلك من تغير في نمط الحياة وترك للتقشف و إقبال المسلمين على الدنيا يتنعمون بخيراتها ونعيمها في اقتصاد أحيانا و في سرف أحيانا و هي الظروف التي ربط بها البنا ظهور التصوف باعتباره علما من العلوم الإسلامية و طريقة زهدية تربوية الهدف منها علاج النفوس من أمراضها و تنقية القلوب و لكن البنا لا يقتصر في تقويمه للتصوف وتتبعه لتاريخه على هذه الملاحظة بل يتبعها بملاحظات أخرى يقرر في بعضها أن التصوف قد اقترن بالفلسفة والمواريث اليونانية التي لا علاقة لها بالإسلام و أن الصوفية لو بقيت دعوة زهدية تربوية لكان ذلك خيرا لها
وهو مع ذلك وقبله يقر بأن شيوخ هذه الطائفة الأولين قد بلغوا في علاج القلوب مرتبة عجز عنها غيرهم و هذا ما يوضح الخلفية الصوفية في المنهج التربوي والروحي عند الإخوان المسلمين وبجانب هذه النزعة الصوفية توجد نزعة سلفية لدى الرجل تتمثل في حديثه عن مفهوم السلفية وضرورة الرجوع للفهم الصحيح الصافي للإسلام والبعد عن البدع و هذه السلفية تجلت أيضا في نقد الرجل للتصوف وما شابه واختلط به و دعوته لتنقيته و إصلاحه و هذا ما يجعل الرجل صوفيا وسلفيا في ٱن واحد و إن كان تصوفه تصوفا روحيا وزهديا أكثر منه انتماء مطلقا للتصوف و قناعة مطلقة بفلسفته و سلفيته أيضا هي سلفية تجديدية و حديث عن إحياء الأصول و تنقية الفروع و تهذيبها و ليست نزعة مذهبية و طرحا يعارض التصوف مطلقا ويعتبره العدو اللدود للدين وللسنة .
_ نتقدم أكثر فنجد البنا في نص ٱخر من أهم نصوصه يعبر عن نظريته التربوية الفريدة في الجمع بين الروحانية الصوفية والعقلانية السلفية فيقرر الإيمان بالمعرفة القلبية والروحية التي تتمثل في الإلهام مبينا أن للإيمان و المجاهدة نور وحلاوة يقذفهما الله في قلب من يشاء من عباده ويقرر بعد ذلك أن هذه المعرفة ليست معرفة يقينية و لا تعتبر إلا بشرط عدم اصطدامها بقاعدة شرعية وأن الكشف ليس من أدلة الأحكام وإن كان موجودا ومقبولا بشروط و في هذا نقد لبعض الأدبيات والمسلمات التي دخلت التصوف مع شيء من الروحانية والرقة والتصوف يحول دون إنكار هذا اللون من المعرفة و معارضته مطلقا
_ من الناحية العملية اعتمد البنا في تربيته منهجا يتميز عن السلفية و طريقة الفقهاء في اهتمامهم بالأعمال الظاهرة فقط و الأحكام و يتميز أيضا عن الصوفية التي تهتم بالحقائق و الباطن دون تقيد في بعض الأحيان بالأعمال والسنن والطرق المشروعة فكان منهج البنا يقرر أن الدين ليس هذه الصور الظاهرة و إن الصلاة ليست هذه الأعمال الظاهرة و لكن مع ذلك لن يجد من يسلك طريق الدين ويختاره منهجا في تزكية النفوس ويفضله على الفلسفة وغيرها من الطرق شيئا غير وسائل الدين وطرقه والعبادات فهي أول وسائل التزكية ولذا بين الإمام رحمه الله بعد أن بين أن الدين هو أفضل الطرق لعلاج النفوس أن الصلاة هي هي الوسيلة الأولى في تزكية النفوس فكأن العلاج في فكر البنا التربوي لا يكون بترك الإعتماد على الصلاة في التربية ولا في ابتكار طرائق و فلسفات ولا في أو تغليب الأشعار و الحماس بل هي الصلاة و الأعمال المشروعة والسنن ولكن أي صلاة ؟ الصلاة التي يتحقق فيها الخشوع و التي تتحقق بها الصلة بالله الصلاة التي هي تضرع وتواضع و تمسكن و تأوه والتي جعلت الجنيد رضي الله عنه بعد وفاته يجيب أحد الذين سألوه عن حاله في المنام : فنيت الإشارات وغابت العبارات و ما نفعنا إلا ركيعات كنا نركعها في جوف الليل .
و كذلك سائر الأعمال فإن أهل الفقه الظاهر كثيرا ما اقتصروا على ظاهر الأعمال دون حقائقها و أهل الباطن والتصوف يبالغون أحيانا فيزيدون على الصيام جوعا وعلى الإعراض عن اللغو صمتا فيدفعهم التعلق بالحقائق إلى الزيادة على المشروع ولو قليلا والخير في ما جاء به الشرع من الأنظمة و الأقوال و الأفعال ولذا لم يبالغ البنا رحمه الله في نقد الصمت و الجوع عند الصوفية وهو نفسه مر بتلك التربية وجربها ولكنه أشار إلى أن في ما بينه الشرع كفاية مع بيانه لأصل هذه الأمور والمقصود منها عند القوم فأصل الصمت الإعتراض عن اللغو و أصل الجوع الصوم
فالرجل من خلال استقراء شامل لمقولاته و تتبع لٱثاره يمكن الجزم بأنه يدعو لمنهج يعتبره المنهج المتوازن في التربية وهو المنهج الذي يهتم بالحقائق و المقاصد التربوية في ضوء الوسائل الشرعية والعبادات المشروعة فسائر الوسائل التعبدية من تلاوة وذكر وعبادة وصلاة هي طرق التربية ولكن لا بد أن ننظر للحقائق والمقاصد التربوية فتلاوة القرءان يجب أن تكون تلاوة مؤثرة مقرونة بتدبر
و تفاعل مع الوحي و عيش دائم مع كلام الله و القيام بالليل إنما يفيد أيضا حين يحقق هذا المقصد الروحي و سائر الوسائل كذلك فهي مجرد زاد على نحو ما يبين الأستاذ مصطفى مشهور في " زاد في الطريق "
و أيضا الصلاة و الصيام و سائر العبادات تكون وسائل لتحقيق مقاصد تربوية و بلوغ مقامات لا مجرد أعمال ظاهرة ينتهي أثرها مع انتهاء المسلم من القيام بها
لقد اهتم البنا رحمه الله بالجوهر و لكنه التزم بالشكل أيضا و يمكن القول إن نظريته التربوية نظرية تركز على اللب والجوهر أكثر من الشكل والمظهر لأن عمل القلب عنده أهم من عمل الجارحة و أنها مع ذلك نظرية ملتزمة أساسها الإتباع و السنية و لا تعبير يلخص لنا هذه النظرية أكثر من تعبير الإمام نفسه حين قال : نحن دعوة سلفية و حقيقة صوفية.