نسائم الإشراق، الحلقة رقم (1803) 26 يناير2022م، 22جمادى الآخر 1443هـ، فقه الوسطية الإسلامية والتجديد، معالم ومنارات، الشيخ يوسف القرضاوي، الحلقة رقم (77).

4-تصور خاطئ رابع:

 ومن التصوّرات الخاطئة أو المفاهيم المردودة هنا: توهم بعض الناس: أن الوسطية تعني في بعض الأحيان: التنازل عن جانب السمو والترقّي، والرضا بجانب التنزّل إلى الأدنى والأسفل، على نحو ما يقال: نصف نصف، أو القبول لأنصاف الحلول، اللقاء في منتصف الطريق، ويسمي بعض الناس هذا الاتجاه في سلوك التدني "واقعية" أو "عملية"، كما يسمى الاتجاه الآخر،"مثالية" أو "خيالية" أو نظرية.

فإن كان هذا هو "الوسط" عند بعض الناس، من أصحاب الهمم المنحطة، والعزائم الواهية، فهذا وسطهم هم، وليس وسطنا أو وسطيتنا، التي ندعو إليها، ويدعو إليها الإسلام. وهذا وسط أشبه بالا نصا ف "الذي قاله الشاعر فيمن يخطب امرأة ويسأل الناس عنها، فيقولون له: إنها "نصف"! فيقول الشاعر هنا:

                   إذاْ خطبتْ قالوا إنهاْ نَصَفْ        فإنْ أحسنْ نصفيهاْ الذيْ ذهبا!

وهذا بعيد جدا عن نظريتنا في "الوسطية" الملازمة ل"الخيرية". فمن المتفق عليه بين مختلف العلماء والمحقّقين في أصناف العلوم الإسلامية، من أصول وفروع، ومن معارف شرعية ولغوية، ومن عقلية ونقلية: أن خير الأمور أوساطها. وبعضهم اعتبر هذه الجملة حديثا نبويا، ولكن لفظها لم يصح، إنما صحّ معناها ومفهومها واستفاض بمحكمات النصوص في القرآن والسنة.

إن القرآن – وهو مصدرنا الأول للتشريع والتوجيه – يدعونا أبدا أن نرنو ونتطلع إلى "الأحسن" لا إلى مجرد "الحسن"، كما قال تعالى: {لِيَبْلوَكُمْ أيَكُّمْ أحْسَنُ  َعَمَلا}  [هود:7] ،[الملك:2]. وقال تعالى: {وَاتبِّعوُا أحْسَنَ مَا أنْزِلَ إلِيْكُمْ مِنْ رَبِ كُمْ}

[الزمر:55].

كما مدح الله تعالى أولي الألباب من عباده الذين هداهم ورضي عنهم، فقال:

{الذِّينَ يَسْتمِعوُنَ الْقَوْلَ فيَتَبِّعوُنَ أحْسَنَهُ أوُلَئِكَ الذِّينَ هَداَهُمُ اللَّه وَأوُلَئِكَ هُمْ أوُلوُالْألَباَبِ} [الزمر:18]. كما علم القرآن المسلم أن يتوق دائما إلى "التي هي أحسن"، في جدال المخالفين، وفي دفع السيئة، وفي قربان مال اليتيم.

فهذا هو القرآن، وأما السنة، فهي على نفس النهج، فبقول الرسول الكريم: "إذا سألتم الله فاسألوه الفردوس، فإنه أوسط الجنة وأعلى الجنة،وفوقه عرش الرحمن".[رواه البخاري في الجهاد والسير(2790)، وأحمد في المسن (8474) عن أبي هريرة.].

فالرضا بالدون، وبالحد الأدنى باستمرار، ليس من شأن المؤمن الذي يحب معالي الأمور ويكره سفسائها.